الموضوع: وقفات دعوية
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-01-2020, 11:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,720
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات دعوية



وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشة في أمر أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، فإنه كان بينهما ما يكون بين الضرائر، وكان في زينب من بعض الطباع ما يؤخذ عليها، كانت رضي الله عنها معروفة بالحدة، لكنها سرعان ما كانت تهدء ويذهب عنها الغضب، ومع هذا كله لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء على فعالها الإيمانية، فقالت: هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنـزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله عز وجل وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به، ما عدا سَورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة.[12] أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها.

فهذه همستان في أذن الدعاة والمربين نقتطفها من موقف عائشة رضي الله عنها: الأولى: همسة في أذن بعض إخواننا ممن نشهد لهم بالدين وصدق الحديث وابتذال أنفسهم في أعمال الدعوة والخير، لكن تعتريهم أحياناً فورات غضب وحدة في الألفاظ، يقل أو ينعدم الانتفاع بهم حينها، فهل لهم أن يكونوا كزينب، تسرع منها الفيئة. ويغلقوا هذا الباب على الشيطان.

الهمسة الثانية: نموذج عائشة نفسها ونخاطب بمناسبته بعض إخواننا المبالغين في الشدة مما يدفعهم أحياناً إلى عدم الاعتراف بفضل ذي فضل واسع إذا زل به القدم. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله. [13]

الثالث عشر: إن المستحيل درجات، فمنه ما هو مطلق ومنه ما هو نسبي، وما من معضلة إلا وهي قابلة للتغلب عليها كلياً أو جزئياً وفي النهاية فإن الشاب يستطيع أن يعايشها ويتكيف معها وبذلك يكون أقوى منها، وبمثل هذه الروح ينبغي أن يشحن المربون أتباعهم ولا بأس أن يقال لهم بأن أعظم الكتب لم يؤلف بعد، وأن أهم المحاضرات لم تقدم بعد، وأن مهمات الأعمال الدعوية لم تنجز بعد، وكل هذا ينتظركم.

حار كثير من المفكرين في تفسير ظاهرة العبقرية والتميز، فقيل بأن العبقري ليس الذي له ذكاء حاد ولكن العبقري من تميز على أقرانه بالمثابرة الدؤوبة، وهو الذي لا يعرف الملل واليأس. وعندما سأل أديسون عن العبقرية وهو الذي سجل أكبر عدد من المخترعات في العصر الحديث قال: إنها 1% إلهام و 99% عرق جبين.

إن الصحابة رضوان الله عليهم ومن تلاهم من بناة حضارة الاسلام العريقة قد تحملوا من المشاق وشظف العيش في مجاهدتهم لنشر هذا الدين ما لا يوصف، مع قلة عتادهم ومحدودية إمكاناتهم وتفوق أعدائهم، وإن علينا أن نعلم الناشئة كيف يستخلصون الروح والمثل من ذلك.

الرابع عشر: إن الفاضل قد يقع منه خلاف الأولى.

روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.

الشاهد أن الصدّيق وهو الأفضل بلا خلاف لكن وقع منه شيء – إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت – ومثله ما حصل بين أبوبكر وربيعة بن جعفر، أخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أرضاً وأعطى أبابكر أرضاً، قال فاختلفا في عذق نخلة، فقلت أنا – أي ربيعة – هي في حدّي، وقال أبوبكر: هي في حدّي، فكان بيننا كلام فقال أبوبكر كلمة ثم ندم فقال: رد عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالك والصدّيق – فذكر القصة – فقال: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل غفر الله لك يا أبابكر، فقلت، فولى أبوبكر وهو يبكي[14]. لا نقاش أن أبوبكر هو الأفضل والأكمل، لكن لا ننسى أنه بشر فببشريته يقع منه أحياناً خلاف الأولى الذي ينبغي أن لا يقع من مثله لكن في جميع المواقف تجد أن الصدّيق كان رجّاعاً إلى الحق، بل وبسرعة لماذا؟ لأنه كان هو الأكمل ديناً، فصاحب الدين هو الذي يسرع في الرجوع إلى الأولى، فهاهنا أهمس في أذنك بإشارتين:

