مالك بن نبي
خالد سعد النجار
التعالم والحرفية في الثقافة:
عانت مجتمعاتنا في عصور الضعف مشكلة (الأمية) والجهل ولكنها عندما حاولت النهوض أصيبت بمرض مستعص وهو (التعالم) أو الحرفية في التعلم وحمل اللافتات العلمية (وإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيّره ضميرا فعّالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى “الوظيفة”، وهكذا يصبح العلم عملة زائفة غير قابلة للصرف، وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، فالجاهل هنا لا يقوّم الأشياء بمعانيها، ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما بحسب حروفها، وكلمة “لا” تساوي عنده “نعم” لو احتمل أن حروف الكلمتين متساوية.
وكلام هذا المتعالم ليس “كتهتهة” الصبي فيها براءة وإنما “تهتهة” يتمثل فيها شيخوخة وداء عضال، فهو الصبي المزمن) [59].
لقد تحولت اللافتات العلمية زينة تتصدر المجالس، وألقاباً للتفاخر ذلك أن نزعة المديح والألقاب قد أسرتنا منذ عهود الانحطاط، فألقاب مؤلف أي كتاب لابد أن تملأ نصف الصفحة الأولى على الأقل، فهو العالم العلامة والحبر الفهامة...
ونظرة إلى الصحف الآن التي تعيش على المدح تكفى لنعلم كم نعيش تحت أسر الكلمات الطنانة التي ليس لها معنى، وإنما هو الغرام الأحمق بمجرد الكلام، (وفى هذا ضرر كبير على كيان الأمة لأنها تفقد حاسة تقدير الأمور على وجهها الصحيح) [60]، ويصبح المثل الأعلى من هو أقدر على الكلام ولو لم يكن له أي دور اجتماعي (وقضية الجهل لا تعالج بمجرد وضع البرامج التعليمية، بل يجب أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية، وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية الجديدة) [61].
هذه نماذج لبعض الأمراض التي تعيق النهضة كما يراها مالك بن نبي، ولم نتعهد الاستقصاء، وقد يقال هنا: كيف لا يذكر أصل الداء وهو بعد الناس عن فهم العقيدة الإسلامية الصافية، عن فهم التوحيد كما جاءت به الرسل - عليهم السلام -، وللجواب على هذا نقول: إن مالك بن نبي كمفكر يهتم بشؤون النهضة والإصلاح ويشخص الأمراض الاجتماعية التي أصابت العالم الإسلامي والتي تعيقه عن النهوض، فقد يكون المسلم صاحب فهم سليم ولكن فيه هذه الأمراض، فهو يعالج هنا كالطبيب المتخصص.
2 -كان مالك بفطرته يعلم أن الرجوع إلى منهج خير القرون هو الصواب، ولذلك انتقد منهج المدرسة الإصلاحية في إحيائها (لعلم الكلام) يقول منتقداً الشيخ محمد عبده الذي (ظن كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال أن من الضروري إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس، بيد أن كلمة (علم الكلام) ستصبح قدراً مسلطاً على حركة الإصلاح الذي حاد بها جزئيا عن الطريق) [62].
(وعلم الكلام يمجد الجدال ويشوه المشكلة الإسلامية، ويفسد طبيعتها، حيث يغير المبدأ السلفي في عقول المصلحين أنفسهم) [63].
3- إن مالكًا كغيره من المفكرين وكثير من المسلمين يظنون أن العقيدة هي الإيمان بالله ولا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد يؤمن الإنسان بوجود الله، ولكنه يعرض عن عبادته والخضوع لشرعه، والرسل دعت الأمم لعبادة الله وحده، يوضح تصوره هذا قوله: (والمسلم - حتى ما بعد الموحدين - لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد كان مؤمنا، ولكن عقيدته تجردت عن فاعليتها، وإن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه) [64].
إن ضعفه في العلوم الشرعية جعله لا يتبين أهمية فهم التوحيد فهما صحيحاً، وأن الخلط في هذا الموضوع هو أس البلاء.
كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عند مالك بن نبي مقدمة للبحث عن العلاج، أو للبحث عن أسس النهضة، وكيف تبدأ؟ ومن أين تبدأ؟ إن بلداً مثل اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر [65] وهي نفس الفترة التي بدأ الحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع)؟.
