اليقين ضد الشك (10)
عبدالفتاح آدم المقدشي
بسم الله والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاعلم أن استقامتك على الطريق المستقيم ليست مفروشة بورودٍ، بل أمامك مِحَنٌ وابتلاءات وفِتَنٌ؛ ليعلم الله بعلمِ الظهور الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، ومن الذين يعبدون الله حقَّ عبادته من الذين ضعف يقينهم وعبدوا الله على حرف، فإن أصابهم بخيرٍ اطمأنوا به، وإن أصابهم بفتنةٍ انقلبوا على وجوههم؛ ولذلك قال - تعالى -: ï´؟ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ï´¾ [العنكبوت: 1 - 3].
وإن كان الله يحب عباده وأولياءه وينصرهم ويؤيدهم - كما أسلفنا - ولكن قد تقع ابتلاءاتٌ لِحِكَمٍ الله يعلمها؛ كتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطَّيِّب، وكالتأديب والتنبيه للأخطاء، وكتحذيرٍ أو رفعٍ من عقابٍ أعظم…إلخ.
ثم اعلم أنه لا يدل ابتلاء الله لعباده المؤمنين - ولو توالت عليهم مِحَن الدنيا؛ من قتل وأَسْر وتشريد لأجل تمسكهم بدينهم - إلا على محبَّتِه لهم؛ وذلك ليدفعهم بذلك عن عذاب الله الأكبر يوم القيامة[1]، أما الكفار ومن شاكلهم، فسيؤخِّر الله لهم العذاب إلى يوم القيامة؛ ليجدوا هنالك جزاءهم الذي يستحقونه، ولذلك قال - تعالى - بعدما تحدَّث عن المؤمنين الذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم، وأُوذوا في سبيل الله، وقاتلوا وقُتلوا: ï´؟ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾ [آل عمران : 196 - 197].
وذلك لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإنما العِبْرة في المآل يوم القيامة، ولذلك وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تُعلِّم المؤمنين أن يتلقَّنوا هذا الدرس، ويصبروا كما صبر الأوائل من الصالحين؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ï´¾ [البقرة : 214].
بل اعلم أن الشيء الوحيد الذي يُظهر صدق إيمانك هو الصبر على البأساء والضرَّاء؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾ [البقرة : 177].
بل أخبر الله - سبحانه وتعالى - أن من طبيعة المؤمنين ألا يهِنوا ولا يستكينوا لما أصابهم في سبيل الله، بل إنما همُّهم أن يغفرَ الله لهم ذنوبَهم ويدخلَهم الجنة، وأن ينصر عباده في الدنيا ويرفعَهم؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ï´¾ [آل عمران : 146 - 147].
بل علَّق الله - سبحانه - دخول الجنة بالجهاد مع الصبر، أما من جاهد بلا صبرٍ، فيُخشى ألا يدخل بجهاده الخالي من الصبر الجنة؛ لأنه قد ينتحر عند الجراحة الشديدة، وقد لا يثبت عند الأَسْر، ويختار الدنيا على الآخرة... إلخ؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [آل عمران : 142].
ثم لا بد أن تعلم أنَّ كلَّ عباد الله المؤمنين معرَّضين لهذا الابتلاء والفتنة؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ï´¾ [العنكبوت : 1 - 2].
بل كِلا الخير والشر فتنة؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ï´¾ [الأنبياء : 35]، وقال: ï´؟ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ï´¾ [الأعراف : 168].
فالعِبرة هي كيفية تعاملك بالخير الذي أنعمه الله عليك، هل شكرت الله شكرًا ينبع من القلب، ويبعث اللسان بالشكر، والجوارح بالعبادات مع ترك السيئات؟ وكيف تعاملت بالشر؟ هل فزعت ويئست من رحمة الله، وتماديت بالكفر والطغيان والعصيان؟ أو رجعت إلى الله راجيًا منيبًا صابرًا؟
ومن السُّنن المجتمعية أن يبتلي الله أعظم عباده إيمانًا ويقينًا؛ كما جاء في الحديث عن مُصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أي الناسِ أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياءُ ثمَ الأمثل فالأمْثل، فيُبْتَلَى الرجل على حسب دينه، فإِنْ كان دينه صُلْبًا، اشْتَد بلاؤُه، وإنْ كان في دينه رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على حسب دينه، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد؛ حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أبي هريرةَ، وأُخْت حُذيفة بن اليمان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أَي الناس أَشَد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمْثَل فالأمْثل))؛ صحيح الترمذي.
لذلك؛ كانت مِحَنُ الأنبياء أشدَّ مِن غيرهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) أو كما قال؛ أي: كانت الحُمَّى مضاعفة عنده، بحيث تعادل الحُمَّى التي يُصاب بها - بأبي وأمي - بالحُمَّى التي تصيب رجلين من الصحابة.
وأيضًا في الحديث: ((إذا أحب الله عبدًا، عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا كره عبدًا، أخَّر له العقوبة في الآخرة؛ حتى يوافي به))، أو كما قال.
