الموضوع: اليقين ضد الشك
عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 22-01-2020, 03:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اليقين ضد الشك

اليقين ضد الشك (8)


عبدالفتاح آدم المقدشي




بسم الله والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.


اعلم أن الاستقامة لا تُنال إلا بالإيمان الكامل الجازم المصاحب باليقين القاطع، ولذلك لمَّا سأل رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ُيخبره بأمرٍ يتشبث به ولا يسأل بعده أحدًا، قال له: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).

فبدأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان بالله كما ترى.

وهكذا بدأ الله بالإيمان قبل الاستقامة، والدليل على ذلك قوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ï´¾ [فصلت: 30]؛ أي: قالوها مؤمنين به وعاملين بما يقتضي التوحيد، وليس كما تُردِّد الصوفيَّة كلمة "الله الله" بدون العمل بما يقتضي التوحيد.
وقال - تعالى -: ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ï´¾ [الفاتحة: 5 - 6].

فقدَّم الله قبل طلب الاستقامة على الصراط المستقيم بعبادة الله وحدَه، والاستعانة به وحدَه في كلِّ الأمور، فمَن حقَّق هذين الشرطين، فهو المهتدي على الصراط المستقيم حقًّا كما أراده الله منَّا.

فالذين لا يُطبِّقون شرع الله خرجوا من جملة المهتدين على الصراط المستقيم مثلاً؛ لأن مفهوم العبادة ليست محصورة بأداء أركان الإسلام الخمسة فحسب - كما يتوهَّمه كثيرٌ من الناس - بل العبادة تشمل المعاملات، والسياسة الشرعيَّة الإسلاميَّة، والسلم والحرب، والإعلام والتعليم، والإحسان إلى الخَلق، والصلة والبِر والعدل ...إلخ، بل العبادة أيضًا تشمل أمور حياتنا العادية كلِّها: من الأكل والشرب والنوم والجِماع لمن نوى الأجر واحتسب؛ قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "وأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي".

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجِماع: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، وذلك لمن نوى الاستعفاف والحَصانة.

وقد يحصل المرء من لعب الكرة أجرًا إن نوى في ذلك تَدَرُّبًا للجهاد، مع الالتزام بالحِشمة والأدب، والله أعلم.

وهكذا يكون حال الذين لا يخلصون العبادة لله وحدَه، ولا يستعينون بالله وحدَه، ولا يتوسلون إلى الله بالطُّرق المشروعة من جملة الذين خرجوا عن الاهتداء على الصراط المستقيم، كما هو ظاهر في سياق الآية.

حتى كان شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - يذكر مع هذه الآية قوله - تعالى -: ï´؟ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ï´¾ [هود: 123]؛ لأن الأولى: عبادة مع الاستعانة بالله وحدَه، والثانية: عبادة مع التوكُّل على الله وحدَه.

وأرى أن القاسم المشترك بينهما: هو قوة التيقُّن بإفراد الله بالعبادة وحدَه؛ فلا يمكن لفاقد اليقين أن يكون موحِّدًا ولا عابدًا لله وحدَه حق العبادة، ولا مستعينًا بالله وحدَه، ولا متوكِّلاً على الله وحدَه، كما لا يمكن أن يهتدي على الصراط المستقيم؛ لشدة ارتيابه وعدم وثوقه بالله وحدَه - جلَّ جلاله.

قال - تعالى -: ï´؟ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ï´¾ [التوبة: 109 - 110].

قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: ï´؟ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ï´¾؛ أي: شكًّا ونفاقًا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقًا في قلوبهم، كما أُشرب عابدو العِجْل حُبَّه، وقوله: ï´؟ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ï´¾؛ أي: بموتهم. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسُّدي، وحبيب بن أبي ثابت، والضحَّاك،وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف: ï´؟ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ï´¾؛ أي: بأعمال خلقه، ï´؟ حَكِيْمٌ ï´¾ في مجازتهم عنها من خيرٍ وشرٍّ.

وقال القرطبي - رحمه الله -: قال سفيان: إلا أن يتوبوا، وقال عِكْرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبدالله بن مسعود يقرؤونها: "ريبة في قلوبهم ولو تقطَّعت قلوبهم"، وقرأ الحسن، ويعقوب، وأبو حاتم: ï´؟ إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ ï´¾ على الغاية؛ أي: لا يزالون في شكٍّ منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيَّنوا.

