الموضوع: اليقين ضد الشك
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 22-01-2020, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اليقين ضد الشك

اليقين ضد الشك (2)


عبدالفتاح آدم المقدشي




بسم الله والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، ومَن تبِعَه بإحسان ومَن والاه.

من المعلوم أنَّ النَّاس يتفاضلون في اليقين كما يتفاضَلون في الإيمان, فأيُّهم أشدُّ يقينًا فهو أشدُّ وأقْوى إيمانًا، وأقْرب إلى الله وملائكته وأوليائه، وأبعد من الشَّيطان وأوليائِه وأهل الكفر.

بل اعلم أنَّ المؤمن المتيقِّن الصَّابر من جُملة الأئمَّة الَّذين يهديهم الله بأمرِه؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

والعِلم والحقُّ واليقين قُرناء، كما أنَّ الرِّيبة والظَّنَّ أو التَّخمين قرناء, فمثلاً انظُر إلى علْم الدُّنيا، فإنَّه قائم بالظَّنّ ويَخضع للتجْرِبة؛ لذلك يكثُر فيه الاختلاف والتَّعديل والشطب...إلخ, أمَّا علم الوحْي فليس كذلك أبدًا؛ وذلك لأنَّ الله الذي أنزله يعلم السِّرَّ وأخْفى، ويعلم ما في السَّموات والأرض, وبذلك تعْلم خطأ مَن يقول: تَجربة تطبيق الشَّريعة، أو تجربة المحاكم الإسلاميَّة.

فإذا كان الله لا يقول إلاَّ الحقَّ وهو يهْدي السَّبيل، ورسوله كذلك، فعلام تكون التَّجرِبة في شرع الله إذًا؟!
قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} [والنجم: 28]
وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} [والنجم: 23].

فنتيجة اتِّباع الظَّنّ والهوى: الضَّلال والخسارة الدنيويَّة والأخروية حتْمًا، ولو أمهلهم الله في بعض الأزمان، فاعلم أنَّ هذا لا يدلُّ إلاَّ على أنَّه استِدْراج لا أكثر ولا أقل, ولو اغترُّوا في رخاء موْهوم مؤقَّت؛ إذ لا بدَّ أن يكون بعد ذلك - لا محالة - دمارٌ وعيبٌ وشنار؛ قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} الآيات [طه: 123 - 126].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

فاليقين شرطٌ من شروط التَّوحيد - كما هو معلوم - وكذلك اعلم أنَّه شرطٌ في جَميع الأصول الإيمانيَّة كلِّها، فعلى سبيل المثال: انظر إلى الإيمان باليوم الآخرة, فإنَّه لا يقبل الله من ظانٍّ شيئًا أبدًا في هذا اليوم، بل لا بدَّ أن يكون مستيقنًا به، وعلى هذه الأصول كلّها وكأنَّها في نصب عينيه قائمة، كما وصف الصَّحابي الجليل معاذ بن جبل حقيقة إيمانِه بهذه الصورة العجيبة، حيث قال: "وكأنِّي أنظُر إلى أهل الجنَّة يتنعَّمون في جنَّاتهم، وأهل النار يتعذَّبون في نيرانِهم، وكأنِّي أنظر إلى عرش الرَّحمن.."...إلخ، فقال له النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((عرفت فالزم))، وقد قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].

وقلنا آنفًا: الحقّ واليقين والعلم قرناء؛ وذلك لأنَّ الحق واليقين أبلغ في الوصف والمراد من العلم وحْده؛ لذلك وصف الله الموت باليقين والحقّ - لشدَّة تيقّن الإنسان بذلك، ولو تساهل من تساهل فيه - بيْنما تجد أنَّ لله تعالى لم يصِف الموت بالعلم قطّ في القرآن الكريم، ولو مرَّة واحدة؛ قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ} [المدثر: 46، 47]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19].

وجاء في القرآن: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ} [التكاثر: 5]؛ وذلك لأنَّ العلم وسيلة إلى بلوغ غاية الحقّ والتيقُّن في الإيمان، وليس مقصودًا بذاته؛ لذلك فهو أقلُّ معنًى بالمقارنة للحقّ واليقين، وقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ} [الحاقة: 51]، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ} [التكاثر: 7]؛ وذلك لأنَّ اللَّفظَين الأخيرين في مقام المعاينة, و "ليس الخبر كالمعاينة" كما في الأحاديث الشَّائعة بالألسُن.

ولقد طلب أبونا إبراهيم من ربِّه أن يرِيَه كيفية إحْياء الأموات بأمِّ عينيْه؛ ليشاهدَها وليقف عليها بالمعاينة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآيةَ [البقرة: 260]، وقد أسلفْنا ما فيه في المقال السَّابق, وهكذا أرى اللهُ أبانا إبراهيم الآياتِ في ملكوت السَّماوات والأرض ليكون من الموقنين؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].

ثمَّ اعلم أنَّه يختلف ظنُّ المؤمن بالله وظنُّ المنافق بالله تمامًا؛ إذ الأوَّل لا يظنُّ بالله السوء، ولا أنه يخذل أولياءَه، ولا أنَّه يعِدُهم الغرور، وإنَّما شدَّة الزلزلة والمِحَن قد تجعله ينزل من مرتبة الخوف بالله وحده, فهذا هو الشَّيء الَّذي وجَّه الله صحابته – صلى الله عليه وسلم - بأن لا يخافوا إلاَّ الله، وأن لا يخافوا من الشَّيطان وتخويفاته أبدًا، وأن يقولوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، واقرأ إن شِئْت من بداية قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، إلى قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173].

