و(الرفث) الجماع، والحديث في شأنه مع النساء، أو تقبيل زوجته، أو لمسها، أو ملاعبتها، أو كلام الرجال مع بعضهم البعض بما جرت العادة أنه يحرك الشهوة، أو يثير دواعيها؛قال الله تعالى: ï´؟ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ï´¾ [البقرة: 187].
وكذلك ï´؟ لَا فُسُوقَ ï´¾ [البقرة: 197]، لا ينبغي لمن عقد الحج أو العمرة،والفسوق كل معصية بالقول أو العمل،وأصل الفسوق: الخروج عن الحد؛ وذلك أن كل معصية كلامية أو عملية فهي خارجة عن مقتضى الحج والعمرة.
ولما كان من أهم مقاصد الحج تعارف المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، وتآلفهم وتشاكيهم، وائتمارهم على ما يصلح شؤونهم، ويرفع نير الذلة والصغار عن أممهم وبلادهم، ويوفر لهم أسباب الحياة الطيبة والعزة والسلطان - نهاهم عن الجدال فقال: ï´؟ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ï´¾ [البقرة: 197]؛ لأن الجدال يؤدي إلى التنافر والتباغض والتحاسد، ولو كان في مناسك الحج، خصوصًا ما يقع بسبب الاختلافات، وتعصب كل واحد لمذهبه؛ فإن هذا من شر ما يقضي على حكمة الحج، وكثير من فوائده،وكل واحد يعلم قصد نفسه من الكلام والبحث: هل هو الجدال والمراء وحب الغلب والظهور، أو هو لأجل فهم المسألة والاستفادة منها؟ والله يعلم ذلك من قلوب الناس ونواياهم؛ لذلك قال: ï´؟ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ï´¾ [البقرة: 197]؛ أي: يعلم مقاصدكم ونواياكم، فإن كانت خيرًا أثابكم، وإن كانت غير ذلك عاقبكم، ï´؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ï´¾ [البقرة: 220]،ثم قال: ï´؟ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ï´¾ [البقرة: 197]؛ أي: احملوا معكم في سفركم إلى الحج أو العمرة زادًا تستغنون به عن المسألة وذُلها؛ فذلك مما لا ينبغي للمؤمن إلا للضرورة الملجئة،والزاد زادان: زاد الجسم بالطعام والشراب، وزاد الروح والقلب بالإيمان وإخلاص القصد، وصدق التوجه إلى الله وحده،وزاد الجسم يفنى ولا يبقى، فخيره قاصر على وقته وساعته، أما زاد الروح والقلب فباقٍ، لا تزيده الأيام إلا قوة وبركة، فهو بلا شك خير من زاد الجسم،فالواجب على العاقل أن يهتم لزاد القلب والروح أشد مما يهتم لزاد الجسم.
وأن يُعنَى بالإخلاص والعمل الصالح أشد من عنايته بالطعام والشراب واللباس،وقد يكون المعنى: لا تُكثروا من حمل الزاد فتُثقلوا على أنفسكم في السفر بما لا حاجة له، واكتفوا بأقلِّ زاد يقيكم الجوع والمسألة، وتتقوَّوْنَ به على أعمال الحج والعمرة.
ï´؟ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ï´¾ [البقرة: 197] راقبوا الله وحده، لا تراقبوا غيره، واقصِدوه بقلوبكم وأعمالكم، لا تقصدوا غيره؛ من الموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولو كانوا أنبياء ومرسلين، ولو كان خير الأنبياء، وخاتم المرسلين، وصفوة خلق الله أجمعين صلى الله عليه وسلم،فليكن قصدكم إذا سافرتم إلى المدينة الصلاة لله في المسجد النبوي، ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا هو اللائق بذوي الألباب، والعقول السليمة، الصافية من أمراض الجهل والخرافات، والعادات الوثنية التي زينها الشيطان، فظنها أولئك الجاهلون قُربةً إلى الله، وحبًّا لرسوله، وما هي بشيء من ذلك، وإنما هي الوثنية الأولى، والشِّرك الذي لا يغفره الله،نسأل الله العافية.
روى البخاريُّ وأبو داود عن ابن عباس قال: "كان أهلُ اليمن يحجُّون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدِموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ï´؟ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ï´¾ [البقرة: 197] الآية"، وقال أبو الفرج ابن الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد، وظنوا أن هذا هو التوكل، وهم على غاية الخطأ،قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكُّل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرُجْ في غير القافلة، فقال: لا، إلا معهم، قال أحمد: فعلى جُرُبِ الناس توكلتَ؛ اهـ.