السبب برأى مالك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية محددة للأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل.
(فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي وجدنا فيها حسن النية، ولكنا لانجد فيها رائحة منهج) [66] (وليس هناك تحليل منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضه فاشتد في الجري نحو الصيدلي -أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام) [67] (وواقعنا الآن إما فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري)[68].
لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق، فليس هناك دراسات عميقة وتحليلية لأمراض المسلمين، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم والأهم، وكل الدراسات تأخذ جانباً من الجوانب تركز عليه والحل الأحادي هو الغالب، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمام الهجوم الغربي الاستشراقي على الإسلام [69]، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل، غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.
والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جيدة مثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد منها كثيراً ولم تنقح ويؤخذ الايجابي منها، ويبنى عليه، وكذلك الذين جاءوا من بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهم وآرائهم، وكأنما كل من يأتي يريد البدء من الصفر، بل نستطيع القول: إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.
وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب لأن يستنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها القرآن [70]، فعندما يقول - سبحانه -: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] نجد الصحابة يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى كلمة [وَأباً] من آية (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) [عبس: 31] فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن، وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [71].
وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم.
وإذا كان للمنهج هذه الأهمية (فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً (الاستعمار والقابلية للاستعمار)، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية مشكلة مزيفة) [72].
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة الإسلامية.
الاستعمار والصراع الفكري:
إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب (الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال سياسة [73]، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري) [74] بينما نجد في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار.
ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول: “إن الأوربي يحب عالم دون بشر” ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته لكان هو الصواب [75].
وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري [76].
وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة).
(ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته) [77].
وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول: “انعقد في باريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت “شمس الله تشرق على الغرب” وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها للمؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب” [78].
ومن وسائله الماكرة، التي لا يزال يتقن استعمالها رميه للمسلم بشتى الاتهامات، بل يحاول الإيحاء بأن المسلم منبوذ القرن العشرين، وفي هذه الحالة يصبح سلوك المسلم ردود أفعال، وترفع عنده توتر طاقات الدفاع حتى يكون في حالة توتر شاذة، ويعيش إما مُتهِماً أو مُتَهماً، وفي هذه الظروف فإن مختبرات الاستعمار تصرف كل إمكانيات المسلم إلى معارك وهمية، يُسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب ولكنها معارك مع أشباح، والمسلم يظن أنه انتصر ويرتاح نفسياً، والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية كتلك التي خاضها الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو، والمشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم[79].
لقد تدخل الاستعمار في كل شيء حتى لا يترك فرصة لأي بعث إسلامي، فكانت الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تعين المفتي والإمام لا طبقاً لمشيئة جماعة المسلمين بل تبعاً لهوى المستعمرين، وبذلك تجمع في يدها أنفذ وسائل الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في المسجد لا يكون بناء على تميزه بضمير حي أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدمه للإدارة من خدمات، حتى كأنه (جاويش) صلاة، ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين مما يقض مضاجع أصحاب العقائد من المؤمنين لما يرون من أحداث غاية في الفساد: إمام جاسوس، ومفت فاسد، وقاض مرتش، وغاية الاستعمار أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة، وبذلك يكدس العقبات والعوائق على طريق النهضة الإسلامية)[80].
دور الاستشراق:
كان للمستشرقين دور بارز في محاولة تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي والطعن في الإسلام نفسه، ولكن مالك بن نبي يركز على ناحية معينة في إنتاجهم كان لها أثر نفسي سيء في أذهان المسلمين.
فبعض المستشرقين خلطوا في كلامهم بين المدح للإسلام وبين وضع السم في الدسم، هذا المدح جعل بعض المسلمين يستسلمون لنزعة الفخر والعيش مخدرين على أمجاد الماضي، وكل من أراد الدفاع عن الإسلام استشهد بكلام لأحد المستشرقين، (وهكذا يتبين لنا أن الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه (المادحون والمفندون) كان شراً على المجتمع الإسلامي) [81] (وعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، ربما يؤدى بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بسطحية نشاهد أثرها في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري) [82] وهو التفسير الذي حول القرآن إلى مادة للعلوم، والقرآن يوجد المناخ العقلي والنفسي للروح العلمية وليس هو كتاب جغرافيا أو فلك أو أحياء.. وأخيراً لابد أن نعلم أن المكر السيئ يحيط بأهله (فالاستعمار الذي يهلك المستعمَرين مادياً يهلك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ أسبانيا منذ اكتشاف أمريكا) [83]
(إن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها ووعيها) [84].
