وقفة مع آية: {وأتموا الحج والعمرة لله}
الشيخ محمد حامد الفقي
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 196 - 203].
يقول الله جل ثناؤه لعباده المؤمنين الذين أقاموا ما كتب الله عليهم في الصيام، وأدَّوه على الوجه الذي يحبه الله تعالى منهم إيمانًا واحتسابًا، وأقاموا ما ندبهم له من الجهاد الذي قدموا به أنفسهم وأموالهم صفقة رابحة لله، ثمنها عنده جنة عرضها السموات والأرض،يقول الله لهؤلاء: قوموا بحق الحج والعمرة تامًّا وافيًا على أكمل وجه وأوفاه بما ينبغي لله من العبادة الخالصة والطاعة التامة الكاملة في مناسك الحج والعمرة التي أراكموها، استجابة لدعوة أبيكم إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا وجميع الأنبياء،وتمام الشيء ألا تنقص منه ولا تزيد عليه.
وقد قرأ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (وأقيموا الحجَّ والعمرةَ لله).
وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124]؛ أي: قام بما أوجب الله عليه فيهن وافيًا تامًّا غير منقوص، ولا زائد عنهن من عند نفسه شيئًا، فكافأه الله أن جعله للناس إمامًا،كذلك المؤمن الذي يتم الحج والعمرة بمناسكها تامة لا ينقص منها شيئًا ولا يزيد عليها من عند نفسه شيئا يجعله الله فيهما إمامًا.
ولقد أوصانا الله أشد الوصية أن يكون إتمام الحج والعمرة لله خالصًا، لا يخرج إليهما ولا يأتي بعمل من أعمالهما ولا ينسك نسكًا لهما إلا والباعث عليه مرضاة الله وحده، وابتغاء الأجر والمثوبة من عنده وحده، وأن تكون هذه النية الخالصة حاضرة مشهودة في القلب والنفس عند كل عمل وحركة،وحذَّرنا أشد التحذير أن نبتغي بعملنا في الحج والعمرة وغيرها من الطاعات مَحْمَدةً في الدنيا، ولا ثناءً من الناس، أو حظًّا مما في أيديهم من متاع الدنيا وعرَضهِا الذي ينفَد ولا يبقى؛ فإن ذلك الشركُ الخفيُّ الذي يقول الله فيه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16]، ومِن أعظم خُدَع الشيطان وكيده للجاهلين: أن يزين لهم لفظ: (نَوَيْت)، والتشدد فيه، والتنطع البارد، وقلوبهم لا تنطوي إلا على مراءاة الناس، وحب الثناء منهم؛ فتحبَط أعمالهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
والحج: هو القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه الذي يوجب رضا الله ورحمته؛ بأن تكون النفقة فيه من مال طيب حلال، وأن يكون سخيَّ النفس بالصدقات والإحسان، غير شحيح ولا بخيل مُقتر، على الموسع قدره، وعلى المتوسط قدره، وعلى الفقير قدره،فإذا بلغ الميقات، وهو أول حد من حدود الأرض التي جعلها الله حريمًا لبيته المشرف، فلا يجاوز ذلك الحد إلا محرمًا قد تطهر وتنظف وتطيب وتجرد من ثيابه الاعتيادية، ولف نصفه الأسفل بقطعة من القماش الساذج الذي لم يفصل تفصيل ما اعتيد لبسه - كالسراويل مثلًا - وكذلك نصفه الأعلى، والقصد من ذلك العود إلى البساطة والفطرة الأولى، والتجرد من تكلفات الحياة وزينتها وريشها الذي يميز الغني من الفقير، والمأمور من الأمير،والله يريدهم ضيوفًا عند بيته، تجردوا من كل فوارق الدنيا، فهي فوارق غرور وخداع،والله يريد أن يحضرهم بمشهدهم هذا عند بيته المكرم مشهدهم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين،والله يريد أن يذكرهم يوم العرض عليه والجزاء، ليستغفروا ربهم عند بيته، ويستميحوه العفو والصفح وهم في دار الضيافة، وفي منزلة الزلفى لديه،فتلك فرصة يتيحها الكريم لنزلائه ووفده؛ ليكفر عنهم سيئاتهم، ويحمل عنهم تبعاتهم، ويرفع لهم درجاتهم، فإذا جاؤوا يوم الدِّين كانوا من الذين ابيضَّت وجوههم لما ابيضت صحفهم، وطابت أعمالهم، وزكَتْ نفوسهم وأرواحهم.
