والفرق بين الإياب والرجوع هو: (الإياب هو: الرجوع إلى منتهى المقصد، والرجوع: يكون لذلك ولغيره، ألا ترى أنه يقال رجع إلى بعض الطريق ولا يقال آب إلى بعض الطريق ولكن يقال إن حصل في المنزل، ولهذا قال أهل اللغة التأويب أن يمضي الرجل في حاجته ثم يعود فيثبت في منزله، وقال أبو حاتم رحمه الله: التأويب أن يسير النهار أجمع ليكون عند الليل في منزله...وهذا يدل على أن الإياب الرجوع إلى منتهى القصد ولهذا قال تعالى: ï*½ إن إلينا إيابهم ï*¼ كأن القيامة منتهى قصدهم، لأنها لا منزلة بعدها)[27].
والفرق بين الرجوع والانقلاب: (إن الرجوع هو المصير إلى الموضع الذي قد كان فيه قبل، والانقلاب المصير إلى نقيض ما كان فيه قبل ويوضح ذلك قولك انقلب الطين خزفا فأما رجوعه خزفا فلا يصح لأنه لم يكن قبل خزفا)[28].
والفرق بين الرجوع والعود: (الرجوع: فعل الشيء ثانية، ومصيره إلى حال كان عليها، والعود: يستعمل في هذا المعنى على الحقيقة، ويستعمل في الابتداء مجازا، قال الزجاج: يقال قد عاد إلي من فلان مكروه، وإن لم يكن قد سبقه مكروه قبل ذلك.وتأويله أنه لحقني منه مكروه.قلت: ومنه قوله تعالى: ï´؟ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ï´¾ [الأعراف: 88] والمعنى: أو لتدخلن في ديننا. فإنه عليه السلام لم يكن على دينهم قط[29].
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حَجَّ لله فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) [30].
المصطلح الخامس: الهَدْم.
هدم: والهاء والدال والميم: أصلٌ يدلُّ على حَطِّ بناء، ثم يقاس عليه، وهَدَمت الحائطَ أهدِمُه. والهَدَم: ما تهدَّم، بفتح الدال، ومن الباب الهِدْم: الثَّوب البالي، والجمع أهْدام...والهَدْمَة: الدُّفعة من المَطَر، كأنَّها تتهدَّمُ في اندفاعها[31].الهَدْمُ نَقِيضُ البناء هَدَمَه يَهْدِمُه هَدْماً وهَدَّمه فانْهَدَمَ وتَهَدَّمَ...والهَدْمُ قَلْعُ المَدَرِ يعني البيوت...والأَهْدَمانِ أَن يَنْهارَ عليكَ بناءٌ أَو تقعَ في بئرٍ أَو أُهْوِيَّة، والهَدْم بالسكون وبالفتح أَيضاً هو إِهدارُ دَمِ القتيلِ يقال دِماؤهم بينهم هَدْمٌ أَي مُهْدَرةٌ والمعنى إِن طُلِب دَمُكم فقد طُلِبَ دَمي وإِن أُهْدِرَ دَمُكم فقد أُهْدِرَ دَمي لاستِحكام الأُلْفة بيننا وهو قولٌ معروف والعرب تقول دَمي دَمُك وهَدَمي هَدَمُك وذلك عند المُعاهَدةِ والنُّصْرة[32]والهدم خص أصله بالبناء ثم استعير في جميع الأشياء فقيل هدم ما أبرمه من الأمر[33].
فعن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ )[34].
فالذنوب إذا تجمّعت وتراكمت كانت كالبناء على ابن ادم محسوسا وملموسا، من اجل ذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته أن تُسْقِطَ هذا البناء ولا تُبقي له من الأثر بإعمال صالحة اخبرنا انه من أدّاها أسقطت هذا البناء المتراكم الذي سيهلكه يوم القيامة.
المصطلح السادس:الحَطُّ.