ويجب أن نعلم أيضاً أنه رغم كل هذه العوائق، استطاع المسلم التفلت من الأنشوطة التي أراد الاستعمار عقدها حول عنقه، فما زالت فطرته وإسلامه يعطيانه القوة والدافع لتلمس الطريق الصحيح.
ما هي نقطة البدء؟
الإقلاع:
الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه المسلم هو نقطة البدء، هذا الإيمان الذي يعطيه قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب التي تعترضه، ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة (فالروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية) [85] (فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، ويفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية [86] والمسلم الذي يصل إلى درجة (التوتر الروحي) يشعر بالسعادة الغامرة عندما يبني أول مسجد في المدينة ويحمل (لَبنِتَيْن) بدلاً عن واحدة) وفي هذه الحالة الروحية صبر بلال رضي الله عنه- ولم تستطع قوة في الأرض أن تخفض إصبعه وهو يقول: (أحد، أحد) [87].
هذا الإيمان يصنع المعجزات، عندما تختفي الأنانيات ويشترك الجميع عن طواعية في بناء حضارة، وفي المجتمع الإسلامي الأول كان المنافقون وحدهم يتخلفون عن أي عمل فيه تعب أو نصب، وكل الكتب والمحاضرات والخطب لا تكفي لإنشاء أمة لا ترتفع إيمانياً وأخلاقياً إلى درجة عالية، كما جاء في الحديث عن جندب بن عبد الله قال: “تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً”[88].
والقرآن الكريم وضع ضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف وهذان الحدان ينطبقان على مفهوم الآيتين الكريمتين:
أ- (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ).
ب- (إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ).
وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال الذي يبذله مجتمع طبقاً لأوامر رسالة [89].
يقول الدكتور (الكسس كاريل) معبراً عن هذه الحقيقة: (فالأمل والإيمان والحمية تؤثر في الجسم تأثير البخار في العجلة المحركة) [90] (وإذا نجحت إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى جانب العناصر المنطقية، إن الإيمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وليس العقل، والذكاء يكتفي بإنارة الطريق ولكنه لا يدفعنا إلى الأمام) [91].
هذه الطاقة الإيمانية جعلت الفرد المسلم في عصر النبوة يقسم ثروته مع أخيه الذي هاجر إليه، فالمؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار هي أول عمل تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ولولا قوة شبكة العلاقات الاجتماعية لما استطاع المجتمع الإسلامي الإقلاع باتجاه حضارة، وفي حالة تمزق هذه العلاقات قد توجد العوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) ولكنها لا تغني شيئاً، وقد يكون هناك مسلمون متحمسون وهناك أفكار ولكن الشبكة ليست قوية.
إن قصة المؤاخاة ليست خيالية، ولا هي أقرب للخيال، فالإسلام دين واقعي، وليس صعباً أن يحقق المسلمون شيئاً من هذه (المؤاخاة)، والآن توجد (إخوة إسلامية) خطابية وعظية ولكن لا يوجد (مؤاخاة) عملية فعلية، من هنا المنطلق، ومن هنا البداية.
الإقلاع باتجاه حضارة:
التوتر الروحي، أو الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان، والاندفاع فيه والحماس له حتى يأخذ عليه مجامع نفسه ويملك عليه قلبه، هو بداية الإقلاع عند مالك بن نبي كما ذكرنا في نهاية المقال السابق، فلكي نبني حضارة، أو نعيد دورة الحضارة لابد أن نصل إلى هذا المستوى من الاندفاع في تطبيق الإسلام... يجب أن تعود شبكة العلاقات الاجتماعية لتربط العوالم الثلاثة (الأشخاص، والأفكار، والأشياء) والمقصود بشبكة العلاقات هو القدرة على التعاون والتنسيق بين هذه العوالم الثلاثة واستخدام الأفكار والأشياء في محلها -المطلوب منها، والأخلاق العالية التي في ظلها يستطيع المجتمع إنتاج حضارته، والمؤاخاة الحقيقية هي إحدى الدعائم الرئيسية للإقلاع، فالطاقة الروحية التي دفعت سعد بن عبادة لأن يقول: (يا رسول الله خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت) هي التي جعلت الصحابة يحفرون الخندق حول المدينة بأدوات بسيطة، وبأيام قليلة، وهي التي كانت وراء اعتراف المرأة الغامدية، وهي تعلم أن عقوبة اعترافها هو الرجم بالحجارة، وعندما تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فرح المجتمع الإسلامي بأسره، فهو مجتمع متماسك وشبكة العلاقات فيه قوية.