ثم قال تعالى: ï´؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ [البقرة: 198]؛ أي: لا إثم عليكم ولا حرجَ عليكم بعد إتمامكم مناسكَ الحج والعمرة أن تطلبوا من رزق الله، بالتجارة الحلال ونحوها؛ فإن ذلك لا ينافي العبادة، ما دام القصدُ الأول هو الحجَّ والعمرة، والتجارة أمر ثانوي عارض،قال البخاري: عن ابن عباس: "كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجِروا في الموسم، فنزلت ï´؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ï´¾ [البقرة: 198] الآية في مواسم الحج"، وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال: "قلت لابن عمر: إنا نكرى، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون الموقف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: ï´؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ [البقرة: 198]، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((أنتم حُجَّاج))،ولكن ليحذر أحد من الغش والكذب في البيع والشراء بمكة؛ فإن السيئة فيها بمائة ألف، وليحذر أحد أن يتجر فيما حرمه الله؛ كالمواد المخدِّرة من الحشيشة والأفيون ونحو ذلك؛ فمن اتجر في شيء من ذلك، فلا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، وعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين.
فإذا وقفتم بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة - وهي عمدة أفعال الحج ومناسكه - روى الإمام أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحج عرفات - ثلاثًا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجرُ، فقد أدرك الحجَّ،وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه))، وروى أحمد وأصحاب السنن عن عروة بن مضرس الطائي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة - حين خرج إلى الصلاة، يعني صلاة الفجر - فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيئ، أكللتُ راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه))"، وقد كانت قريش تقف بمزدلفة ولا تجاوزها إلى عرفة لتقف مع الناس، قد جعل الله ذلك عامًّا للناس كلهم.
ï´؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ï´¾ [البقرة: 198] بعد الوقوف بها من الزوال إلى غروب الشمس - واحذروا أن تبرحوها إلا بعد مغيب الشمس - فتعجلوا النفر إلى مزدلفة، ولا تصلوا المغرب إلا بها،فإذا صليتم العشاء بالمزدلفة وبتم بها ï´؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ï´¾ [البقرة: 198]، والمشعَر المعلَم الظاهر، والصلاة والمبيت والدعاء والتكبير والتلبية بمزدلفة من شعائر الحج،والمشعر الحرام: هو المزدلفة كلها، كما روي عن عبدالله بن عمر وابن عباس وغيرهما،وقد ذهب جماعة من السلف وبعض أصحاب الشافعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن، وإنما سمي حرامًا؛ لأنه داخل الحرم، وتسمى أيضًا جمعًا؛ للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير فيها،فأكثروا ذكر الله في المزدلفة ليلًا، وفي صبيحتها بعد صلاة الفجر من يوم النحر حتى يسفر النهار وقد جمعتم سبع حصيات لترموا بها جمرة العقبة حين وصولكم إلى منًى من صبيحة يوم النحر بعد شروق الشمس، ï´؟ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ï´¾ [البقرة: 198] وأراكم مناسككم وعباداتكم الصالحة التي ضل عنها غيرُكم، وأرشدكم بالنور الذي أنزله على نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى خير هدي، وأقوم طريق، سواء في الحج والعمرة وغيرهما من كل شرائع الإسلام، التي هي أقوم الشرائع وأيسرها وأنفعها للإنسان، في دِينه ودنياه وآخرته، ï´؟ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ï´¾ [البقرة: 198] مِن قبلِ هُدى الله لكم وتعليمه وإرشاده ï´؟ لَمِنَ الضَّالِّينَ ï´¾ [البقرة: 198] التائهين الحيارى، أغواهم الشيطان، فزين لهم الوثنية، وعبادة الموتى من دون الله، بأهوائهم، وبغير ما شرع لهم وأحب لهم، وسلك الشيطانُ بهم هذا الطريق الأعوج المظلم بعد أن أطفأ عنهم نورَ العلم، وسلَبهم العقول وسلامة التفكير، فكانوا كالأنعام، بل أضل من الأنعام سبيلًا، ولم ينقذهم إلا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والهدى الذي هداه الله إليه، وجعله به إمام الهادين المهتدين،وفقنا الله لهداه.
