الموضوع: مالك بن نبي
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-01-2020, 12:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,563
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مالك بن نبي

مالك بن نبي
خالد سعد النجار





نبذة عن حياته:
وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1905م)، ونشأ في أسرة فقيرة؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي وحمل معه كل أملاك العائلة، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي حياً من شهوده. [4]
انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة نوعاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة؛ فحفظها الطابع البدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية، وفي المرحلة التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على المطالعة عن طريق إعارة الكتب.
تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب، وشعر أنه - وإياهم - على خط فكري واحد، وكان يقرأ (الشهاب) و (المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن باديس ولا تتلمذ عليه، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً الشيخ العربي التبسي، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ، ويعترف بعد ربع قرن: (حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة، وفي تنشئة غير كافية في الروح
الإسلامي) [5].
ويتابع الحديث عن الأسباب الاجتماعية: (فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها)[6]. وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري
بدوياً، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً،
فقد تبين لنا أسباب جفائه لزعماء جمعية العلماء وهو شاب، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له موقف مبني على أسس عنده سنتكلم عنها إن شاء الله.
بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف من خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف - على رجل الفطرة الذي يستضيف أعضاء المحكمة رغم أنهم حكموا عليه بالضرائب والغرامات، ثم عمل موظفاً في
محكمة (أفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر، وهناك أيضاً تعرف على الكرم العربي والفطرة الصادقة: (فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذاك النبل في عروق البدوي). [7]
وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن يفسده الاستعمار، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها؛ فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام (1930م) في محاولة للانتساب إلى معهد الدراسات الشرقية، ولكن طلبه رُفض؛ لأن الدخول لهذا المعهد - كما يقول هو -لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي. انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا، وهذه الدراسة أعطته بُعداً آخر يقول عنها: (فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد-أول ما يتسم-بمَيزات الضبط والملاحظة).
ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية.
تخرج مهندساً كهربائياً عام (1935م) وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في البلاد العربية وغيرها، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً وسبب ذلك في رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق(الاستعمار) كان له بالمرصاد.
زار الجزائر في هذه الفترة، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل السياسي بعد المؤتمر الجزائري.
عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة: (يا أرضاً عقوقاً! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة!)، وبقي في فرنسا حتى عام (1956م) أصدر فيها باللغة الفرنسية: (الظاهرة القرآنية)، (شروط النهضة)، (وجهة العالم الإسلامي)، (الفكرة الإفريقية الآسيوية).
زار مصر عام (1956م) وبقي فيها حتى عام (1963م)، وكان له في مصر تلاميذ وأصدقاء، وزار خلالها سورية ولبنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع (مشكلات الحضارة)، وفي القاهرة أصدر: (حديث في البناء الجديد)، (مشكلة الثقافة)، في مهب المعركة، (تأملات في المجتمع العربي).
عاد إلى الجزائر عام (1963م) حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في الجزائر: (آفاق جزائرية)، (يوميات شاهد للقرن)، (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، (المسلم في عالم الاقتصاد).
استقال من منصبه عام (1967م) وتفرغ للعمل الفكري.
توفي في (31/10/1973م) في الجزائر - رحمه الله - وغفر له -.
شخصيته:
يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية، خيالية أحياناً، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد. يقول عن نفسه: (أنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ)، وقد بكى عندما اندحر الجيش الفرنسى أمام ألمانيا عام (1940م) مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى، ويعلق هو على هذا التصرف: (رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم) ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق العنان للدمع.
هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحانية الهند كما يسميها، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يكتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن الآسيوي لمساعدة ابن سعود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية، وطبعاً لم يستجب (الميكادو) لطلبه!
وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتلك القدرة الفائقة على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع المجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون، حيث تلتقط الذاكرة كل جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتائج التي يرتضيها، يقول عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة:
“فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة، أما في (أفلو) فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح”.
وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت المحاولة؛ فعلق قائلاً: “ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين مثقفيه”.
هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال أحياناً جعلته يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على “مؤتمر باندونغ”وظن أنه سيحل مشكلة العالم الثالث، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمى[8]. كما استمر النقد التحليلى للمجتمع الإسلامي ومواطن الضعف فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده، يقول: “إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه”.
ويكتشف مالك جرثومة المرض، فالذين تركوا الطواف حول القبور وأخذ البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحولوا إلى الطواف حول وثن جديد وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات [9]، ولأن العمائم أسلمت القيادة إلى (المطربشين)؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية).
العوامل المؤثرة في ثقافته:
1 - وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال الفرنسي للجزائر، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته، ومن ثم لتحويله إلى فريسة سهلة الالتهام، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث لا يسمح (لابن البلد) إكمال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية، وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها، وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبناء البلاد إلى أبناء المستعمر؛ فاليهودي دائماً كان يقرض بفائدة 60%، وعندما درس في فرنسا وعاش مع الجالية الجزائرية رأى الاستعمار من زواياه المختلفة، وشعر بخبث الأساليب التي يقوم بها لتمزيق العالم الإسلامي.
2 - القراءات الغزيرة المتنوعة، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في الابتدائية، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية، وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة، ولا شك أن هذا الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له أثر عليه أيضاً، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر للحضارة الإسلامية، وكانت نغمة (الإنسانية) و (العالمية) سائدة عند الفلاسفة الغربيين، ونجد مالك يكررها فيتكلم عن حضارة اليوم التي تسير نحو الشمول والعالمية [10] ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين والعلم مثل قوله: (إن الطبيعة توجد النوع... ) [11] أو وهبته الطبيعة.
3 - ثقافته الإسلامية: يعترف مالك بأن الذي كان يرده عن الغلو في هذا الاتجاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد والفقه، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشرق العربي مثل: (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و(رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، و(طبائع الاستبداد) للكواكبي، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي يصدرها الشيخ ابن باديس، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة عودة الوعي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي يعتبرها امتداداً لما قام به ابن تيمية في التجديد، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصلاح وإن اختلف معهم بعدئذ، ولبُعده عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير، وأنه لابد من الرجوع إلى طريقة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعبر هو، والحقيقة أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.
4 - ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الفقر الشديد في طفولته، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل، سواء في الجزائر أو فرنسا، فقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة (ليون) بفرنسا، فكان يحمل الأكياس على ظهره، ومرة باع بعض ملابسه حتى يوفر وجبة غداء، وبعد تخرجه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية والإسلامية ولكن دون جدوى.
هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره - وهو صغير - الدور المترفة التي كانت تفضح أمام ناظريه بؤس أقاربه، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة، وكان يعجبه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والتي كانت تركز على موضوع الفلاح الجزائري وبؤسه.
هذا ما يفسر لنا ميله للدول التي بدأت بتطبيق الاشتراكية كالجمهورية العربية المتحدة والجزائر بعد استقلالها وبتأثير من هذه الدول كان يظن أن الاتحاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب!
مشكلة الحضارة:
ينطلق فكر ابن نبي من سؤال لا يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية وهى تطرق الأبواب وتدخل من كل المنافذ، وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس؟. وكانت الإجابة عن هذا السؤال هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب. بل إن كثيراً منهم كانوا (لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه)[12]، وأما الإجابة المتبادرة: (لابد من العودة للدين) فهي وإن كانت صحيحة بلا شك ولكنها بحاجة إلى تفاصيل، فعندما ندخل في عمق الموضوع ونبدأ بالعمل سنجد أن هذا المسلم المقتنع بهذا الجواب يحمل بين جنتبيه أمراضاً اجتماعية وفكرية ونفسية تعيقه عن فهم الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، ليتحول هذا الفهم إلى فعالية للتغيير، وهذه الأمراض كانت نتيجة تراكم عصور من الابتعاد عن العلم النافع والعمل المثمر، فالأمة الإسلامية (كالفارس الذي أفلت الركاب من قدميه ولم يسترده بعد، فهو يحاول أن يستعيد توازنه) [13]
كيف نصوغ عقل هذا المسلم مرة أخرى حتى يعود إلى فعاليته؟ من هنا ينطلق ابن نبي ليقول: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها)[14].