حطّ: (الحاء والطاء أصلٌ واحد، وهو إنزال الشيء من عُلوّ. يقال حطَطْت الشيءَ أحُطّه حَطّاً. وقوله تعالى: ï´؟ حِطَّةٌ ï´¾ قالوا: تفسيرها اللهم حُطّ عنا أوزارَنا)[35]. الحَطُّ: الوَضْعُ، حطَّه يَحُطُّه حَطّاً فانْحَطَّ. والحَطُّ: وضْع الأَحْمالِ عن الدَّوابِّ تقول حَطَطْتُ عنها...وحَطّ الحِمْلَ عن البعير يحُطُّه حَطّاً أَنزله وكلُّ ما أَنزله عن ظهر فقد حطّه...وحطَّ اللّهُ عنه وِزْرَه في الدعاء وضَعَه مَثَلٌ بذلك أَي خفَّفَ اللّه عن ظَهْرِكَ ما أَثْقَلَه من الوِزْر يقال حطّ اللّه عنك وزرك ولا أَنْقَضَ ظهرَك واستحَطَّه وِزْرَه سأَله أَن يَحُطَّه عنه. والحَطُّ الحَدْرُ من عُلْو حطَّه يَحُطُّه حَطّاً فانْحَطَّ وأَنشد كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّه السَّيْلُ مِنْ عَلِ...والفِعْل اللاّزم الانحطاط ويقال: للهَبُوط حَطُوطٌ والمُنْحَطُّ من المَناكِب المُسْتَفِلُ الذي ليس بمُرْتَفِعٍ ولا مُسْتَقِلٍّ وهو أَحسنها[36]. وقيل الْحَطُّ: النَّقْصُ[37].
منْ اعتلى بناء، ووقف على حافته، وأخذ بحاجة من حاجياته في الدنيا وألقاه منه، فان هذا الشيء عند ارتطامه بالأرض سوف يتلاشى وينتهي، ولا تقوم له قائمة، وكأنه لم يكن.كذلك من أدى عبادات أرشده لها حبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم سوف يحدث له هذا الشيء مع ذنوبه، وقد يُراد ان فعل هذه الحسنات تنقص من السيئات والله اعلم بالصواب.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا قال يا أَبَا عبد الرحمن ما أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إلا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، قال إني سمعت رَسُولَ الله يقول: ( إِنَّ مَسْحَهُمَا يَحُطَّانِ الْخَطِيئَةَ) وَسَمِعْتُهُ يقول: ( من طَافَ سَبْعًا فَهُوَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ ) [38].
وعَنِ عبد الله بن عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ يَحُطَّانِ الذُّنُوبَ )[39].
المصطلح السابع: الغروب.
غرب: (الغين والراء والباء أصلٌ صحيح، وكَلمُهُ غير منقاسةٍ لكنَّها متجانسة، فلذلك كتَبْناه على جهته من غير طلبٍ لقياسه. فالغَرْب: حَدُّ الشّيء. يقال: هذا غَرْبُ السَّيف. ويقولون: كفَفْتُ من غَرْبه، أي أكْلَلْتُ حَدَّه وأمّا الغَرَب بفتح الراء، فيقال إنَّ الغَرَبَ: الرَّاوية. والغَرَب: ما انصبَّ من الماء عند البئر فتغيَّرَتْ رائحتهُ. والغُرْبة: البُعد عن الوطن، يقال: غَرَبَت الدَّار. ومن هذا الباب: غُروب الشَّمس، كأنَّه بُعْدُها عن وجه الأرض. وشَأْوٌ مُغَرَِّبٌ، أي بعيد)[40] والمَغرِبُ في الأَصل مَوْضِعُ الغُروبِ ثم استُعْمِل في المصدر والزمان وقياسُه الفتح ولكن استُعْمِل بالكسر كالمَشْرِق والمسجِد[41]وغرب الغرب غيبوبة الشمس يقال غربت تغرب غربا وغروبا[42].
والغروب عندما تضفي الشمس فلا ترى، وكلنا ينظر إلى الشمس عند مغيبها تأخذ معها ضوئها ووهجها وتسحب معها ما يلازمها، هذا المنظر الملفت للنظر وان اعتاده الناس في حياتهم اليومية وظَفَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخدمه ليضرب لنا مثالا، كما أن الشمس عندما تغيب تأخذ الضوء، معها كذلك عبادة الحج والمجاهد إذا غابت شمس عرفة فإنها تأخذ ذنوب المجاهدين والحجيج معها إلى غير رجعة ما أروعه من تشبيه وأحلاه:
فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما راح مسلم في سبيل الله مجاهداً أو حاجاً مهلاًّ أو ملبياً إلا غربت الشمس بذنوبه وخرج منها) [43].
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أضحى يومه يلبي محرماً حتى تغرب الشمس غربت بذنوبه وعاد مثل يوم ولدته أمه) [44].