هذه الطاقة ضرورية للبدء، لأن المسلم الآن قد لا يؤثر بالوسط المحيط به بقدر ما يتأثر هو بهذا الوسط [92].
في المجتمع الإسلامي الأول كانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أعلى المستويات، وعندما أفل نجم هذا المجتمع في القرون المتأخرة كان مجتمعاً مليئاً بالأفكار (الكتب والمكتبات) ومليئاً بالأشياء، ولكنها لم تغن شيئاً لأن شبكة العلاقات كانت قد تمزقت وأصبح عالم الأشخاص عاجزاً عن أي نشاط مشترك، وهذا هو الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل” [93].
كيف نعيد الفاعلية للمسلم؟ كيف نؤلف بين العوالم الثلاثة (الأشخاص والأفكار والأشياء) بانسجام وتوازن؟ كيف نعالج أكبر مرض يصيب العلاقات الاجتماعية ألا وهو مرض حب الذات أو تضخم (الأنا) عند الفرد؟.
لا تعود الفاعلية للمسلم إلا بعودة ذلك الاندفاع في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ووضع طاقات الفرد في أحسن حالاتها، وفي أقصى توترها، وهذا معنى قوله - تعالى -: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، وأحسن حالاتها أن توضع الطاقات بين حَدَّي الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء، فلا يأس من روح الله، ولا أمن من مكر الله، وأن تتناسب مع التحدي المفروض عليها فلا هو أكبر منها فتشعر باليأس، ولا هو أصغر منها فتتساهل وتسترخي ولا تقوم بالجهد المطلوب.
جاء الإسلام فوضع طاقات العرب في موضعها المناسب، فالكرم والشجاعة في الجاهلية كانا للفخر والاعتزاز، فوضعهما الإسلام في سبيل مبدأ، في سبيل الله، فالبطولة أصبحت مبرراتها في عالم الآخرة ولم تعد تدور حول (الأنا)[94].
إن المجتمع لا يتكون من (كومة) أفراد، بل بعلاقات معينة بين هؤلاء الأفراد، وإذا أخذنا نموذجا من عالم الحيوان فسنجد أنه كلما تعقدت المصلحة كلما كانت الفاعلية أكثر، هناك حيوان يعيش بمفرده، بعيدا عن نظام الأسرة، ونشاطه يسد فقط حاجات بيولوجية بسيطة، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان يعيش في مستوى أعلى من هذا، فإننا نرى العش الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من الأسرة كالنحل، فإنتاجه هنا يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية، فمن الناحية الأولى نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه، ومن الناحية المعنوية نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، نجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد تزيد مهامها على عشرة أنواع من العمل [95].
إن الفرد في المجتمع الإسلامي، وبسبب ضعف العلاقات الاجتماعية لا تقدم له الضمانات والمبررات التي تجعله يقدم أقص طاقاته، وكيف يقدمها وهو يرى الأنانية والتنافس البغيض، وقلة التشجيع، والأهم من ذلك هو عدم وجود الخبرة الكافية في العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع [96]
إن الذي يخطط للنهوض بالمجتمع الإسلامي يجب أن يكون لديه أفكار. جد واضحة عن هذه الأمور، كما أن عليه أن يكون خالياً من العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن أخلاق المغرمين بتملق الرأي العام [97] فعملية بناء كيان اجتماعي ليس بالأمر السهل، لأن العقد النفسية كما يؤكد العالم الأمريكي “مورينو” هي في العلاقة بين الأفراد فيما بينهم وليس داخل الفرد كما يقول “فرويد” [98]
وكل علاقة فاسدة بين الأفراد. تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية [99] فالذين يستطيعون ربط العوالم الثلاثة في توافق واتزان هم الذين يستطيعون تحريك القوى جميعاً في حركة دائمة الصعود، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي إلا عن صف وصفه الله - سبحانه وتعالى - بأنه: (بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف: 4][100].