فطوبى لمن فقه عن الله حكمته في الإحرام وغيره، ونفى عن نفسه وساوس الشيطان؛ من التنطع في عقدة الحزام، أو خياطة في النعال، أو في المخلاة التي يحمل فيها بعض متاعه، أو ما إلى ذلك مما شددوا فيه وتنطعوا، وضيعوا حقيقة الدين ولب العمل الصالح،والأمر أيسر جدًّا مما يظنه أولئك المتنطعون، خصوصًا من يلبسون ثياب العلماء وينطقون بلسانهم،فالبلاء كل البلاء على العامة - وعلى الحُجَّاج خصوصًا - من أولئك الذين لا يعرفون إلا ألفاظ المتون والشروح والحواشي وما فيها من قشور ورسوم جافة، ولا يدرون ما وراء ذلك من علم وهدى وحكمة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وأئمة الهدى من السالفين رضي الله عنهم.
ألا يكفيهم في يسر الإسلام وسماحته: ما روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحلق قبل الذبح يوم النحر، فقال: ((افعل ولا حرج))، وما سُئل عن شيء قُدِّم أو أُخِّر ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)).
وأشد البلاء تلك الحيرة التي يقع فيها الحُجَّاج من كثرة الأقاويل، والاختلافات المتضاربة في الأمر الواحد، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما حج إلا مرة واحدة، فكيف يتأتى هذا الاختلاف؟ اللهم إلا مرض التفرق وحب الاختلاف، أصاب الناس في كل شيء، حتى في الأمر الذي ليس للرسول صلى الله عليه وسلم فيه إلا عمل واحد؛ لأنه لم يتكرر وقوعه منه،ولقد فتن لابسو ثياب العلماء بهذا الاختلاف والتفرق، لدرجة أن يقول الواحد منهم للعامة: من كان مذهبه كذا فلا يعمل بكلامي هذا؛ فإنه لمن مذهبه كذا،فلا بد أن ينقسم الناس في درسه شيعًا وأحزابًا، ويلجئهم ما يسمعون من كلام متضارب إلى الحيرة والاضطراب والشكوك، حتى يضطرهم ذلك إلى التهاون في الأمر كله؛ لأنهم رأوه على تلك الصورة خارجًا عن طوقهم، وإنك لتدهش لهم وقد ملكتهم الحيرة، وأحاط بهم الاضطراب، فوجموا لا يدرون ماذا يقولون ويعملون، والعلم الذي ينتظرون منه المخرج هو الذي حيَّرهم،فإذا قرأت عليهم هَدْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته هَشُّوا لذلك وفرحوا، وأشرق على وجوههم نور اليقين والاطمئنان، ومضَوا في مناسكهم راضين مطمئنين مخلصين، إلا إذا وقع عليهم غراب من الذين ينعقون بالخلاف والتفرق، فما يزال يبغِّض إليهم السنَّة ويشوهها بما يرمي الذي دعاهم إليها ويخلَعُ عليه من ألقاب الكفر والزندقة والمروق والإلحاد، حتى يعيد الشك والحيرة إلى قلبِ مَن لم يثبِّتْه الله ويهدِ قلبه.
ولقد كان في إحدى السنين الماضية أن رزق الله ركاب الباخرة - وقد كانوا في أشد الحيرة مما سمعوا من الاختلافات - برجل دعاهم إلى هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، وقرأه عليهم من حفظه، فسروا لذلك،فبينما هم جلوس يتحدثون بما أنعم الله عليهم وقع عليهم أحد أولئك الغربان، فأصغى إلى ما يتحدثون وسمِعهم يعيدون ما سمعوا من هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكفهَرَّ وجهُه واغبَرَّ واربَدَّ، وزمجر وأرغى وأزبد، وقال لهم: مَن الذي علمكم هذا؟ قالوا: فلان عالم من علماء الأزهر، قال: أعوذ بالله، هذا ضال مضل، كيف يعلمكم هَدْيَ رسول الله؟ حرام على مثلكم أن يعرف هذا، ولا يحل لكم أن تعملوا إلا بمذاهبكم، فقالوا: نحن عوامُّ لم نتعلم المذاهب، فقال: ولو، ولا ينبغي أبدًا أن تسمعوا لهذا الكلام، والذي قاله لكم ضال مضل، فقالوا له: لا والله ما الضالُّ إلا أنت أيها المقبِّحُ لسنَّة رسول الله، والمحرِّم العمل بها،فارتد خاسئًا وهو حسير.