الأولى: قد يقع ممن تتعامل معهم وترى أنهم قدوات لك، أقول قد يقع منهم خلاف الأولى في بعض المواقف، فلا ينقص ذلك من قيمتهم، ولا تنظر إليهم نظرة دنوّ، فإنهم بشر وما حصل منهم إنما هو بسبب بشريتهم

الثانية: قد تقع أنت في خلاف الأولى ويحصل منك مواقف لا ينبغي لمثلك أن يقع فيها، فلا سبيل إلى رجوعك للحق بسرعة إلا أن تكون صاحب دين متين فاحرص على تقوية دينك، فكلما كان الشخص أقوى ديناً كان أسرع رجوعاً

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن ذكر حديث ربيعة: وفي الحديث من الفوائد:

- فضل أبي بكر على جميع الصحابة.

- وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه.

- وفيه ما طبع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأولى كقوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا).

- وفيه أن غير النبي صلى الله عليه وسلم ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم

وذكر فوائد أخرى جميلة يمكن لمن أرادها أن يرجع إليها في الفتح.

الخامس عشر: التنافس في الخيرات بين الصالحين مشروع ولا حرج فيه لكن الأكمل هو عدم الالتفات إلى الخلق وهذا هو كمال التوحيد.

اشتهر أنه كان بين أبوبكر وعمر من التنافس في الخير، وأن كل واحد منهما كان حريصاً على أن يسبق الآخر في أعمال الخير والبر، وهذا الكلام يوافق عليه وأيضاً لا يوافق عليه، وقد أجاد شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تجلية هذه القضية بكلام لا مزيد عليه في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى في فصل تكلم فيه عن الحسد كمرض من أمراض القلوب، ثم تكلم بعد ذلك عن الغبطة المباحة وعن التنافس المشروع في أعمال الخير، ملخص كلامه أن التنافس كان من جهة واحدة، وهو من جهة عمر رضي الله عنه فقط، وهذا هو الجانب الذي يوافق عليه، والذي لا يوافق عليه أن التنافس كان من الطرفين فالصديق رضي الله عنه لم يكن أصلاً يفكر في أن ينافس عمر، وإنما كان يسبقه دائماً بطبيعة حاله وسجيته، فلم يكن يتكلف المواقف، وإنما هذه هي أعماله وهذا هو حاله، ولذا كان هو الأكمل، وإن كان فعل عمر مشروعاً لكن حال الصديق أكمل وأولى. قال شيخ الاسلام[15]: هذا وعمر بن الخطاب نافس أبابكر رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله، وأتى أبوبكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر لا أسابقك إلى شيء أبداً" قال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث: فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه، وهو أنه خال من المنافسة مطلقاً لا ينظر إلى حال غيره.

ثم ضرب شيخ الإسلام مثالاً جميلاً على صحة ما ذهب إليه فقال: وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج، حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" قال شيخ الإسلام: وعمر رضي الله عنه كان مشبهاً بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى فانه لم يكن عنده شيئ من ذلك.

ثم أتى شيخ الإسلام بمثال آخر فقال: وكذلك كان في الصحابة أبوعبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحاً، ولهذا استحق أبوعبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيئ مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته، ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيئ منه، وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبّه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه. انتهى كلامه النفيس رحمه الله.

هل عرفت يا أخي لماذا كان الصديق أكمل، لأنه لم يكن يلتفت إلى الخلق أبداً بل كان يعمل لله، وهذا هو التوحيد الذي صعب على كثير من الخلق الوصول إليه، اسمع لهذا الحديث الذي راوه الإمام أحمد في مسنده في نفس ما نحن بصدد الحديث عنه، عن قَيْسِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِيَ الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ فَقَالَ وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ يُطْفَأُ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ قَالَ ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ، قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ.

واضح حرص عمر رضي الله عنه على سبق الصديق، لكن أبوبكر لم تكن المسألة في حسابه أصلاً، فانه لا يلتفت إلى عمر ولا إلى غيره.