توجيه الثقافة:
في هذه المرحلة المهمة من البناء يرى مالك بن نبي أنه لابد من توجيه أمور ثلاثة:
1. الثقافة.
2. العمل.
3. رأس المال.
فالانتقال من حالة الجمود إلى الحركة باتجاه حضارة لا يحتمل التجارب الفاشلة، والمسلم بسبب عقدة تخلفه يظن أن تخلفه يتمثل في نقص ما لديه من (أشياء) ولا يرده إلى الأفكار [101] بينما الحقيقة أن النشاط يصاب بالشلل عندما يدير ظهره للفكرة، كما أن الفكرة تصاب بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط، ونحن لا نستطيع بصفة عامة أن نعتبر عدد الكتب التي تخرجها المطبعة في عام دليلا على الصحة العقلية في بلد معين، فلا بد من برنامج لتوجيه الثقافة [102].
يعرف مالك بن نبي فكرة “التوجيه” فيقول: (قوة في الأساس وتوافق في السير، ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندبر هذا الجهاز الهائل في أحسن الظروف الزمنية [103]
توجيه الثقافة: الثقافة مصطلح حديث النشأة وهي مرادفة لكلمة (Culture) الإنكليزية، ويستخدمها كثير من الناس بمعنى (العلم) ولكن مدلولها أوسع من العلم، وقد عرفها مالك بن نبي بأنها (مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه) [104] فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وهي المحيط الذي يعكس حضارة معينه، والتعلم جزء من الثقافة، وعندما يصبح الهدف هو الحصول على شهادات فنحن بإزاء مرض اسمه (التعالم) ونحن قد نجد رجلا يحمل شهادات عالية ولكن ليس عنده فعالية وقدرة على حل المشكلات، بينما نجد رجلا آخر مثله في بلد آخر عنده هذه القدرة بسبب الثقافة التي تلقاها منذ صغره، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، هذه الثقافة كيف نوجهها؟ كيف نركبها من أجزائها حتى تؤتي ثمارها؟ الشرط الأول لتحقيق مشروع ثقافي هو الصلة بين الأشخاص، وهاهو القرآن يعطينا! فكرة عن أهمية هذه الصلة: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63] فأساس كل ثقافة هو بالضرورة (تركيب) و (تأليف) لعالم الأشخاص طبقا لمنهج تربوي، أي أننا نريد للثقافة أن تكون وظيفة لبناء جيل مسلم تقوم على أكتافه الحضارة الإسلامية (فالتعليم الفرنسي في الجزائر لم يمنح الجيل الجزائري الفعالية لأن الثقافة لا تشكل على مقاعد الدراسة، ولكن ضمن مجموع الإطار الاجتماعي الثقافي الذي يحيط بالفرد، والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة، ولكننا نخطئ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحل مشكلة الثقافة وحدها) [105].
العناصر اللازمة للثقافة:
في مجال توجيه الثقافة لابد من التحديد السلبي أو تصفية أسباب التدهور والانحطاط، ثم يأتي بعد ذلك التحديد الإيجابي، وإذا كانت عملية التصفية قد قام بها البعض أو أنه من السهل القيام بها، فإن التحديد الإيجابي لعوامل الثقافة هو المهم، والعناصر التي يؤكد عليها مالك بن نبي هي:
1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
2 - عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
3 - منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
4 - التقنية أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون.
أولاً - توجيه الأخلاق:
ونعنى بالأخلاق: قوة التماسك اللازمة للأفراد، هذه القوة التي استطاعت بناء المجتمع الإسلامي الأول، حتى كان الرجل يعرض على أخيه المناصفة في كل شيء وبعض هذه الأخلاق كانت من أسباب بناء المدنية الغربية، والشباب اليوم ينظرون إلى هذه المدنية في يومها الحالي ويضربون صفحاً عن أمسها الغابر ينسون أنه لولا صلات اجتماعية خاصة ما قامت هذه الصناعات ولما قام هذا العلم، ونظرة إلى جامعة من جامعاتهم ترينا أن أساسها كان دينياً قامت به جمعية خيرية دينية، بل إن كلمة دين عندهم (Religion) تعني في أصلها اللاتيني الربط والجمع [106].
