الانتصار على الشهوة
سامي بن خالد الحمود
1) أنواع المخلوقات بالنسبة إلى تركيب الشهوة:
من عجيب خلق الله - تعالى - أنه خلق الخلق من حيث وجود الشهوة على ثلاثة أصناف قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قال قتادة: خلق الله - سبحانه - الملائكة عقولاً بلا شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان وجعل له عقلاً وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم" (عدة الصابرين ج1 ص15).
* الفائدة من هذا الكلام في تركيب الشهوة: أنه لا بد من وقوع آثارها:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان ... فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنساناً بل كان ملكاً، فالترتب من موجبات الإنسانية كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))(مفتاح دار السعادة ج1 ص297).
2) الحكمة من تركيب الشهوة في الإنسان:
ذكر أهل العلم عدة حكم لتركيب الشهوة في الإنسان، منها:
أ- التكاثر والحفاظ على النسل: قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في آدم وحواء: "ثم لما أراد الله - سبحانه - أن يذرّ نسلهما في الأرض، ويكثره؛ وضع فيهما حرارة الشهوة، ونار الشوق والطلب، وألهم كلاً منهما اجتماعه بصاحبه، فاجتمعا على أمر قد قدر" التبيان في أقسام القرآن ج1 ص205.
ب- الابتلاء والامتحان: قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد، وقالوا: كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وُعِدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم، ولسان حال أكثرهم يقول: خذ ما تراه، ودع شيئاً سمعت به. فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان، وبصيرة رأى؛ في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها، وحقيقة الدنيا، وسرعة انقضائها. شفاء العليل ج1 ص265، ولهذا سئل عمر بن الخطاب: أيما أفضل؟ رجل لم تخطر له الشهوات، ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: "إن الذي تشتهى نفسه المعاصي، ويتركها لله - عز وجل - من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم" (الفوائد ج1 ص110).
ت- الإقبال على الله والانكسار بين يديه: فإن وقوع العبد في آثار الشهوة من الذنوب من أسباب التوبة والندم، والانكسار والذل لله - تعالى -، وقال أيضاً: العبد قد بلي بالغفلة والشهوه والغضب، ودخول الشيطان على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، فإذا أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبواب التوبة والندم، والانكسار والذل، والافتقار والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمة، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقاً وجلاً، باكياً نادماً، مستحياً من ربه - تعالى - ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له؛ فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت وفعلت، فيورثه من العجب والكبر، والفخر والاستطالة؛ ما يكون سبب هلاكه. (الوابل الصيب ج1 ص14).
ث- التشويق إلى ثواب الآخرة، والرغبة فيه لأنه أكمل من شهوات الدنيا؛ فإن الإنسان إذا أدرك شيئاً من لذات الدنيا قاس عليه من باب أولى اللذة التامة في الآخرة، فيعظم طلبه لها.
3) من أنواع الشهوة:
* تطلق الشهوة على المصدر أي الفعل، كما تطلق على الأمر المشتهى وهو المفعول قال ابن تيمية: "الشهوات جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمى المشتهى شهوة تسمية للمفعول باسم المصدر قال تعالى: (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) "(مجموع الفتاوى ج10 ص571).
وقد ذكر الله لنا أنواعاً من الشهوات التي جبلت النفوس على محبتها، وهي: قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(آل عمران:14) ففي الآية ذكر أنواع من الشهوات وهي: النساء، والبنين، والأموال، والحيوان، والحرث، وقدّم الله أشد الشهوات وأقوى الفتن وهي النساء، فإن فتنتهن أعظم فتن الدنيا، ثم ذكر البنين المتولدين من النساء، ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل، وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده، ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهم، وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها، والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث"(بدائع الفوائد ج1 ص85).
* ومن الشهوات أعراض قلبية مركوزة في النفس البشرية: كالعجب والخيلاء، والقهر والاستعلاء، والغضب، وحب الثناء والمدح، وحب الميل إلى النوم، والإخلاد إلى الراحة، وهذه الأعراض مما لا يكاد يسلم منه إلا من عصم الله فمقل ومكثر.
