عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-01-2020, 01:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,111
الدولة : Egypt
افتراضي رد: يونس بن عبيد ... قدوة المسلم المعاصر

يونس بن عبيد ... قدوة المسلم المعاصر
وليد نور


وتعريف يونس بن عبيد هو تعريف شامل للورع فهو لا يقصر الورع على الناحية المالية فحسب كما يظن الكثيرون اليوم بل إن الورع يشمل كل حياة الإنسان، فالمسلم يحاسب نفسه عند كل خاطرة ويترك منها ما يضره في الآخرة.
ويوضح لنا يونس بن عبيد السبيل إلى الورع، فيقول: لا شيء أيسر علي من الورع، إذا رابني بشيء تركته، وهو يشير بذلك إلى المنهج الذي وضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الورع حينما قال: "دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك".
ويكشف يونس بن عبيد عن البعد الإيماني الذي يدفع المسلم إلى الورع ويحكم خطواته في الحياة، فيقول: "والله لو كان في الدنيا ذهب مكبوس يأخذ منها من شاء متى شاء إلا أن من أخذ شيئا حوسب به، كان الواجب على العاقل ألا يأخذ منها إلا قوتا"، فالعاقل إذا كان سيحاسب على ما يأخذه ولو كان يأخذه بدون مقابل فعليه إذا أن ينتبه لما يأخذ لأن إذا زاد في الأخذ زيد في حسابه، وبهذا البعد الإيماني ينضبط الورع في قلب المسلم.
نماذج من ورعه:
لم يكن يونس بن عبيد من أولئك الذين يحسنون الكلام ولا يجيدون الفعل، بل كان فعله يصدّق قوله، ها نحن نجده يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا فيقول عن نفسه: "إنه ليشتد علي أن أصيب الدرهم الواحد من حلال"، فهو يشتبه في أموال على الرغم من المنهج الصارم الذي اتبعه في معاملاته التجارية.
يقول مؤمل بن إسماعيل: جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال: مطرف (نوع من أنواع الحرير) بأربعمائة، فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين فنادى المنادي بالصلاة، فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهم فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة، فقال يونس ما هذه الدراهم قال ذاك المطرف بعناه من ذا الرجل قال يونس يا عبد الله هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم فإن شئت خذه وخذ مائتين وإن شئت فدعه قال له من أنت قال رجل من المسلمين قال أسألك بالله من أنت وما اسمك قال يونس بن عبيد قال فوالله إنا لنكون في نحر العدو فإذا اشتد الأمر علينا قلنا اللهم رب يونس بن عبيد أو شبيه هذا فقال يونس سبحان الله سبحان الله.
لا لقانون العرض والطلب:
وفي موقف آخر يكشف لنا يونس بن عبيد موقفه مما ساد بين التجار بما عرف بقانون العرض والطلب والذين يجيزون به مضاعفة الربح في البيع والشراء بدعوى أن القضية قضية عرض وطلب، فيروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك.
فهذا الموقف من يونس بن عبيد يبرز لنا أن للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد أخرى غير أبعاد الربح والخسارة، ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب، فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية واجتماعية، فأما الدينية فمتمثلة في نصح المسلمين وعدم غشهم أو خداعهم، ويذهب البعد الاجتماعي أكثر من هذا فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلا إذا كان يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمها، وبارك الله له فيها.
ولم يكن هذا موقفًا فريدًا من يونس بن عبيد بل كان منهج حياة، ها هو نجده تأتيه امرأة بجبة خز فقالت له اشترها فقال بكم تبيعيها قالت بخمسمائة قال هي خير من ذاك قالت بستمائة قال هي خير من ذاك فلم يزل يقول هي خير من ذاك حتى بلغت ألفا وقد بذلتها بخمسمائة.
فكان يونس بن عبيد إذا باع باع بأرخص الأثمان وإذا اشترى اشترى بأغلى الأثمان وليس ككثير من الناس اليوم، وكان من منهجه في التجارة النصح والتبيان لمن يتعامل معهم مثال ذلك أن يونس بن عبيد كان يشتري الابريسم (الحرير) من البصرة فيبعث به على وكيله بالسوس وكان وكيله يبعث إليه بالخز فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبدا حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد.
وورع يونس بن عبيد من أن يدخل ماله درهم حرام، جعله يتنازل عن أموال كثيرة بسبب الشبهة يقول مسلم بن أبي مضر: كانت بضاعة فجلسنا يوما ننظر في حسابنا ويونس جالس فلما فرغنا من حسابنا، قال يونس: كلمة تكلم بها فلان داخلة في حسابنا قلنا نعم قال لا حاجة لي في الربح ردوا علي رأس مالي وأخذ رأس ماله وترك ربحه أربعة آلاف، ويبدو أن الكلمة التي تكلم بها فلان هي كلمة زيّن بها البضاعة أو حاول أن يؤثر بها على سير البيع والشراء.
