اليقين ضد الشك (6)
عبدالفتاح آدم المقدشي
بسم الله، والحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المُرْسلين وآلِه وصَحْبِه وأتْباعِه إلى يوم الدِّين.
اعلمْ أنَّ الرُّسُل - عليْهم السَّلام - هم الوُسطاء بين الله وخلقه في تبليغ رسالة التَّوحيد والشَّرائع الإلهيَّة، وليْسوا وسطاء في جلْب المنافع ولا في دفْع المضارّ, فمَن اعتقد فيهم ذلك فقد أبْعد النجْعة، وأغرق في النزع, واتَّخذهم أربابًا من دون الله, وقد نَهى الله عن ذلك في قوله تعالى: ï´؟ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ï´¾ [آل عمران: 97].
وأيضًا قال الله تعالى في حقِّ نبيِّنا: ï´؟ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا ï´¾[الجن: 21].
فالتَّوحيد والشَّرائع الإسلاميَّة نور يُهتدى بهما في الظُّلمات، كما أنَّهما يُبدِّدان ظلمات الباطل كالشَّمس المشرقة الَّتي تبدّد ظلمات اللَّيل المنتشر في الآفاق، وقد قال تعالى: ï´؟ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ï´¾ [المائدة: 15، 16].
فشرط الله لِهداية النَّاس اتِّباع رضوان الله كما ترى, كما جعل الله النَّتيجة والثّمار الخروج من الظلمات والحيرة إلى النّور والاطمئنان، مع الاهتِداء إلى الصراط المستقيم الَّذي مَن سلكه سعِد عاجلاً وآجِلاً في الدُّنيا والآخرة.
وقال - تعالى - في حقِّ نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ممتنًّا عليه: ï´؟ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ï´¾ [والضحى: 7]، وقد قال تعالى موضِّحًا ذلك في آيةٍ أُخرى: ï´؟ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ï´¾ [الشورى: 52]، وأيضًا قال تعالى: ï´؟ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ï´¾ [سبأ: 50].
فالله - سبحانه وتعالى - يُشبِّه نور الحقِّ بالحياة كما يُشبِّه الباطل بالموت؛ كما قال تعالى: ï´؟ أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ï´¾ [الأنعام: 122].
والغريبُ في الأمر أنَّ بعض النَّاس يقولون مثلاً: لمَّا كانت أوربَّا في عصور الظلمات, والصَّحيح هو أن يُقال: أوربا الَّتي تعيش في الظُّلمات, أو: أوربَّا الَّتي كانتْ في عصور الظُّلمات ولا زالت, وممَّا يوضِّح لك هذا أنَّها كانت تقول من قريبٍ: إنَّ الإنسان أصله من قردٍ, حتَّى روَّجوا هذه النظريَّة أكثر ممَّا يلزم، وتبنَّوها, بل وتخصَّصَ بها بعضُهم في الجامعات, وأخذوا بها الشِّهادات العالية, ثمَّ لمَّا اكتُشف علم الوراثة الحديث، أو ما يعرف بالجينات، أو dna علِموا من خلالِها أنَّ البشريَّة كلَّها من شخصٍ واحدٍ، وهو أبونا آدم - عليْه السَّلام[1].
ولكنَّهم ما زالوا يتخبَّطون في العلوم، ويُخطئون بسبَب بُعْدِهم عن التَّعاليم السماويَّة وباعتِمادهم على العلوم البشريَّة المحدودة والمبنيَّة بالتجارب, وإن كان الله قد يُريهم من خِلال هذه التكْنولوجيا الحديثة آياتِه في الآفاق وفي أنفُسهم، ولكن قلَّ مَن يهتدي منهم إلى الصراط المستقيم، والله المستعان.
ولقد كان عُقلاء البشر لا ينكرون الله ولا رسلَه ولا تعاليمه وشرائعه، ولكنَّه الطُّغْيان والحسد كما كان حال اليهود ولا يزالون, وكما كان حال فرْعون - لعَنَه الله - قال تعالى: ï´؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ï´¾ [النمل: 14].
وقال تعالى: ï´؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ï´¾ [الإسراء: 102].
واجبنا تجاه الرسل:
1- أن نؤمن بهم جميعًا، فمن كفر أو تعدَّى في حق نبيٍّ فقد تعدَّى في حقهم كلِّهم؛ قال تعالى: ï´؟ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ï´¾ [البقرة: 285].