أمَّا الثَّاني فإنَّه من شدَّة اهتمامه بنفسه يَخاف من المخلوق بأدنى صيْحة؛ كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]، ويظُن أنَّ الله يخذل عبادَه، وأنَّه يعِدهم الغرور، وأنَّه سيموت بالمعركة كأنَّ الضّرّ والنَّفع بغير الله ... إلخ، واقرأ إن شِئْت قولَه تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ} الآيات [آل عمران: 154]، واقرأ كذلك من بداية قولِه تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} إلى قوله تعالى: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} [الفتح: 11 -15].

أمَّا بالنِّسْبة للوسواس الَّذي قد يعتري المؤمنَ بين الفيْنة والأخرى، فذلك صريحُ الإيمان؛ كما ورد بذلك في الصَّحيح؛ لأنَّ اجتهاد المؤمن بنفسِه بالإيمان وكراهيته للكفر والعِصيان تدلُّ على صراحة إيمانه, ثمَّ اعلم أنَّ الشَّيطان لا يهجم على قلوب المؤمنين بالوسواس إلاَّ إذا عجز عن إضْلالهم وإيقاعهم بالفساد، فنصيحتي لكلِّ مَن ابتُلي من ذلك بشيء أن يلتزم بما يلي:
1- أن يتسلَّح المؤمن بسلاح العِلْم؛ حتَّى ينال بذلك قوَّة الإيمان واليقين المطلوبة، ولكي يستطيع أن يدافع عن نفسِه من شبهات الشَّيطان ووسوسته، بعلمه بعد توفيق الله له تعالى.

2- أن يتسلَّح بكثرة قراءة القرآن والتدبُّر فيه والتحرُّز به، خصوصًا بالمعوِّذتَين، كما ينبغي كثرة الأذْكار والتذكُّر ليوم العرض والحساب والقبر.

3- أن يتسلَّح بالقلب الليِّن المخبِت لله المنشرح للإسلام, كما ينبغي أن يكون كثير البُكاء لله، مع الخوف من الله - عزَّ وجلَّ - ومراقبته الدَّائمة في السّرّ والعلن.

4- أن يُكثر من الدُّعاء لكي يُثبته الله, وقد ابتلي أحد الصَّالحين بالوسوسة فدعا الله أن يُذهب عنه ذلك، فرأى في منامه هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إني أسألك بما تحبُّ وترْضى حتَّى ألقاك"، فأذهب اللهُ عنه ما كان يُعانيه من شدَّة الوسوسة, فالدُّعاء من أهم سلاح المؤمن، فتنبَّه له.

5- أن يَجتهد بالطاعات والعبادات؛ فالنفس إن لم تشغلْها بالطَّاعات شغلتك بالمعاصي والفضوليَّات وما لا يُحمد عقباه.

6- أن يقذف ما قد يطْرأ في خاطره من الوسوسة من أوَّل وهلة، ولا يسترسل معها أبدًا؛ وذلك لأنَّ طبيعة المؤمن التذكُّر والانتِباه لعدوِّه، ولئلاَّ يكون من إخوان الشَّيطان؛ والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201، 202]، وفي الصَّحيح: ((الحمد لله الَّذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسة))، وفي الحديث: ((وإنَّ الشَّيطان أيس أن لا يُعبد الله في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحريش بينهم))، أو كما قال.

7- اعلم أنَّ مرحلة الخواطر والهواجس أمرك بيدك, وإنَّما يكفيك مجرَّد أن تطْرح الأفكار الغريبة الهدَّامة، الَّتي تأتي إلى قلبِك عن طريق حاسَّة السَّمع أو البصر أو الوسوسة، وتتعوَّذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، وقد قال ابن عبَّاس: "إنَّ الشَّيطان جاثمٌ على قلب ابنِ آدم، فإذا ذكر الله خنس".

أمَّا إذا دخلت هذه الخواطر في معمل الدماغ - إن صحَّ التَّعبير - فلا يزال لديْك فرصة سانحة أن ترميها حتَّى لا تتعلَّق بقلبك، ولا تتطور إلى مسألة الشَّكّ أو التردُّد.

أمَّا مرحلة الإنتاج، فتتجاوز عن التردُّد والشَّكّ في الأمر حتَّى تتحوَّل إلى همٍّ أو عزيمة أو قصد أو نيَّة, ولا تزال الفرصة سانحةً أيضًا إلاَّ أن يقارن ذلك طلب الإثْم، فإن قارنه فإنَّه قد يؤخذ به ولو لَم يُنفذ ما أراده؛ كما في الحديث الَّذي ثبت في صحيح البُخاري: ((إذا التقى المسلِمان بسيْفَيهما فالقاتل والمقْتول في النَّار))، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((لأنَّه كان حريصًا على قتْل صاحبه)).

أمَّا مرحلة التَّخزين الطَّويل، حتَّى يترسَّخ هذا القصْد أو الهمّ في دماغه، فإنَّ هذا الأمر يتحوَّل عقيدة، وما سمِّيت العقيدة عقيدة إلاَّ لِما ينعقد في القلْب من صحَّة الأفكار من عدمها، كما يظنُّه أو يتصوَّره المعتقد, ولكن لا تزال فرصة سانحة عنده أيضًا إذا كان صاحب الفكرة متفتِّحًا قابلاً للحوار البنَّاء, أمَّا إذا كان متزمِّتًا في رأيه فيصعب الحلُّ معه.

والله أعلم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.72%)]