ï´؟ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ï´¾ [البقرة: 199]؛ أي: ليكُنْ وقوفكم بعرفة وغيرها مع الجماهير من الناس، ولا تشذوا عنهم بما يسوِّلُ لكم شيطان الغرور أن لكم ميزة على الناس، بغِنى، أو مُلك، أو عِلم، أو دِين، والعلم والدِّين يزينان صاحبهما بزينة التواضع، وحسن الانقياد والاستسلام، والحرص على أداء الطاعة على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه؛ روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش ومن دان دِينها يقفون بالمزدلفة - تعني يوم عرفة - وكانوا يُسمَّون الحُمْسَ - تعني الغلاة المتشددين في دينهم، مثل المتصوفة - وسائر العرب يقفون بعرفات،فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتيَ عرفات ثم يقف بها، ثم يفيض منها؛ فذلك قوله تعالى: ï´؟ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ï´¾ [البقرة: 199].
ï´؟ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ï´¾ [البقرة: 199] مِن فسوقكم وعصيانكم الذي أغواكم به عدوكم، وأضلكم به عن صراط الله المستقيم، وخالف بكم عن حكمة الحج التي هي جمعُ الناس في صعيد واحد، على هيئة واحدة، وبلسان واحد، وكلمة واحدة؛ لتصفوَ نفوسهم من قذارة الكبر والغطرسة، ولترجع قلوبهم سليمة بالفطرة والبساطة، بعيدة عن التكلف وحب المفارقة والخلاف والشذوذ، وقد هداكم الله وأنقذكم برسوله صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم، وفتح لكم بالحج ومناسكه بابًا إلى التوبة والندم، وسبيلًا إلى الفرار إلى ربكم وبارئكم، تعرفون فضله فتشكرونه على ما أنعم عليكم؛ فاستغفروه من ذنوبكم: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [البقرة: 199] كثير المغفرة، واسع الرحمة.
ï´؟ فَإِذَا قَضَيْتُمْ ï´¾ [البقرة: 200] وفرغتم من أداء ï´؟ مَنَاسِكَكُمْ ï´¾ [البقرة: 200] العبادات المتعلقة بالحج والعمرة، وشعائرهما من الإحرام إلى الذبح والحلق، ï´؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ï´¾ [البقرة: 200] تذكَّروه بقلوبكم، واشغَلوها بالتفكُّر في نعمائه وآلائه، التي أجلُّها هدايتكم وتوفيقكم لطاعته، واشغَلوا ألسنتكم بالثناء عليه بما هو أهله؛ من الحمد والتهليل، والتكبير والتسبيح، والصلاة على نبيه المصطفى محمد، الذي كان الخير والفوز والسعادة لكم على يديه الكريمتين صلى الله عليه وسلم.
والحاجُّ من يوم تدخل أشهر الحج عليه يبدأ يتحرك قلبه بالشوق إلى البيت العتيق، ولا يزال هذا الشوق يزداد في قلبه اشتعالًا حتى يسجل اسمه في سجل الضيوف؛ بأخذ جواز السفر إلى الأقطار المقدسة، ويأخذ له أهبته، ويعقد به عزيمته،فإذا ما أخذ طريقه في السكة الحديد والباخرة في البحر، ازداد هيامه، واستبطأ القطار السريع والباخرة التي تشق عباب البحر مغذة السير، وتمنى أن لو أعطاه الله أجنحة يطير عليها إلى غايته، ويبلغ بها إلى بيت ربه، فإذا ما آذن صفير الباخرة أنها بحذاء رابغ "ميقات أهل مصر والشام وما والاهما" ذابت القلوب صبابة، وطارت الأرواح سابحة في جو من الغبطة والسرور لا يعرفه إلا من ذاق حلاوته،وانطلقت الألسنة مهللة بكلمة الحق: "لبيك اللهم لبيك"، ويشع نور السرور والفرح على الوجوه، فتراها بيضاء كثياب الإحرام التي لفت فيها الأجسام،فإذا ما وطئ ميناء جدة أول بقعة من الأرض المقدسة لم يكن له هم إلا السفر السريع العاجل إلى كعبة آماله، وبقية نفسه، ومنتهى قصده، فإذا تجلى أمام عينيه من باب السلام جلال ذلك البيت العتيق وجماله، وأشرق عليه نوره وهداه، خشعت الجوارح، وسكت اللسان ساعة تكلم القلب والروح فيها بلغة يعلمها رب البيت، فيفتح لها أبواب السماء، ولا يجعل دونها حجابًا أن تصعد إليه، وحاول المحب أن يكتم حبه؛ حتى لا يعلم به إلا الحبيب، ولكن هيهات قد غلبته العبرات، وكشفت عن طوايا نفسه وما ملأ جوانحها من اشتعال نار الحب، دموع العين تجري على خدود أحالها كثرة الغبار وطول التهجير في السعي للمحبوب الأعظم، فكساها جمال: "هؤلاء عبادي جاؤوني شُعثًا غبرًا من كل فج عميق"، فلا تسل حينئذ عن العبرات والزفرات الصادقات، والنفوس المختلجات المستغفرات، الشاكيات إلى سيدها فقرها وحاجتها، وذلها ومسكنتها، الراجيات المؤملات في كرم سيدها وحبيبها وقرة عيونها أن يجيزها كرامتها، وأن يمنحها نزل ضيافتها: مغفرة ورضوانًا يليقان بكرم أرحم الراحمين.