وبمناسبة هذا الحديث الجميل لعلي أهمس في أذنك هنا، حرص أولئك القوم على إدخال السرور إلى قلوب إخوانهم ولو بالبشارة الطيبة، فبمجرد ما سمع أبوبكر وعمر تأمين الرسول صلى الله عليه وسلم على دعاء ابن مسعود، ومعلوم أن الرسول مستجاب الدعوة، صار كل واحد منهم يرقب الصبح ليسرع إلى بشارة أخيه، فما إن انطلق عمر ووصل إلى بيت ابن مسعود، حتى وجد الصديق قد خرج، فعلم أن البشارة قد وصلت.

السادس عشر: من أوجب واجبات المصلحين، غرس الثقة بالنفس في أبناء الأمة، ومحاولة رفع مستوى احترام النفس، إن هذه الأمة لو عرفت مكانتها، وشعرت بحجمها، واعتزت بنفسها، لتغيّر شيء كثير وهذا مهمة المصلح. خذ هذا المثال: كان الطب في كوريا يدرّس باللغة الإنجليزية، فأصدر رئيس الدولة قراراً بتدريس الطب باللغة الكورية، فهاج الأساتذة وماجوا، محتجين بأن أضراراً بالغة سوف تلحق بالطلاب إذا تم ذلك، فالكورية ليست لغة حية، والمراجع الطبية المكتوبة بالكورية صفر. وكان موقف رئيس الدولة هو أنه بعد عام سوف يكون التدريس بالكورية وإلا فإن الدولة سوف تغلق الكلية، إلى أن يجد الأساتذة في أنفسهم الكفاءة لذلك. فماذا كانت النتيجة؟ خلال عام تهيأ الأساتذة لذلك وفتحت الكلية أبوابها، وسار كل شيء على ما يرام، وانتهى تدريس الطب هناك بالانجليزية إلى غير رجعة. فهل إمكانات الكورية في استيعاب العلوم أكبر من إمكانات العربية، الجواب معروف.

إذن، كيف حصل ذلك عندهم ولم يحصل في السواد الأعظم من جامعات العالم الإسلامي، الجواب أن العزيمة الحرة هناك، اكتشفت الإمكان الحضاري أما نحن فيحصل ذلك عندنا حين نشعر بضرورة احترامنا لأنفسنا. فنحن بحاجة قبل ذلك إلى معاهد ودورات وبرامج في اكتشاف النفس، ومعرفة الذات والاعتزاز بها، ولتحقيق هذا، جهد ضخم نسأل الله أن يعين المصلحين للقيام به.

السابع عشر: ربما سمعت مراراً عبارة "سلفية المنهج وعصرية المواجهة" فماذا تعني هذه العبارة؟ إن السلفية المنشودة، هي العودة بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة وقواعد تفسير النصوص لدى القرون الثلاثة الأولى. أما عصرية المواجهة المقصودة، فهو أن يدرك جيداً أولئك المصلحون الذين يهمهم أمر الساحة، أن يدركوا جيداً أن محاور المعارك القائمة بينهم وبين خصومهم وأعدائهم، ويدركوا كذلك الفلسفات والنظم العلمانية والمادية التي تغزوهم صباح مساء، ومهم جداً وهذا مطلب ملح وهو استثمار الطاقات التي بأيديهم واستغلالها أتم استغلال، فكم من الجداول والله المستعان، يذهب ماءها في صحراء قاحلة. إنه ليس من عصرية المواجهة في شيء، أن ينتقل الداعية على دابة، وينتقل منافسة المبشر في نفس الموقع في حوّامة، وليس من المعاصرة أن نواجه هذا الغزو الإعلامي الرهيب، بالشجب والاستنكار، دون أن يملك المصلحون قنوات وشبكات إعلامية، تنشر الهدي الرباني في أنحاء المعمورة. إن عدداً من المصلحين يجاهد في غير عدو، تجده ينشغل بمهاجمة وأفكار ومعتقدات، لا رصيد لها في ساحته، وفي الوقت نفسه، لا يملك أية خبرة في الأفكار الهدامة التي تستأصله وهو نائم، وتُجهض من حيويته، وتحرفه عن الطريق، فضلاً عن أن يمتلك الوسائل لمقاومتها.