ثانيا -المنطق العملي:
إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة أو العقل المجرد، فهذا متوفر فهي بلادنا، ولكن ينقصه منطق، العمل والحركة، كيف يصرف المسلم وقته؟ كيف ينفق أمواله؟ كيف يستغل علمه؟ مع الأسف إن جزءاً كبيراً من حياتنا يذهب عبثا، فالمسلم أحيانا لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، بل أكثر من ذلك، فهو أحيانا يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ولننظر إلى الأم التي تربى ولدها فهي إما أن تبلده بمعاملة وحشية، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه، إن الوهن والسخف يطبعان منطق قولها [107].
ثالثا: الذوق الجمالي:
إذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته، وهو شيء مطلوب فوق الضروريات والحاجيات، وعندما ذكر الله - سبحانه وتعالى - خلق النجوم وغاياتها ذكر منها (الزينة) (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) [الملك: 5] وكذلك عندما ذكر خلق الحيوانات (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل: 6] وقد ورد في الحديث: “إن الله جميل يحب الجمال” وذلك في معرض رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الصحابي الذي سأله عن اللباس الحسن والنعل الحسن هل هذا من الكبر. فالذوق الرفيع من العناصر الإيجابية في الثقافة، فالتناسب والتناسق في الأشكال والأشياء يعطي للإنسان راحة نفسية، والمنظر القبيح المتنافر لا يوحي بأي خيال جميل، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أزهد الناس ولكنه كان ينفر من ألوان معينة، ويشجع الناس على النظافة والاهتمام بالمظهر الحسن وخاصة في المساجد وأيام الجمع والأعياد.
إن تربية الذوق الحسن في الأمة هو جزء من ثقافتها ومؤشر على درجة ثقافتها.
رابعاً: الصناعة أو (التقنية):
عرَّف ابن خلدون الصناعة بأنها: ملكة في أمر عملي فكري [108] وهذا تعريف دقيق لما يسمى الآن (التقنية) فهي تحتاج إلى العلم والممارسة اليدوية حتى ترسخ مع الزمن وتصبح (ملكة) كما عبر عنها ابن خلدون، وهذه الصناعة لا تكون إلا في مجتمع متحضر، لأن المجتمع البدائي يحتاج إلى أمور بسيطة لا تحتاج لتقنية، فوجودها يدل على درجة التحضر والعلم، فلابد أن يكون في المسلمين فئة تتقن هذه (الصناعة) وتبدع فيها مما يناسب الإسلام والحضارة الإسلامية، وتبتعد عن شرور سيطرة (الآلة) على الإنسان، وهذا يحتاج لمجلس للتوجيه الفني ليحل نظرياً وعملياً المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعاً لحاجات البلاد [109].
وإن الإمكانيات في البلاد الإسلامية لتسمح بتكوين القيادات التي تشرف على طريقة تنفيذ هذه (التقنية) وأن تخضع لثقافة المسلم وذوقه المتميز.
هذه العناصر التي يرى الأستاذ مالك بن نبي أنها من مكونات الثقافة وأنها تحتاج لتوجيه معين لاشك أنها تصلح لكل مجموعة بشرية أو لكل أمة تبحث عن ثقافتها الخاصة، وكأن مالك استلهم هذا التحديد من علماء الاجتماع والحضارات في أوربا، وكان الأولى أن يذكر زيادة على هذا العناصر الخاصة بالثقافة الإسلامية، إن عنصر الأخلاق مثلاً أو الذوق الجمالي يتبعان عقيدة المسلم وتصوراته الخاصة، فهل يقال للمسلم يجب أن يكون عندك ذوق في الموسيقى أو النظر إلى فن التصوير؟ ! لاشك أن للمسلم خصوصياته في هذا المجال.