وهكذا كلما طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وصعد إلى عرفة فوقف فيها موقف السائل الراغب المخبت الخاشع، وناجى سيده في ذلك الموقف وقد تجلى على القلوب والأرواح من نفحات وتجليات سيدها وحبيبها، ومَن لا تجد السرور واللذة والنعيم إلا في قُربه، ما أنساها كل شيء، وشغلها عن كل شيء، وجعلها في جنات النعيم، فإذا ما أتم نسكه وقضى تَفَثَهُ وفرغ من ضيافة سيده برمي آخر جمرة في اليوم الثاني أو الثالث عشر من ذي الحجة - رأيت العجب! رأيت أن القلوب التي ما كان يخطر فيها من ذكريات الأهل والولد والوطن والمال نسمة، عادت إليها عاصفة شديدة من تلك الذكريات، وحنَّت أشد الحنين إلى الأهل والولد، وأخذت تتساءل: متى يسمح لنا بالرحيل؟ متى تقوم أول باخرة من جدة؟ في كم يوم تقطع الباخرة الطريق من جدة إلى الوطن؟ كم من الأيام تمكث في الحجر الصحي؟ ما أطول ذلك وأكثره! سبحان الله مقلب القلوب، ومن بيده الأرواح والنفوس يصرفها ويوجهها ويقيمها ويقعدها، لا إله إلا أنت.
فإذا هبت على القلب عواصف الشوق إلى الآباء والأبناء، وتحركت سواكن الذكريات إلى الأهل والوطن، فهنا يحاول الشيطان أن يجد الثغرة التي يدخل منها إلى القلب، فيطغى بذكريات الأهل والولد على ذكر الله؛ فاحذر ذلك؛ فإن الله قد حذرك ودلَّك على موضع الضعف من سور مدينة قلبك الذي يريد الشيطان أن يتسلق عليه منه: ï´؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ï´¾ [البقرة: 200].
ولقد كان العرب يتخذون من منًى معارض للمفاخر والتقاوُلِ، فيقوم من كل قبيلة شاعرها أو خطيبها ينافح عن حسبها ونسبها، ويشيد بفعالها ومواقفها، ويقوم الآخر فيقول، والثالث والرابع وهكذا،وكم في الشعر من غلوٍّ واسراف، ومدح بالكذب، وقول بغير الحق، وهذا يتنافى مع ما كان فيه الحاجُّ والمعتمر من الإقبال على الله الحق المبين، الذي يمقت الغلو والكذب وقول الباطل،وكم أثارت تلك الممادح والقصائد من إحن كامنة، وأيقظت بين العرب من أحقاد نائمة، وسلَّت من سيوف، وشرعت من رماح، وأراقت من دماء، وأطاحت برؤوس، ورملت نساءً، ويتَّمَتْ أطفالًا؛لذلك يحذرهم من ذلك التقاوُلِ، ويدعوهم إلى خير ما يزكي نفوسهم، ويطهر أرواحهم، ويجمع كلمتهم، ويُقوِّي وَحْدتهم ï´؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ï´¾ [البقرة: 200]،ومن أفضل ذكر الله والمنافع التي دعاهم لشهودها عند بيته أن يعقد الحجاج مؤتمرًا إسلاميًّا عامًّا من خلاصة الوافدين إلى بيت الله ونبهائهم وعلمائهم وفضلائهم، ويديروا فيه الرأي والتشاور فيما يصلح الأمة، ويفك عنها قيود الذلة والصغار التي قيدها بها أعداؤها في البلاد والنفوس والقلوب والأعمال والأخلاق والجماعات والأفراد، وأن يعمَلوا متضافرين على النهوض بالأمة من كبوتها، وإقالتها من عثارها؛ لتعود سيرتها الأولى؛ مِن العز والقوة والسلطان، منتهزين الفرص التي يهيئها اللهُ بهذه الحروب القائمة، ويشغل أهلها بأنفسهم عنا وعن بلادنا فترة الحرب، فيلم المسلمون شعثهم، ويجمعون شتات قواهم المعنوية والحسية؛ فلعل الساعة قد حانت لتحقيق ما أعد الله للمسلمين من نصر وعزة، وما ذلك على عقلاء المسلمين وعلمائهم وقادتهم بعزيز! والله الموفق، ï´؟ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ï´¾ [آل عمران: 126].