خذ هذا المثال لتدرك المقصود: كم كتاباً صدر، يتحدث عن اليهود في الكتاب والسنة، وهذا بحد ذاته طيب، لكن أين ذلك الكتاب الذي يبحث في بنية التنظيم اليهودي العالمي المعاصر، وأين ذلك الكتاب الذي يكشف عن الآليات المستخدمة عند اليهود في اختراق الدول والمؤسسات أو في الأفكار السائدة لديهم، أو في المشكلات التي تجابههم، لكي نشعل فتيلها أكثر بطريقة أو بأخرى.

الثامن عشر: كثيراً من الشباب يخلط في قضية مهمة ينبغي التنبه لها وهو أنهم يطلبون من المفكر أن يكون فقيهاً ومن الفقيه أن يكون خطيباً ومن الواعظ أن يكون عالماً، ويستغربون إذا سألوا واعظاً وقال لا أدري هذا إذا تورع وقال لا أدري، وقد يُسأل المتفقه أو المشتغل بعلم الحديث عن أدق الأمور السياسية فإذا أجاب أتى بالعظائم، ويُسأل الواعظ أو الخطيب عن أدق الأمور في العقيدة أو الفقه فيجيب بإجابات غير صحيحة أو غير دقيقة، وكأن المفترض في هؤلاء أن الواحد منهم إذا أتقن علماً معيناً أن يتقن باقي العلوم؟ وبالجملة فبعض شباب الصحوة يريدون أمة في رجل، وينسون أن المواهب والقدرات موزعة بين الناس، وقد لا تجتمع عدة مواهب إلا في الآحاد من الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله جل وتعالى قد يفتح على البعض بالخطابة المؤثرة التي تلبي حاجة العاطفة والوجدان، وعلى آخر بالحديث المشوق الهادئ، وعلى ثالث بالكتابة، والناس في هذا ما بين عالم ومتعلم، وكل يستفاد منه حسب طاقته وحسب اختصاصه.

يروى أن الخليفة العباسي المأمون أراد من المؤرخ الواقدي حفظ سورة من أواسط المفصل فلم يقدر فقال المأمون: هذا رجل فتح الله عليه في التاريخ وقد وصف أحد نقّاد العلم علماء عصره وقدراتهم ومكانتهم فقال: سفيان الثوري عالم بالحديث، والأوزاعي عالم بالسنة، والامام مالك عالم بهما جميعاً. فالأمر كان واضحاً عند ذلك الجيل حول قدرات الناس ومكانتهم العلمية فلا يرفعون أحداً فوق مكانته، ولا يبخسون أحداً حقه بينما قد تلحظ اليوم أن أي متكلم أو خطيب مفوه يقال له: العالم الشيخ الداعية، وهذا خلط مرفوض وقد يؤدي إلى جعل الناس يسألون ويستفتون من لا يصلح للفتيا والسؤال.

فالواجب على شباب الصحوة أن يعلموا بأن هناك علماء، وأن هناك طلبة علم وأن هناك خطباء، وأن هناك كتّاب، فتوضع الأمور في مواضعها وترجع إلى نصابها ويستفاد من الطاقات كل في موضعه.

فالشخصية المحببة للناس الذي يتقن فن العلاقات العامة يصلح للتصدي لإرشاد الناس والتحدث إليهم، والمفكر الإسلامي قد يكون بعيداً عن هذه الأجواء، ولكن يستفاد منه في عمق الملاحظة ودراسة تطورات المجتمع وعلله وخفاياه، وقد يطلب من العالم أكثر مما يطلب من غيره، فالأصل فيه أن يكون "ربانياً" يربي الأمة ويسوسها، فإذا لم يوجد فلنستفد من كلٍّ ومقدرته وما فتح الله عليه به.