أهمية الاقتصاد:
لم يعد الاقتصاد في العصر الحديث من الأمور الثانوية، وما كان كذلك في القديم، ولكن العصر الحديث زاده أهمية وزادت مشاكله حدة بسبب التقارب الجغرافي، وظهور مذاهب الرأسمالية والاشتراكية التي جعلته من المحاور الرئيسية في حياتها، وبسبب جشع الغرب ومحاولته إبقاء دول العالم الثالث مستهلكة لإنتاجه (فأوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي وتكتلت في القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة “السوق المشتركة” في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي والياباني وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي سابقاً “العالم الثالث والإسلامي بوجه خاص” لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد بوسائل الاقتصاد) [110].
وليس هذا موضع تفصيل نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ولكن الذي لاشك فيه أن دولة أو أمة تعيش على فتات الموائد والإعانات من القمح والدقيق والقروض من البنك الدولي، كيف يتسنى لها الاستقلال السياسي، وكيف تبقى بعيدة عن ضغوط الشرق والغرب.
كان الطلب على الحاجات قليلاً في الماضي، ولم تقع الشعوب الإسلامية فريسة الاستهلاك، وبسبب التخطيط الاقتصادي الفاشل صار الفلاح ينتظر لقمة العيش من أمريكا، وقد كان في السابق مكتفياً هو وأسرته في مزرعته وأرضه (فالعالم الإسلامي يواجه اليوم “حالة إنقاذ” تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في المجال الاقتصادي). [111]
ونحن لا نضخم من دور الاقتصاد، ولكن ألم يكن كبار الصحابة تجاراً ومزارعين، ولابد من إعمار الدنيا بالقدر الذي لا تنخرم فيه أمور الدين أو أمور الآخرة، وكيف يكون المسلم عزيزاً إذا كان جل اعتماده على الكفار.
الاقتصاد اليوم أصبح علماً قائماً بذاته، والظروف الحالية تتطلب تخطيطاً اقتصادياً يناسب حاجات وموارد بلادنا، وإذا كان الغرب يسخر الاقتصاد للرفاهية والاستغلال، فلماذا لا يسخره المسلمون للاستقلال ونشر الدعوة والجهاد.
الإقلاع الاقتصادي:
ولأهمية هذا الموضوع كان السؤال المتبادر: كيف ينهض المسلمون اقتصادياً؟ وكيف يكون لهم اقتصاد مستقل؟ فالعالم من حولهم في سباق رهيب، المنتجون في الشمال على محور (واشنطن - طوكيو) يريدون بقاء العالم الآخر (محور: طنجة - جاكرتا) المحطة الرئيسية للاستهلاك، (والمسلم في أول هذا القرن لاهو بالمنتج الذي يرعى حقه، ولا المستهلك الذي ترعى حاجته، لقد كان أداة عمل مستمر فقط، ولم يتكون لديه وعي اقتصادي ولا تجربة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه). [112]
وعندما حاول العالم الإسلامي النهوض تعثرت خطواته كثيراً، وفشلت التجارب التي لم تأت عن دراسة لواقع المسلمين الثقافي، بل أخذت من الشرق أو الغرب كأنها “وصفات” جاهزة لتطبيقها في أرض غير أرضها، قامت صناعات قبل أن توفر الغذاء للعامل في المصنع، واستقدموا الخبير الألماني “شاخت” ليطبق نظرياته في أندونيسيا، ولكنه فشل لأن تجربته كانت مع الشعب الألماني وليس مع الشعب الأندونيسي.
ومن الناحية النظرية، وعندما يكتب المسلمون عن الاقتصاد يبدو تأثير النظريات الغربية، فهم يحاولون دائماً إثبات أنه يمكن أن تقوم بنوك دون ربا، واستثمار دون ربا فكأن قضية المال هي الأساس الأقوى في الاقتصاد، ولا يعرجون كثيراً على موضوع الإنسان الاجتماعي (فالمعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإسلامي بنفس النمو الذي ظفر به في الغرب) [113] أو لا يعرجون على العمل وأهميته (فالعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي) [114] (وعندما كان المسلمون الأول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية)[115]
وفي مجتمع ناشئ (فإن كلمة أجر تفقد معناها، لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل ولكن بجماعة يشاطرها بؤسها ونعماها، فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وإزالة الأذى عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل... وهكذا) [116]
يتبع