2- أن نؤمن بما جاؤوا به من الحقِّ، ما عدا ما حرَّفته البشريَّة.
3- أن نؤمن بأنَّهم يتفاضلون، وأنَّ أفضلَهم نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمَّ أُولو العزْم من الرُّسل؛ وهم نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمَّد؛ والدَّليل على أنَّ الرُّسل يتفاضلون هو قوله تعالى: ï´؟ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ï´¾ [البقرة: 253].
4- أن نؤمن بأنَّ الله - سُبحانه وتعالى - أرسلَهم لهداية النَّاس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور, وكان النَّاس من لدن آدم - عليْه السَّلام - إلى عشرة قرون على التَّوحيد ثمَّ بعد ذلك تحوَّلوا إلى الشِّرْك وعبادة الأوثان، فأرسل الله إليهم نوحًا - عليْه السَّلام - وكان أوَّلَ رسولٍ أرسله الله إلى النَّاس أجمعين.
5- أن نقتدي بهم في توْحيدهم وأخلاقِهم وسيرتِهم الحسنة؛ كما قال تعالى: ï´؟ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ï´¾ [الأنعام: 90].
هناك أوجُه تشابُه بين الرُّسل، وهو ما يدلّ على أنَّهم خرجوا من مشكاةٍ واحدة، كما يلي:
1- وحدة المهمَّة، وهي هداية النَّاس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النور بالتَّوحيد والإيمان.
2- الدَّعوة إلى الله بالصَّبر والصَّفح لمن كان عدده قليلاً، والدَّعوة إلى الله مع الجهاد لِمَن كان عددهم غفيرًا، كموسى - عليه السلام - ونبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الَّذي جعل الله أمَّته خير أمَّة أُخْرجت للنَّاس.
3- حُسن الأخلاق، لاسيَّما الصَّبر والسَّماحة، والسخاء والشَّجاعة، والعفاف والبرِّ والصِّلة، والإحسان والعدالة والرَّحْمة للخلق ... إلخ.
4- الحكمة وحسن إدارة الخلْق بالسياسة الشَّرعية؛ كما في الحديث: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء)).
5- التأييد بالمعجزات, وكان لكلّ نبيٍّ معجزة تبيِّن صدقه ليهتديَ به النَّاس, ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لَم يجعل معجزات الأنبِياء وحدها سببًا للإيمان بهم, بل ذكر هناك أسبابًا أُخرى كثيرة للتعرُّف بصدق الرُّسُل, وذلك كصدقِهم قبل الرسالة وبعد الرّسالة, وكأن يتبعهم الضعفاء والفقراء والعبيد, وأن لا يغْدروا، وغير ذلك من الأخلاق الطيِّبة, واستدلَّ على ذلك بما بحثه هرقل عند أبي سفيان وقاله في هذا المقام, حتَّى أسهب الشَّيخ في شرْح هذه القصَّة وأسرارها في كتابه "العقيدة الأصفهانيَّة"، ومن شاء فليرجع إليها.
6- الزُّهد والإقبال على الآخرة، حتَّى اتَّصف بذلك مَن كان منهم ملِكًا كسُليمان وداود - عليهما السلام - بل وما كان لهذا المُلك في قلبِهما نصيب ولا تأثير؛ إذ كانا مشغولَين بعبادة الله آناءَ اللَّيل وأطراف النَّهار؛ شكرًا لله واعترافًا له بنعمِه؛ قال تعالى: ï´؟ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ï´¾ [سبأ: 13]، وقال تعالى في حقِّ سليمان: {ï´؟ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ï´¾ [النمل: 40]، وقال الله عنْهما ذاكرًا ما منَّ عليهما من العلم والشُّكر: {ï´؟ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ ï´¾ [النمل: 15].
بل لقد كان داود - عليه السَّلام - لا يأكل إلاَّ مِن عمَل يدِه، مع أنَّه كان ملِكاً، فهل من زهدٍ أشدّ من هذا؟!
بالإضافة إلى ذلك كان صيامه - عليه السَّلام - أفضل الصِّيام؛ إذ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا, وقيامه أفضل قيامٍ؛ إذْ كان ينام في أوَّله ويقوم في ثُلُثِه وينام في سدسه، كما وردت بذلك الأحاديث.
والله أعلم.
[1] انظر كتاب: "علم الوراثة يؤكّد أنَّ آدم وحواء من الجنَّة إلى إفريقيا".