ويوضح ذلك موقف آخر ليونس بن عبيد يحكيه أبو عبد الرحمن المقري فيقول: نشر يونس بن عبيد يوما ثوبا على رجل فسبح رجل من جلسائه فقال ارفع أحسبه قال لجليسه ما وجدت موضع التسبيح إلا ههنا، وسبب إلغاء يونس هذه الصفقة هو خوفه من أن يكون لذلك التسبيح تأثير على المشتري يجعله يعجّل بالشراء أو يتعامي عن عيوب المبيع.
وبيان ذلك أن رجلاً جاء يطلب ثوبا فقال يونس لغلامه انشر الرزمة فنشر الغلام الرزمة وضرب بيده على الرزمة فقال صلى الله على محمد فقال ارفعه وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون مدحه.
ويكشف لنا يونس بن عبيد منهجه في المال، وهو منهج لو اتبعه المسلمون اليوم لاستراحوا كثيرًا، يقول يونس: إنما هما درهمان درهم أمسكت عنه حتى طاب لك فأخذته ودرهم وجب لله - تعالى -عليك فيه حق فأديته، فالمسلم لا يستحل المال حتى يكون حلالاً طيبًا، ولا يدعه عنده حتى يفوت حق الله فيه.
ويجلس يونس بن عبيد مع صاحبه عبد الله بن عون فيتكلمان عن الدنيا مثلما نتكلم عنها اليوم غير أنهما في شغل عما نحن فيه مشغولون، يقول ابن شوذب: سمعت يونس بن عبيد وابن عون اجتمعا فتذاكرا الحلال والحرام فكلاهما قال ما أعلم في مالي درهما حلالا.
بتلك المحاسبة الدقيقة للنفس والاشتباه فيما كل يملكه من أموال بلغ يونس بن عبيد تلك المنزلة العالية في الورع، وبهذا الورع دخل يونس بن عبيد باب الزهد والعبادة، فلم يكن يونس من المنقطعين للعلم ولا من هؤلاء المجاهدين في سبيل الله، ولكنه أقبل على نفسه فجاهدها في باب من أبواب العلم عظيم وهو الورع، غير أن ورعه لم يكن مقتصرًا على ورع الدرهم والدينار ولكنه ورع شمل حياته كلها، ها هو يضع منهجًا دقيقًا للسانه فيقول: إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم، ويفسر يونس بن عبيد ذلك بقوله: لا تجد شيئا من البر يتبعه البر اللسان فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار وذكر أشياء نحو هذا ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدا.
وكما حفظ يونس بن عبيد بطنه من أموال الناس، فإنه حفظ لسانه من أعراض الناس، ها هو يقول: عمدنا إلى ما يصلح الناس فكتبناه وعمدنا إلى ما يُصلحنا فتركناه، قال خالد يعني التسبيح والتهليل وذكر الخير، فهو يضن بحسناته أن تذهب للآخرين عبر الغيبة والنميمة وغيرهما من آفات اللسان.
3- محاسبة النفس:
ومن باب الورع ينطلق يونس بن عبيد إلى باب آخر من أبواب العمل الصالح، وهي محاسبة النفس حسابًا عسيرًا مقتديًا في ذلك بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، فها هو يونس بن عبيد يشكو حاله: مالي مالي تضيع لي الدجاجة فأجد لها وتفوتني الصلاة فلا أجد لها، وكان يونس بن عبيد قلما تفوته الصلاة وندرك أنه يقصد بالصلاة هنا تكبيرة الإحرام وليست الصلاة كلها كما قد يظن البعض.
ويحاسب يونس بن عبيد نفسه على الأوقات المهدرة دون فائدة، فبينما كان جالسًا يومًا مع أصحابه يحدثهم نظر في وجوههم ثم قال: لقد ذهب من أجلي وأجلكم ساعة.
ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة من محاسبة النفس إلا إذا كان الموت نصب عينيه يعلم أنه يطارده وقد يفاجئه في أي زمان أو مكان، وإذا فاجئك الموت أيها الإنسان تراك ماذا أنت فاعل؟، لقد استقبل يونس بن عبيد الموت بالبكاء، ليس بكاء على الدنيا ولا بكاء من الموت، ولكنه بكاء الصالحين، يقول أحمد بن إبراهيم: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله، فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله - تعالى -فيه، والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟.
4- الإخلاص:
ومن باب محاسبة النفس ينطلق يونس بن عبيد إلى باب الإخلاص، يقول عنه هشام بن حسان: ما رأيت أحدا يطلب بالعلم وجه الله إلا يونس بن عبيد.