* ومنها: حب الرئاسة فإنه الشهوة الخفية كما قال شداد بن أوس - رضي الله عنه -: "يا بقايا العرب يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية" قيل لأبي داود: ما الشهوة الخفية قال: حب الرئاسة." (رسالة في التوبة ج1 ص233).
4) المشاهد الحيوانية في الشهوة:
إن من عواقب الشهوة أنها تفسد الطبع والنفوس حتى تلحق الإنسان بالحيوان الذي تسيره الشهوة، وتحكم سلوكه، وقد ذكر ابن القيم أن أهل الشهوات متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها:
"فمنهم من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها، وحماها من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، همه شبع بطنه من أي طعام اتفق ميتة أو مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحى من قبيح.
ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكدر والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة.
ومنهم من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته.
ومنهم من نفسه فأرية، فاسق بطبعه، مفسد لما جاروه.
ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه، فيُدخل الرجل القبر، والجمل القدر.
ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوى عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء فلا يحفظها ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله.
ومنهم من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان، وأغلظه كبداً.
ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد.
وأحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً، وكذلك الغنم". (مدارج السالكين ج1 ص403).
5) المنهج الصحيح في التعامل مع الشهوة:
قال ابن تيمية [بعد أن ذكر حديث الثلاثة المتزهدين]: "والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صوماً وصلاة، وقد خالف هذا بالتأويل، ولعدم العلم؛ طائفة من الفقهاء والعباد" (اقتضاء الصراط ج1 ص105).
وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي إنما تذم إذا أعقبت ألماً أعظم منها، أو منعت لذة خيراً منها، وتحمد إذا أعانت على اللذة الدائمة المستقرة وهي لذة الدار الآخرة ونعيمها الذي هو أفضل نعيم وأجله. روضة المحبين ج1 ص156.
6) عواقب اتباع الشهوة:
أ- مرض القلب: ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن قال - تعالى - في مرض الشبهة: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)، وأما مرض الشهوات فقال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقتين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) فهذا مرض شهوة الزنا. (زاد المعاد4 ص5). الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه، وسامه سوء العذاب، وصار كعصفور في كف طفل يسومها حياض الردى، والطفل يلهو ويلعب. (روضة المحبين ج1 ص103).
ب- الضلال عن الحق بسبب سكر الشهوة: قال - تعالى - في قوم لوط: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وهذا السكر أشد من سكر الخمر، فإن سكر الخمر يكون يوماً أو قريباً من يوم، وأما سكر الشهوة والمحبة الفاسدة فقوي دائم، وقد يصل إلى الجنون.
قالت جننت على رأسي فقلت لها *** العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه *** وإنما يصرع المجنون في الحين (قاعدة في المحبة ج1 ص83).
ت- الشهوة بريد الكفر والخروج عن الدين: فإن الشهوة خطوة من خطوات الشيطان التي يتدرج بالعبد عن طريقها حتى يفسد عليه دينه، وقد يخرجه منه قال عدي بن ثابت: "كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه، وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت، وكان لها إخوة، فأتوه بها، فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها، فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب، ثم أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً كبر علي ذكره، فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم، فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك هذا، وألقيتك فيه، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك؟ قال: نعم، قال: تسجد لي سجدة واحدة، فسجد له، وقتل الرجل، فهو قول الله - تعالى -: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين). (روضة المحبين ج1 ص189).
ث- الحجب عن الرب - جل وعلا -: فإن العبد إذا قدم شهوته على مراد ربه عرض نفسه للحجب والجفاء بينه وبين ربه، فإن أراد الله خذلانه وكله إلى شهوته، وتركه محجوباً عنه، وإن أراد الله عصمته نغص عليه الشهوة، وحال بينه وبين اللذة المحرمة حتى لا تكون حجاباً بينه وبينه. (مدارج السالكين ج2 ص454).
يتبع