التاسع عشر: من الظواهر اللافتة للنظر في حياتنا الثقافية هذه الأيام مزاحمة الشريط المسموع للكتاب المقروء، وخاصة عند جيل الشباب الذي ضاق وقته في زحمة الدراسة وزحمة العمل. وهذا العصر هو عصر السرعة، فهو يستمع للشريط في غدوه ورواحه، وربما في المنـزل وهو يقوم بأعمال أخرى. والسماع أسهل من القراءة فالقراءة بحاجة إلى صفاء في الذهن واستجماع طاقة التركيز، ولهذا بدا وكأن الكتاب وبخاصة إذا كان من الحجم المتوسط أو الكبير ثقيل الظل على هؤلاء الشباب. وقبل أن نتكلم على أهمية الكتاب لا بد من القول بأن الشريط الإسلامي الذي يتضمن المحاضرات والدروس القيمة والخطب المؤثرة الصادقة، قد ساهم مساهمة كبيرة في نشر الوعي بين صفوف طبقات كثيرة من الناس وأعطاهم ثقافة لا بأس بها، وهو وسيلة فعالة لأسباب كثيرة منها: سهولة التلقي، وسهولة الشراء، وسرعة الانتقال، ولكن هل يغني هذا كله عن الكتاب خاصة للشباب المسلم الذي يُؤهِل نفسه ليكون داعية؟ الجواب: لا. ذلك لأن الشريط وإن كان يتضمن علماً مثل الكتاب أحياناً، ولكن طريقة السماع لا تعطي العمق الذي يعطيه القراءة، والمعلومات التي في الكتاب لا يستطيع الشريط استيعابها، وفي الكتاب تعيش مع المؤلف ومع الكلمات فتعطيك روحاً من روحها، وعندما نتكلم عن الكتاب المعاصر الذي لا يوجد في شريط والذي يتحدث عن قضايا مهمة جداً من قضايا العصر، فهل يهمل لأن حجمه فوق المتوسط فكيف إذا انتقلنا إلى كتب الأمهات والأصول مما كتبه الأجداد، وهو ذخيرة وأي ذخيرة في فهم الكتاب والسنة؟ ولا بد من الرجوع إليها وخاصة تلك التي تعتبر وحيدة في فنها، ولا نتكلم عن الكتيبات التي زاحمت الكتب أيضاً، وهي وإن كانت وسيلة ناجحة لطبقات معينة، لكن يخشى أن تصبح هي الأصل ويستسهل الناس أمثالها وينفرون من الكتاب حتى ولو كان من الحجم المتوسط.

إن ثقافتك أيها الداعية وعلمك لا يمكنك أن تبنيه إلا إذا عشت مع الكتاب، وليس مع أي كتاب، لكن مع الكتاب النافع المهم، وقبل ذلك وبعده، اعلم بأن أي شريط جيد مؤثر أعجبت به كانت هناك قراءة وكتابة من صاحب الشريط، وذلك العالم أو الداعية الذي تستمع له في الشريط قد أفنى حياته في القراءة قبل أن يقدم الشريط الجيد، وأما الاعتذار بضيق الوقت فهو حجة واهية لأن الذي ينظم وقته لا بد أن يجد وقتاً كافياً يعيش فيه مع الكتاب، وأخيراً: إن القراءة متعة بحد ذاتها وأول ما نزل من القرآن: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

الواحد والعشرون: إن أولئك الذين يزعجهم واقع مجتمعات الأمة الحالي ويتحمسون للتغيير قد يجهلون بعض السنن الربانية في التغيير التي أودعها الله سبحانه وتعالى في كتابه أو أجراها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. من هذه السنن أن الدعوات الصادقة إذا أريد لها النجاح والتمكين كان لا بد لها من قوى تؤيدها وتنصرها، قوى من التكتل الجماهيري الذي يلتف حول هدف واضح محدد. أو بمصطلح ابن خلدون: لا بد من "العصبية" التي تعني الالتحام والتعاضد والتنافر لتحقيق هدف معين، وليس المعنى المذموم لكلمة - عصبية -

وإذا كان التكتل سابقاً يعتمد على القبائل والعشائر فإنه في العصر الحديث يعتمد على جميع شرائح المجتمع الذين يلتفون حول العلماء والفقهاء، الذين يعلمون بفقههم وتفكيرهم سنن التغيير وتحويل المجتمعات والتأثير فيها، وخاصة ما نحن فيه من تعقيدات العصر. هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط عليه السلام حين قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث الله بعده نبياً إلا وهو في ثروة من قومه".