وقد ابتُلي الشيخان في الإسلام: الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، فصبرا لله، فكان في صبرهما لأجل الحق نجاة عظيمة للمسلمين، ولأهل السُّنة والجماعة خاصة، حتى إن بعض العلماء في عصر شيخ الإسلام ابن تيميَّة أرسلوا إليه رسالة وهو في حبسه نصحوه بالترفُّق للخصم؛ ليخرج مما هو فيه، فردَّ إليهم رسالة مختصرة مفيدة جامعة، يُذكِّرهم بحديث: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
حتى إنه كان يقول: بِمَ ينقم بي أعدائي؟! فإن في قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وعلمي في صدري، وكان يستثمر وقته في السجن بكتابة الرسائل، فلمَّا منعوه، بدأ يكتب بالفحم على الجدران، فلمَّا منعوه، وجد من ذلك وجدًا شديدًا، ثم توفَّاه الله، فرحمه الله ورضيه الله وأرضاه، وكثّر الله من أمثاله في المسلمين.
أقسام الابتلاء:
1- الابتلاء لأجل تكفير السيئات ورَفْع الدرجات، لذنوبٍ قد اقترفها المرءُ؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ حتى الشوكة يشاكها، إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)).
2- الابتلاء لأجل التأديب والتمحيص، وتصحيح المسار لجماعة معينة، وليتميز المنافق من المؤمن؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ï´¾ [آل عمران : 141].
3- الابتلاء بمصيبة عامة لأجل ذنوبٍ منتشرة عامة؛ لأجل التوبة والرجوع إلى الله؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ï´¾ [الروم : 41].
4- الابتلاء لأجل إظهار إيمان العبد وصبره؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ï´¾ [العنكبوت : 1 - 2]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ï´¾ [البقرة : 177]، وقال - تعالى -: ï´؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ï´¾ [البقرة : 214].
وقال - تعالى -: ï´؟ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ï´¾[البقرة : 155].
5- الابتلاء بحمل الأمانة: وهي التكاليف التي وضعها الله في عاتق كلِّ إنسان وجِنّ، وهي التي لأجلها خَلَقَ الثَّقَلَين؛ قال - تعالى -: ï´؟ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ï´¾ [الملك : 2]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ï´¾ [هود : 7].
وقال - تعالى -: ï´؟ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ï´¾ [الإنسان : 2].
6- ابتلاء المسلمين بسماع الأذى من المشركين، بل أن تأتي منهم فِتَنٌ، وهي من أعظم الفتن؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ï´¾ [آل عمران : 186]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ï´¾ [الأنفال : 39].
7- ابتلاء الناس بعضهم ببعضٍ؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ï´¾ [الفرقان : 20].
ومن ذلك ابتلاء الغني بالفقير، والفقير بالغني، وابتلاء الزوجة بزوجها، أو العكس، وابتلاء الأب بالأبناء، أو العكس، أو ابتلاء الحكومة برعاياها، أو العكس، وهَلُمَّ جرًّا.
علاج الابتلاء:
1- وجوب التيقُّن بقدر الله الذي لا مَفَرَّ منه.
2- الصبر الجميل الذي لا شكاية معه.
3- أن يتعلق بالله وحدَه في السرِّ والعَلن، وفي السراء والضراء، وفي الرغبة والرهبة، ويفوِّض أمره إلى الله.
4- أن يتذكَّر بيت الحمد الذي أعدَّه الله لكلِّ صابرٍ حامدٍ لربِّه في كل الأحوال.
5- أن يرزقه الله الثبات وقوة العزيمة في الدين، وفي كل الأحوال؛ لأن في ذلك تربيةً وقوة للجأش؛ بسبب التوكُّل والثقة العظيمة بالله.
6- أن يرزقه الله - إذا قال عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون - الصلوات والرحمة والهداية.
ـــــــــــــ
[1] هذه الحقيقة ذهل عنها كثير من الناس؛ حيث يقيسون الحق بالنصر، فإذا فقدوا وتوالت بهم المِحَن، انحرفوا عن المنهج السوي، وبحثوا عن طُرق ملتوية، أو تمكين مؤقَّت كما يسمُّونه؛ ليستعجلوا بها النصر، وهيهات، وأنى لهم ذلك؟! بل بعَّدوا الشُّقَّة لأنفسهم في ذلك، وضلُّوا عن الطريق المستقيم، ولقد قال الشيخ "المودودي" في كتابه "منهاج الانقلاب الإسلامي" كلامًا ملخصه: لو قُتلتم كلكم صبرًا، كان خيرًا لكم من أن تسلكوا هذه الطرق الملتوية لإقامة الدولة الإسلامية؛ أي: طُرق القبلية والقومية والوطنية والحزبية؛ من ديمقراطيَّة، وماركسيَّة، وغيرها، ولقد صدق الشيخ في قوله هذا، وقد قال - تعالى -: ï´؟ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ï´¾ [النحل : 30]، ولأن الله استعبدنا بالحق ولم يستعبدنا بأن نعبده بالباطل، وانظر قوة الإيمان واليقين لسحرة فرعون؛ حيث كانوا قبل قليلٍ يحلفون بعِزَّة فرعون، ولكن لما علموا الحق، لم يمنعهم شيءٌ ولو ماتوا لأجله، وانظر قوة الإيمان واليقين للجن الذين استمعوا لقراءة النبي كيف هرعوا في تقبُّله والدعوة إليه، وانظر أيضًا قوة الإيمان واليقين لأهل الأخدود؛ حيث اختاروا الحق والآخرة من أيِّ شيءٍ نسأل الله السلامة والعافية والثبات على طريقه الحقِّ حتى الممات.