ثم بعد أن يلتف بهذين الثوبين وقد أعرى رأسه من الغطاء، يصلي فرض الوقت - إن كان - وإلا فركعتين نفلًا، ثم يعلن أنه قد استجاب لدعوة ربه التي أذَّن بها إبراهيم ومَن بعده مِن كل متبع لملته الحنيفية، فيقول: (لبيك اللهم عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، ثم يكثر من التلبية والذكر والتسبيح، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقصد أن يكون متمتعًا، وهو الذي أمر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته وقال: ((إنه للأبد وأبد الأبد))، وقال: ((لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، ما سُقت الهديَ، ولجعلتها عمرةً))، وقد كانوا دخلوا مكة يوم السادس من ذي الحجة فأقاموا يومًا واحدًا حلالًا،والأدلة على ذلك من السنة كثيرة جدًّا.
والمتمتع هو الذي يحرم بالعمرة من الميقات في أشهر الحج، فإذا بلغ مكة أتم مناسكها من الطواف والسعي، ثم تحلل، وبقي بمكة متحللًا إلى يوم الثامن من ذي الحجة، فيحرم بالحج، ويبدأ في مناسكه، وعليه هدي التمتع، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع،وأشهُرُ الحج هي شوال وذو القَعدة وعشرٌ من ذي الحجة.
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: منَعكم بعد الإحرام ومجاوزة الميقات مانع قاهر من عدو أو مرض عن متابعة المناسك، وبلوغ البيت، ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فحقٌّ عليكم أن تقدموا إلى البيت هديًا، أي هدي يتيسر لكم على قدر غناكم وفقركم من الإبل أو البقر أو الغنم، ينحر عند البيت، أو في المكان الذي أحصرتم فيه إن لم يمكن بلوغ الهديِ البيتَ.
﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: لا تحلوا من إحرامكم الذي أحصرتم عن إتمام نسكه، ﴿ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: ينحر عند البيت إن أمكن وصوله إليه، أو في المكان الذي أحصرتم فيه إذا تعسر وصوله إلى البيت،ويدل ذلك على أن حلق الرأس هو آخر ما يُعمَل من مناسك الحج والعمرة،وقد أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وأربعمائة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بعمرة، وساقوا الهدي، فلما بلغوا الحديبية - وهي قرية مكانها بجوار الشميسي الآن - منعهم المشركون من دخول مكة وإتمام مناسكهم، وعقدوا معهم الصلح المعروف بصلح الحديبية، ومن شروطه: أن يرجعوا عامهم هذا ثم يعودوا من العام القابل معتمرين، على ألا يبقوا بمكة أكثر من ثلاثة أيام،وليس في السنَّة ما يدل على أن كل من أحصروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ست عادوا معه لعمرة القضية في سنة سبع،وهذا يدل على أن الواجب إنما هو القضاء من العام القابل على المستطيع،ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربع عُمَرٍ، هاتان الثنتان في سنة ست، فأحصر ومنع، ثم في سنة سبع أتم نسكه في ذي القعدة وعاد قبل دخول ذي الحجة، والثالثة عمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان بعد فتح مكة وغزوة حنين وتفريق غنائمها،والرابعة أهلَّ بها في ذي القعدة مع حجته في سنة عشر،ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة.
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ [البقرة: 196] يضطره مرضه إلى لبس شيء من ثيابه العادية، ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ﴾ [البقرة: 196] مِن نحوِ قملٍ أو صداع يضطره إلى الحلق أو التغطية، ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فواجب عليه إذا كان كذلك أن يفدي عن لبسه وحلقه بأحد هذه الثلاثة،وفي صحيحي البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على كعب بن عجرة رضي الله عنه في الحديبية وقد حصرهم المشركون، وكانت له وفرة، فجعلت الهوام - القمل - تتساقط على وجهه، فقال: ((ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟)) قلت: لا، [قال]: ((صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك))، ولم يحدد له النبي صلى الله عليه وسلم مكانًا للفدية، ولا سنًّا معينة للشاة،والأولى أن تكون بمكة إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: من العدو الذي كان قد أحصركم، أو بزوال المرض الذي كان بكم، ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فمَن أهلَّ مِن الميقات في أشهر الحج بالعمرة وتابع مناسكها حتى أتمها وتحلل منها وبقي بمكة حلالًا حتى يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة) فأحرم بالحج - فهذا هو المتمتع، وعليه ما استيسر من الهدي؛ بدنة أو بقرة أو شاة، وقد سماه الله هديًا، فله أن يأكل منه، بخلاف دم العقوبة؛ وذلك لأنه أحرم بالحج من مكة، وهي ليست بميقات له، وإنما هي ميقاته مؤقتًا بوجوده فيها بعد التحلل من العمرة،وله أن يذبحه قبل منًى أو فيها أو بعدها بمكة بعد فراغه من المناسك.
﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ [البقرة: 196] هَدْيًا ولا ثمنَ هَدْيٍ، ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 196] يعني بمكة قبل إحرامه بالحج، أو بعد إتمامه لمناسكه، ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 196] إلى بلادكم، وذلك تخفيف من الله، فإذا تيسر له صيام العشرة كلها بمكة، لم يكُنْ بذلك بأس ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 196]، فإن كان من أهل مكة فليس عليه عمرة، لأن العمرة: تعمير البيت بالطواف، والمكي حاضر البيت، يعمره كل ساعة بالطواف، إنما العمرة للآفَاقِيِّ الذي لا يكون بمكة، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 196] راقبوه في أعمالكم، واخشَوْه أن يرى في أعمالكم نقصًا ظاهريًّا أو معنويًّا، وعدوانًا في مناسككم، أو رجوعًا إلى الوثنية الجاهلية من عبادة الموتى، واعتقاد البركة في الأحجار والأشجار، يحاول الشيطان أن يبطل بها أعمالكم، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196] لِمن يتعدى حدوده، أو يعود للجاهلية بعمله أو عقيدته؛ كمثل ما يصنعه كثير من العوام في التمسح بالحديد المنصوب على مقام إبراهيم، وتقبيل كل جدران الكعبة وكسوتها، والتمسح بها، وأخذ البركة - بزعمهم - منها، وأخذ خيط يقيسون به مقام إبراهيم أو باب الكعبة يعقدونه عقدًا؛ يعتقدون أن من تعلَّقَتْ ذلك الخيط تحمل ولو كانت عقيمًا،وكذلك تقبيل شباك النحاس المقام على القبر الشريف، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء المشركين لآلهتهم؛ مثل: يا رسول الله، اشفع لي، يا رسول الله، أغثني، يا رسول الله، أنت لها ولكل كرب؛ فكل ذلك وأمثاله عدوان أشد عدوان، وظلم أشد ظلم، يعاقب الله عليه أشد العقاب، وقد أخبر الله عن فاعله بأنه ﴿ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وأنه رجس ونجس، فِعله تحقير للكعبة، وإهانة للمشاعر الحرام، وإيذاء لله ولرسوله.
قول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197] شوال وذو القعدة وذو الحجة، أو عَشْر من ذي الحجة؛ يعني أن من أهل بالحج من الميقات في أي يوم من هذه الأيام انعقد حجًّا، بخلاف بقية أيام السنة، فلا ينعقد فيها حج مهما أهل به، وإنما تنعقد العمرة فقط، فليس للعمرة أشهر معلومة، وقد سبق أن عُمَرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة،وقد كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج مِن أنكر المنكرات بجهلهم وتقاليدهم الخرافية، فأبطل الله ذلك مِن زعمهم، وجعل أفضل النسك التمتع؛ ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ [البقرة: 197]، وعقَده بالإحرام من الميقات، أو عقد العمرة كذلك ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ [البقرة: 197]؛ فقد دخل بذلك في حضرة القدس التي لا ينبغي لها إلا كل الأدب، ومكارم الأخلاق، وذكر الله، وترتيل القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن مَن كان بحضرة الملوك ينبغي له أن يتأدب بأدب الملوك، وتحضر نفسه عظمة الملوك وهيبتهم، وتملِك كل مشاعره وحواسه، فلا يتحرك ولا يتكلم إلا في مرضاة الملك الأجلِّ الأعلى، الذي تكرم عليه فأضافه تلك الضيافة التي ليس أكرم ولا أنعم منها، وليس كل الناس يصلح لتلك الضيافة الكريمة.
يتبع