الموضوع: اليقين ضد الشك
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22-01-2020, 03:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اليقين ضد الشك

اليقين ضد الشك (3)


عبدالفتاح آدم المقدشي








اعلم أنَّ الكافر الشاكَّ دومًا بين التصديق والتكذيب، ولا يمكن أن يؤمِن بإيمان جازِم - كما أسلفْنا - ولكنه أقربُ إلى الإيمان بالله من الكافِر الجاحد المنكِر، إلا أنَّهم سِيَّانِ في الكفر؛ لخروجهما عن دائرة الإسلام.

وسببُ اشتهار الكفَّار والمنافقين بالشك: أنَّهم جحدوا وكفروا بعدَما تبيَّن لهم الحق، والآيات البينات والهُدى؛ لذلك فهُم يعيشون في صِراع نفسي دائم بيْن قَبول الحق البيِّن، وبيْن قَبول مطالب النفس الأمَّارة بالسُّوء وحظوظها، كما تتنازع نفسيَّةُ المسلِم العاصي عند ما يَهْوِي في ارتكاب المحرَّمات بيْن قَبول شهوات النفس ورغباتها، وقَبول أوامر الله وتقديمها على كلِّ شيء.

هذا بالنسبة للكفَّار الأصليِّين، أما أهل الرِّدَّة الذين يتردَّدون ويشكُّون بين اتباع المنافقين وتخذيل المسلمين في الجِهاد، فَهُم في هذه الحالة بين الإيمان والكُفْر، وهم أقربُ إلى الكُفْر؛ كما قال - تعالى -: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وهو ما استدلَّ به شيخُ الإسلام ابن تيمية على أنَّه يجوز أن يكونَ المرء بيْن الكفر والإيمان، فهؤلاء لَمَّا انسحبوا عن الساحة، واتَّبعوا المنافقين بالفِعْل، وعَصَوْا رسولَ الله، استحكم عليهم الكُفر، فصاروا بذلك منافقين، وقد أنزل الله في شأنهم: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88].

واعلم أنَّ أسباب الشك كثيرة، منها ما يلي:
1- فَقْد البصيرة، أو عمى القلوب؛ قال - تعالى -: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال - تعالى -: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
2- البَطَر بالنِّعم العاجلة الفانية، وعدم التبصُّر في العواقب الوخيمة يومَ القيامة؛ قال - تعالى -: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8].
3- ظُلْم النفس، والافتتان بزخارف الحياة الدنيا؛ قال - تعالى -: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35 - 36].
4- أن يَكْبُر عليه الخروج عمَّا كان عليه؛ قال - تعالى -: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13].
5- التمادي في الباطل، والتكبُّر عن الرُّجوع إلى الحق؛ قال - تعالى -: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
وقد أشَرْنا - فيما سبق - إلى أنَّ اليقين يتناول في الأصول الإيمانية كُلِّها، كما يتناول في التوحيد، ونُريد هنا أن نُلقيَ الضوء على هذه المسألة؛ لتتضحَ لنا الصورة أكثر.

فعلى سبيل المثال:لَمَّا قال الله - تعالى - في أول سورة البقرة: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] تجد أنَّ الله ذَكَر في سورة البقرة أربعَ حالات للإنسان: يُميته الله، ثم يُحييه؛ لترسيخِ هذه الحقيقة في قلوبنا، وحالتين للحيوان: يُميته، ثم يُحييه.

أما الحالة الأولى:وهي قوله - تعالى -: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55 - 56].
والحالة الثانية:قوله - تعالى-: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
والحالة الثالثة:قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ...} الآية [البقرة: 243].
والحالة الرابعة:قوله - تعالى -: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259].

أما حالتا الحيوان:
فأُولاها:الحِمار الذي كان مع هذا الرجل الذي مَرَّ على القرية، فقال ما قال.
وثانيها:الطيور الأربعة التي قصَّ الله لنا في قِصَّة إماتتها، ثم أَمر خليله أن يَدْعُوهنَّ، فإذا هُنَّ يأتِينه سعيًا.

وهناك سُور أخرى فيها إماتةٌ وإحياء، كقصة أصحاب الكهف وكلبهم، وإن كان رُقودهم هذا يكاد أن يُشبه الموت، بل كذلك تجد في سورة آل عمران والمائدة أنَّ عبدًا من عباد الله وهو عيسى - عليه السلام - يُحْيِي الأموات، بل يحيي الجمادات بإذن الله، فكيف ظنُّك بخَالق الأكوان كلها - عزَّ وجلَّ - وللهِ المَثََل الأعلى.

قال أحمد شوقي:












أَخُوكَ عِيسَى دَعَا مَيْتًا فَقَامَ لَهُ وَأَنْتَ أَحْيَيْتَ أَجْيَالاً مِنَ الرِّمَمِ

وهذا غايةٌ في الثناء والتبجيل للمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما فيه تعظيمٌ لمعجزة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكُبْرى بالحياة المعنوية العظيمة، التي صَنَعها بفِعْل الوحي والنور الذي أنزله الله إليه.

وهذا كما قال كَعْب بن زُهَير:



إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ

فجَمَع في هذا البيت أنه شَبَّهه بنور يُستضاء به؛ كما قال - تعالى -: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46].

وشبَّهه بسيف الله المسلول بقُوَّة مُضيِّه في دعوته، وهدايته للناس أجمعين، والله أعلم.

وأيضًا تجد في سورة البقرة ثلاثةَ مواضعَ ذَكَر الله فيها التيقُّن بلِقاء الله - عزَّ وجلَّ - ولنتدبَّرْ معًا في مناسباتها:
الأولى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]، إذا تدبَّرْت في هذه الآية - مثلاً - تجد أنَّ كل مَن لا يتيقن في لقاء ربِّه لا يمكن أن يخشعَ في صلاته، ولا أن يستعينَ بها، بل تجد أنَّها عليه ثقيلةٌ وكبيرة.

الثانية:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].

فتجد مناسبةَ ذكر ملاقاة الرب في هذا الموضِع حسنًا؛ لأنه توجيه وتنبيه للترفُّع عن الانغماس في الشهوات، والتفنُّن فيها، ولِنتذكَّر لِقاءَ الله - تعالى - ونُقدِّم لأنفسنا ما ننجو به من المواقف الحَرِجة يوم القيامة، والأنسب مِن ذلك ما خَتَم الله به الآية، وهي تبشيرُ المؤمنين؛ لتناسبَ بلُطف إباحةَ إتيان الحَرْث حيث نشاء، وبتقديم النفس للطاعات، وبملاقاة الربِّ لننعمَ في الآخرة كما ننعم في الدنيا، والله أعلم.

ثم اعلم: أنَّ اتِّباع الشهوات مع إضاعة الصلوات والعبادات مُنحَنًى خطير، ومنزلق عظيم، وقد توعَّد اللهُ مَن يفعل ذلك بالويل والثُّبور؛ كما قال - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

الثالثة: قال - تعالى -: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

فتلاحظ في هذه الآية: أنَّ حُماةَ بَيْضة الإسلام ومقدَّساته هم فئةٌ قليلة، مُوقِنة بملاقاة الله، وهي التي تَغلب الفِئةَ الكثيرة بإذن الله، بما أيَّدها الله بصبْرِها ويقينها، وكامل إيمانها.

وإذا تدبَّرتَ في هذه المواضع الثلاثة التي وردتْ فيها ملاقاة الرب، تجد أنَّها من أعظم ركائز هذا الدِّين الحنيف، فليُتأمَّل.

والله أعلم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.89 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]