ï´؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ï´¾[البقرة: 200] بلسان حاله وأعماله ومقاله: ï´؟ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ï´¾ [البقرة: 200] مِن مالها وزينتها ووجاهتها وحسن الأحدوثة وثناء الناس ومدحهم بالحق والباطل، وندائهم له "بالحجاج"، وإن لم ينادوه بها غضب، وأنَّبَهم أشد التأنيب، أو ليتخذ من ذلك اللقب شبكة يحتال بها على اصطياد ما شاء من أموال الناس بالباطل والغش وتطفيف الكيل والميزان، ولا يفكر إلا في ذلك من حظوظ الدنيا ومتاعها القليل، أو ليتجر في المحرَّمات من أنواع المخدِّرات، فهذا أخسر الناس صفقة، وأبخسهم بَيعة، وأشدهم - والعياذ بالله - خيبةً وحسرة؛ ï´؟ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ï´¾ [البقرة: 200] من ثوابها ونعيمها، وجناتها ورضوانها ï´؟ مِنْ خَلَاقٍ ï´¾ [البقرة: 200] من حظٍّ ونصيب، وإنما حظه الوافر ونصيبه الكثير من عذاب أليم؛ ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [هود: 15، 16].
ï´؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ï´¾ [البقرة: 201].
ومن الناس عاقلون، نفَعهم الله بسمعهم وأبصارهم وقلوبهم، ففقهوا أن الحياة الدنيا متاع، ولا بد لها من معونة من الله، ومدد من فيض إحسانه، وأن يجعل ذلك المدد من المال والنساء والبنين والعافية في الجسم والوجاهة، ونفوذ الكلمة في الناس؛ أن يجعل ذلك عونًا على مرضاته وطاعته، فيكون حسنات تكسب وتعين على حسنات الآخرة، وعظيم ثوابها ونعيمها،والحسنة في الدنيا: المرأة التي تسر زوجها إذا نظر إليها، وتحفَظه في عِرضه وماله إن غاب عنها، وتطيعه إذا أمرها، وتحقق السكون والمودة والرحمة التي من أجلها كانت الزوجية،وكذلك الذرية الحسنة التي تكون عونًا لوالديهم - بذكائهم وفطانتهم - على حمل متاعب الحياة ومشاقها، وقرة لعين أبويهم في طاعة الله ومرضاته، والاستقامة على مكارم الأخلاق،والصحة التي تعين العبد على القيام بمطالب الحياة الدنيا، وأداء حق العبودية لله وحده،والأصدقاء الذين يحبون في الله، ويكرهون في الله، ويُعينون على ذكر الله،والوظيفة التي يستعين بها على معيشته ودينه، والبر والإحسان إلى ذوي قرباه وجيرانه، وغيرهم من المُعْوِزين والمحتاجين بالمال والجاه، وأمثال ذلك كله حسنة في الدنيا،والحسنة في الآخرة ظاهرة واضحة،آتانا الله ذلك من حسنات الدنيا والآخرة.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: ((اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)).
خصوصًا بين الركن الأيمن والحجر الأسود حين الطواف بالبيت.