وعن جَابِرِ بن عبد الله قال: قال رسول الله ِصلى الله عليه وسلم: ( ما من مُحْرِمٍ يَضْحَى لله يَوْمَهُ يُلَبِّي حتى تَغِيبَ الشَّمْسُ إلا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) [45].
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] ينظر مقاييس اللغة: ج4/ ص385.
[2] ينظر التعريفات: ج1/ص286، والأفعال ج2/ص415، والتعاريف: ج1/ص668.
[3] ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 609).
[4]المستدرك على الصحيحين للحاكم: (1 / 609): (1612)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
[5]الآثار لأبي يوسف: (1 /110): (518).
[6]مصنف ابن أبي شيبة: (3 /122): (12657).
[7] ينظر مقاييس اللغة: ج5/ص191.
[8] ينظر التعاريف: ج1/ص202.
[9] ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 717).
[10]صحيح البخاري: ج2/ص629، رقم: (1683).
[11]سنن الترمذي: ج3/ص292، رقم: (959)، وقال: حديث حسن.
[12]مقاييس اللغة: ج5/ص456، .
[13]ينظر صحيح البخاري (3 / 22): (1883).
[14]ينظر لسان العرب: ج15/ص337.
[15]سنن الترمذي ت شاكر (3 / 166): (810)، وقال: وَفِي البَابِ عَنْ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَجَابِرٍ.: «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ».
[16]صحيح البخاري: ج4/ص1488، رقم: (3824).
[17]مقاييس اللغة: ج2/ص175
[18] ينظر لسان العرب: (2 / 249)
[19]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 278)، والتعاريف: ج1/ص311.
[20]ينظر كتاب الكليات: (1 / 677).
[21]صحيح مسلم: ج1/ص215، بَاب خُرُوجِ الْخَطَايَا مع مَاءِ الْوُضُوءِ، رقم: (244).
[22]مسند البزار: (8 / 169): (3196).
[23]مسند أحمد بن حنبل ج2/ص484، رقم: (10279)، ورواية خرج من ذنوبه بسند عبد الرحمن بن المهدي لا من رواية سفيان الثوري فلذلك قال المؤلف قال عبد الرحمن، قال الأرنؤوط: والحديث إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[24]ينظر مقاييس اللغة ج2/ص490.
[25]ينظر لسان العرب: (8 / 114).
[26]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 342).
[27]الفروق اللغوية: (1 / 87).
[28]الفروق اللغوية: (1 / 249).
[29]ينظر المصدر نفسه: (1 / 250).
[30]صحيح البخاري: ج2/ص553، رقم: (1449).
[31]ينظر مقاييس اللغة: (6: 30)، ومفردات ألفاظ القرآن: (ص 835)، والتعاريف: (1/740).
[32]ينظر لسان العرب: (12 / 603).
[33]التوقيف على مهمات التعاريف: (1 / 740).
[34]صحيح مسلم: (1 / 112): (121).
[35] مقاييس اللغة: ج2/ص13، وينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 242).
[36] ينظر كتاب العين: (3 / 18)، المحكم والمحيط الأعظم: (1 / 380)، ولسان العرب: (7 / 272).
[37] طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: (1 / 303).
[38]مسند أحمد بن حنبل: ج2/ص95، رقم: (5701)، قال شعيب الأرنؤوط: حسن، وسنن النسائي(المجتبى): ج5/ص221، ذِكْرُ الْفَضْلِ في الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، رقم: (2919)، قال المناوي: إسناد حسن. ينظر التيسير بشرح الجامع الصغير: ج2/ص403.
[39]مسند أحمد بن حنبل: ج2/ص11، (4585)، قال الأرنؤوط: إسناده حسن.
[40]مقاييس اللغة: ج4/ص420-421.
[41] ينظر لسان العرب: (1 / 637).
[42]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 604).
[43]ينظر المعجم الأوسط: ج6/ص193، رقم: (6165)، وقال: لم يرو هذين الحديثين عن الهيثم بن حبيب إلا حفص بن أبي داود تفرد بهما أحمد بن الفرج.
[44]ينظر السنن الكبرى: 5/43، رقم: (8804)، قال المناوي: وإسناده حسن. ينظر التيسير شرح الجامع الصغير: ج6/ص118.
[45]سنن ابن ماجه: ج2/ص976، رقم: (2925)، السنن الكبرى للبيهقي: 5/70، رقم: (8976) وقال: هذا إسناد ضعيف. أقول وهو مما يستشهد به في هذا الباب على مذهب جمهور المحدثين في فضائل الأعمال والله اعلم بالصواب.