يقول الإمام الجويني رحمه الله: "ما ابتعث الله نبياً في الأمم السالفة حتى أيّده وعضّده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل عليهم السلام من اجتمعت له النبوة والأيد والقوة كداود وموسى وسليمان صلوات الله عليهم أجمعين".

فإذا كان الأنبياء يؤيدون "بثروة من قومهم" وهم مع ذلك مؤيدون بالمعجزات وخوارق العادات فكيف بغيرهم الذين يرومون التغيير بالعشرات أو المئات ويقولون نحن نتوكل على الله؟! لا شك أن المسلم يطلب العون من الله ويتوكل عليه، والله سبحانه وعد المسلمين بالنصر ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد. فهل درس هذا الموضوع بعمق وأناة أم أن مقولة: "نعمل والنتائج على الله" لا تزال هي الشائعة والأكثر قبولاً ورواجاً، مع أنها ظاهرياً صحيحة، فهي كلمة حق تستخدم في غير محلها فالقول بأننا نعمل يجب أن يمحص، إذ ما يدريك أن عملك صواب وقد أخذت فيه بالأسباب؟. نعم إذا بذل الجهد الصحيح فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أي عمل ثم يقال: "النتائج على الله". فهذا ضرب من حب السهولة وهروب من النقد وحتى نستريح نفسياً من اللوم والتقريع، وحتى مع توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل فهذا لا يكفي فلا بد من معرفة سنن الله في التغيير. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الثاني والعشرون: إن هذا الدين من جملة ما حثنا عليه المثابرة والاستمرار في العمل وأن يكون نفسنا طويلاً فلا ننقطع لأيّ عارض، ولا شك أن هذا الخلق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد. والذي يؤسف له هو فقدان هذا الخلق في الأزمنة المتأخرة عند حملة هذا الدين، ممن يهمهم أمر الإصلاح والتغيير، وليعلموا بأنه لا إصلاح ولا تغيير دون نفس طويل. ما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع، وما أن نسير خطوات حتى نمل ونتعب، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بدئ بها ثم انقطعت، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغير الوجهة من جديد، والسبب في هذا هو أن الطبع ملول، ولم نتربى بعد على الصبر والمصابرة والمثابرة. كم مرة تحمست أنك ستبدأ في حضور درس ثم قطعت بعض خطوات ثم انقطعت، كم مرة عزمت على قراءة بعض أمهات الكتب وبعد قراءة عشرات الصفحات انقطعت.

ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كبار العلماء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلاّ بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى علماء الحديث من الترحل ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلاّ بعد أن جثوا على الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلب فيها وجهات النظر.

وإذا جاز لنا التعلم من أعدائنا، فإن هذا الخلق موجود عند الغربيين، يستقرّ المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو يدعو إلى باطله، وتكون النتائج غالباً ضئيلة، فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصروا ومع ذلك لا يسأم ولا يمل. وقد يتعجب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات الغربية لا تزال تصدر من أكثر من مئة سنة وبالاسم نفسه ودون انقطاع، وبعض مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير حتى في شكلها فمقر رئاسة الوزراء في بريطانيا عمره 250 سنة ولم يفكروا بالانتقال إلى مكان أوسع وأرحب. وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم، فالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وكتاب المستشرق "دوزي" لتاريخ المسلمين في الأندلس استغرقت عشرين سنة.

إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرّج أجيالاً تربت من خلال هذه الاستمرارية. أما عادة الانقطاع فإنه لا ينتج عنه إلاّ الخيبة والندامة وقد نهانا الله سبحانه وتعالى أن نكون (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً)

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________________________________

[1] عدة الصابرين 121

[2] اغاثة اللهفان 1/145

[3] مجموع الفتاوى 35/365

[4] تهذيب التهذيب 8/463

[5] طبقات الشعراني 1/103

[6] طبقات الشعراني 1/44

[7] حلية الأولياء 6/288

[8] احياء علوم الدين 2/172

[9] طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/43

[10] مناقب أحمد لابن الجوزي ص 119

[11] صحيح مسلم 7/163

[12] سنن النسائي 7/65

[13] طبقات الشعراني 1/26

[14] الفتح 7/26

[15] الفتاوى 10/116



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]