وسبب نزول هذه الآيات: هو أن قومًا من المنافقين بنوا مسجدًا للضرار، وليُفرِّقوا جموع المسلمين وليُخطِّطوا من خلاله شرورهم ومؤامراتهم، فأَعْلَمَ الله نبيَّه بحقيقة هذا المسجد وبنواياهم الخبيثة، فأمره بهدمه، فاستراح المسلمون من كيدهم، وعاقب الله الظالمين بالشكِّ أو الريبة والنفاق الدائمَيْن؛ حتى تتقطَّع قلوبهم بالموت إلى يوم القيامة.

وهكذا سيكون عقاب كلِّ مَن يريد بالمسلمين كيدًا لتفريقهم ولتقطيع أوصالهم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وقد قال - تعالى -: ï´؟ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ï´¾ [الأحزاب: 62]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ï´¾ [الأعراف: 58].


ومن خلال قراءة هذه الآيات وأقوال العلماء، يتبيَّن لك الفرق الشاسع بين من أسَّس بنيانه على أساسٍ من التقوى واليقين ورضوان من الله، ومن أسَّسه بنيانه على شفا جُرُف هار فانهار به في نار جهنم، مع ما يتمتع الأولون بالطمأنينة والسكينة والسعادة في الدارين، ويُعاني الآخرون الريبة والقلق والكآبة إلى أن تتقطَّع قلوبهم بالموت، ويستيقنوا ويتبيَّنوا الحقيقة هناك غدًا يوم القيامة ما كان ينتظرهم من العذاب الأليم بأعينٍ حِدادٍ، ولاتَ حينَ مناص.

إذا فلا تعجب - أيها القارئ الكريم - إذا كرَّس بعض العلماء فيما جاء في هذه الآية العظيمة: ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5]، فألَّفوا لأجلها كتابًا مكوَّنًا من مجلدين، وهو "مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين"؛ حتى قالوا: جمع علوم الأولين بالقرآن، وجمع علوم القرآن بالفاتحة، وجمع علوم الفاتحة بقوله - تعالى -: ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5].

ولذلك؛ تلاحظ أن الإيمان يتقدَّم عن كلِّ شيءٍ، حتى الجهاد في سبيل الله؛ إذ هو الأساس في كل الأمور التعبدية الظاهرة والباطنة، وفي جميع الأحوال، وقد قال – تعالى-: ï´؟ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ï´¾ [الحديد: 19]، فقدَّم الله هنا الصديقين على الشهداء كما ترى، كما قدَّم في سورة النساء عند قوله - تعالى -: ï´؟ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ï´¾ [النساء: 69].

وقد يجمع بعض المؤمنين بين الصفتين، كما يقتضي ذلك إيمانهم، فتكون درجاتهم متفاوتة على قدر إيمانهم، والله أعلم.

وقال - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ï´¾ [الصف: 10 - 11]، وقد قدَّم الله أيضًا هنا الإيمان على الجهاد كما ترى.

وهكذا حرَّض الله المؤمنين على الجهاد والقتال في سبيل الله بشرط أن يشروا الحياة الدنيا بالآخرة؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ ï´¾ [النساء: 74]؛ لأن الذي في قلبه طمع للدنيا لا يمكن أن يقاتل كما ينبغي؛ حتى كان سبب هزيمة غزوة "أُحد" إرادة بعض الناس في الدنيا: كجمع الأموال ونحو ذلك، فأنزل الله: ï´؟ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ï´¾ [آل عمران: 152]، وكان للصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك درس لم ينسوه بعدها أبدًا.

وهذه الإرادة هي التي تزعزع الإيمان واليقين في القلوب؛ حتى تمكّن الشيطان منهم بأن زلزل أقدامهم بما كسبوا، والدليل على ذلك قوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ï´¾ [آل عمران: 155].

وأيضًا بسبب هذه الإرادة الضعيفة في الدنيا، تجعل الإيمان واليقين يتزعزع إلى درجة أن النفس الأمَّارة بالسوء التي بين جنبي المرء تتمكَّن من صاحبها بأن تُوقعه فيما لا يُحمد عُقباه، والله المستعان.

وقد كان نبيٌّ من الأنبياء إذا أراد أن يغزو الكفار، يقول: لا يتبعني من نكح ولم يبنِ بعد، ولا من بنى بيتًا ولم يكمله بعد...إلخ؛ وذلك لأن نفسيَّة مثل هؤلاء من الناس ستكون مشوشة، إلا من رَحِم الله، وجعل إيمانه ويقينه غالبًا منصورًا ومؤيَّدًا من قِبَل الله، وقليل ما هم.

والله أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.65%)]