ومن دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لملك الملوك، ومقتهم لأنفسهم كما قال الله - عز وجل -: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنهم إلى ربهم راجعون".
يقول يونس بن عبيد عن نفسه: "إني لأعد مائة خصلة من خصال البر، ما فيَّ منها خصلةُ واحدة"، مائة خصلة لا يجدها يونس في نفسه؟، فكم نجد نحن في أنفسنا من خصال!!.
ويصاحب الإخلاص حياة يونس بن عبيد، فيدخل عليه أحدهم فيقول: دخلت على يونس بن عبيد أيام الأضحى، فقال: خذ لنا كذا وكذا من شاة، ثم قال: والله ما أراه يتقبل مني شيء، قد خشيت أن أكون من أهل النار.
يقدم العمل ثم يخشي على نفسه من النار وعدم القبول، ليس كمثل أحدنا اليوم لا تجده يعمل وتجده في الوقت ذاته أمن على نفسه من النار، يقول الذهبي: كل من لم يخش أن يكون في النار، فهو مغرور قد أمن مكر الله به.
ويقول يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات: لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني أخشى أنهم حرموا بسببي، عبارات تنطق بنفسها ولا تحتاج منا إلى تعليق.
ويشتهر أمر يونس بن عبيد وورعه وصلاحه فيراسله أهل العلم والعبادة إلا إنه لا يقابل تلك الشهرة إلا بمزيد من التواضع ومقت النفس، يقول جعفر بن برقان: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح فكتبت إليه يا أخي اكتب إلي بما أنت عليه فكتب إليه أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذاك بعيد ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم هذا أمري يا أخي والسلام.
5- اهتمامه بالناس:
ولم يكن يونس بن عبيد منقطع عن الناس بل كان رجل عامة يدعوهم إلى الإيمان ويرشدهم إلى الصلاح ويتألم لحالهم، يقول أحد أصحابه: أتيت يونس بن عبيد فخرج إلي فقعد على باب الدار فإذا هو كئيب حزين قال قلت: يا أبا عبد الله ما الذي أرى بك؟، قال: فسكت ملياً ثم رفع رأسه فقال: ذاك والله ما أرى في العامة (المعرفة والتاريخ للفسوي).
ويتألم لآلالم المرضى، يقول عبيد الله بن سلام الباهلي: سمعت يونس بن عبيد يقول: لو أصبت درهماً حلالاً من تجارة لاشتريت به براً ثم صيرته سويقاً ثم سقيته المرضى.
ولا يتوقف الأمر عند الشعور بمصابهم بل يزيد الأمر على ذلك إلى تربيته للآخرين، فهذا "يونس بن عبيد" يقصده رجل شاكيا فقره وحاله، فيسأله "يونس": "أيسرك أن يذهب بصرك وتعطى مائة ألف؟ "، فيجيب الرجل: لا، فيسأله يونس: "أيسرك أن يذهب سمعك، وتعطى مائة ألف؟ "، فيقول الرجل: لا، فيسأله: "أيسرك أن يذهب عقلك ولسانك وتعطى مائة ألف؟ "، يقول الرجل: لا، وهنا ضحك "يونس" وقال للرجل: "انظر إذن كم معك من مئات الألوف وأنت تشكو الحاجة"!!.
ويأتي إليه رجل آخر يشكو إليه وجعاً في بطنه فقال: يا هذا إن هذه الدنيا دار لا توافقك فالتمس داراً توافقك، هكذا يوجه يونس بن عبيد الشاكي إلى الاهتمام بأمر الآخرة متبعًا في ذلك منهج التربية بالموقف.
ويمر يونس بن عبيد على قوم يختصمون في القدر فيقول لهم لو شغلتكم ذنوبكم ما اختصمتم في القدر، هنا يوجه يونس بن عبيد هؤلاء النفر إلى ما يهمهم وينفعهم في الدنيا والآخرة.
وعرف يونس بن عبيد لما لأهل البدع من خطر وخطورة فحذر منهم ومن مجالستهم، فها هو رجل يأتيه فيقول له: أتنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد وقد دخل عليه ابنك قبل فقال له يونس اتق الله فتغيظ فلم يبرح أن جاء ابنه فقال يا بني قد عرفت رأيي في عمرو فتدخل عليه فقال يا أبت كان معي فلان فجعل يعتذر إليه فقال أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر ولأن تلقى الله - عز وجل - بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو.
هذه بعض مواقف من حياة يونس بن عبيد - رحمه الله - تظهر لنا الصورة الأكمل والأشمل للإسلام، فالمسلم الحق من يحكم الإسلام على سلوكه في مناحي الحياة كلها، من بيع وشراء وتجارة وغيرها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]