ï´؟ أُولَئِكَ ï´¾ [البقرة: 202] الذين لا يقصرون رغباتهم وهمتهم على حظوظ الدنيا والعملِ لها، والكدح لجلبِها، بل رغبوا في الدنيا الطيبة التي تعين على الفوز في الآخرة، وتكسب الثواب والدرجات العلى في الجنة، وعملوا لها مستمدين العون من الله ï´؟ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [البقرة: 202].
ï´؟ وَاذْكُرُوا اللَّهَ ï´¾ [البقرة: 203] بالتكبير عقب الصلاة، ومع رمي الجمرات، وفي بقية الأوقات، بأنواع الذكر والدعوات والاستغفارات، ونحر الذبائح والصدقات، والمبيت بمنًى ï´؟ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ï´¾ [البقرة: 203] هي أيام التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة،روى الإمام أحمد ومسلم عن نبيشة الهذلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيام التشريق أيامُ أكلٍ وشُرب وذِكر لله)).
وفي حجَّة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفة خطبة أتمها في منى، بيَّن فيها شرائع الإسلام،فتلك سنَّة على أهل العلم والدِّين ورثةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحيوها بتعليم الناس في هذا الجمع الحافل شرائع الإسلام الصحيحة؛ لعلهم إذا رجعوا إلى بلادهم بذلك العلم الصحيح والهدى الطيب من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقذ الله قومهم مما هم فيه من البدع الخرافية، والتقاليد الجاهلية التي أفسدت القلوب، وأزاغت العقائد، وفرَّقت الكلمة، وشتَّتَتِ الجمعَ، وجعلت المسلمين شِيعًا وأحزابًا، كل حزب بما لديهم فَرِحون، فتداعت عليهم الأمم من كل ناحية تداعِيَ الجياع على القصاع، والتهَمَتْهم لقمة سائغة، وأخذتهم بهذا التفرق غنيمة باردة.
ï´؟ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ï´¾ [البقرة: 203]؛ أي: عجَّل النزول من منى إلى مكة بعد رمي الجمرات الثلاث يوم الثاني عشر بعد الزوال؛لأن رمي الجمرات في أيام التشريق إنما يكون بعد الزوال،أما يوم النحر فلا يرمى فيه إلا جمرة واحدة، هي جمرة العقبة، ووقتها من طلوع الشمس - إلا أصحاب الأعذار من ثقيلات النساء والمرضى، ومن يقوم بعمل ضروري للحاج في منًى؛ كإعداد الخيام مثلًا - فلهؤلاء أن يرموا يوم النحر قبل طلوع الشمس، ï´؟ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ï´¾ [البقرة: 203]، ولا حرج ولا عقوبة، ï´؟ وَمَنْ تَأَخَّرَ ï´¾ [البقرة: 203] حتى يرمي يوم الثالث عشر وينزل إلى مكة بعد رمي الجمرات بعد الزوال، ï´؟ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ï´¾ [البقرة: 203]، ولا حرج عليه في تأخره عن الناس، ولا يُعَدُّ بذلك التأخُّر شاذًّا، كما كان يُعَدُّ شذوذ لعلها: الحُمْسمن قريش في مخالفة جماهير الناس في الوقوف بمزدلفة دون عرفة.
ï´؟ لِمَنِ اتَّقَى ï´¾ [البقرة: 203]؛ أي: ذلك التخيير في تعجيل النفر من منى وتأخيره لمن اتقى الله، ولم يكن قصده الدافع له على التعجيل أو التأخير حظًّا من حظوظ النفس الأمارة وأهوائها، ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ï´¾ [البقرة: 203]، وقد أقام لكم هذا الحشر العام والجمع الظاهر عند بيته آيةً على ذلك الحشر الذي يقوم فيه الناس من قبورهم، ويساقون للوقوف بين يدَيْ سريع الحساب؛ ليجزيَ كلَّ نفس بما كسبت، وما ربك بظلام للعبيد؛فاستعدوا لذلك اليوم الذي فيه إلى ربكم تحشرون، وتزودوا له خير الزاد من التقوى والعمل الصالح، والله خبير بما تعملون.
تقبَّل الله أعمالنا وأعمالكم، وجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأثابنا عليها بما هو له أهل من الفضل والإحسان العظيم،وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الهدي النبوي - العدد 59 أول ذي الحجة سنة 59 - 30 ديسمبر سنة 40 الجزء 23 السنة الرابعة