فالمسلم الآن لا يعيش حالة “حضارة” وإنما هو من بقايا حضارة وهي الحضارة الإسلامية طبعاً، ولابد من إدخاله مرة ثانية في دورتها، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل البعثة مثلاً) هو مثل جُزَيء الماء قبل وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء، فهذا الجزيء منطو على طاقة مذخورة، قابل لتأدية عمل نافع، ولكن هذا الجزيء يفقد طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وإذا أردنا أن نعيد له قوته علينا أن نرفعه مرة ثانية إلى مكان عال، أو أن يتبخر ثم يتكثف ليعود جزءاً من طاقة مائية تقع قبل خزان معين) [15].
ورفع المسلم إلى هذا المكان السامق لا يتم إلا بشحنة إيمانية عالية وأخلاق كأخلاق الصحابة، ولا يتم هذا إلا (بتوتر روحي) حسب تعبير مالك.
ماذا يقصد بالحضارة؟
(هي: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده - في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية) [16]
أو: (هي: إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ) [17].
(هي ليست كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية في أي مجتمع كان، ولكنها شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية واستعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة) [18]، وهي جوهر الوجود للمجتمع، وعكسها هو: الهمجية والعودة إلى البدائية المترحلة [19]، فالعرب انتقلوا بالإسلام إلى حضارة، والشعوب الأخرى انتقلت بعقيدة من العقائد إلى حضارة، فهي قدرٌ محتوم لمجتمع يتحرك لبناء نفسه ولأهداف معينة.
أما العوامل التي تشكل الحضارة؛ فقد صاغها على شكل المعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
ولكن هذه المعادلة لابد لها من مُركّب أو مفاعل، وهذا المركب هو (الدين) سواء كان ديناً حقاً كالإسلام، أو بقايا دين أو عقيدة تبلغ عند أصحابها مبلغ الدين في الحماسة لها والتضحية في سبيلها.
(لكي نقيم حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها) [20]. فالحضارة لا تستورد ولا تفصل لكل أمة على مقاسها، وهي التي تلد منتجاتها وليس العكس.
من هذه التعاريف يتبين لنا أن: ابن نبي له تعريفه الخاص للحضارة، فهي شكل راق من الحياة الأخلاقية والمادية، وهناك حضارة إسلامية، حضارة غربية... إلخ.
وحسب تعريفه هذا: فإن الصين الحديثة أقلعت باتجاه حضارة، فقد اجتمع لها الحماس للفكر واستخدام التراب والوقت، وقبْلها اليابان وروسيا... ورغم أهمية هذه المعادلة بالنسبة للعالم الإسلامي الذي لم يقلع بعد. ورغم نقد أبن نبي للحضارة الغربية المادية وجشعها، فإن رائحة المادية تفوح من هذه التعاريف، فروسيا أقامت نهضتها الصناعية بعد أن قتلت وشردت الملايين، وقُل مثل ذلك في الصين، فهل المهم هو استغلال الوقت والتراب ولو على حساب الإنسانية؟! وأما العنصر الأخلاقي أو الروحي (Ethes) أو ما أسماه (الفكرة الدينية) التي يكون أصلها من السماء، فقد استوحاها من (كسرلنج) الذي يقول: (وكان أعظم ارتكاز حضارة أوربا على روحها الدينية).
ويعرف الروح الدينية: (ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء)[21].
فهذا المفكر يعتبر أن (الروح المسيحية) و(مبدأها الخلقي) هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وأخذ عنه أيضاً وعن (شبنجلر) تقسيمه لدورة الحضارة إلى المراحل الثلاث: روحية، وعقلية، وغرائزية، وإن كان ابن خلدون قبلهم قد قال بمثل هذا ولكنه تكلم على الدول ولم يتكلم عن الحضارات، ومقولة: (أنه لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها) صحيحة من حيث الجملة، وقد قال بها ابن تيمية أيضاً [22]، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا موضع الخطورة والنقص، فالمفكر (كسرلنج) عندما يتكلم عن النصرانية يتكلم عنها كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ أخلاقياً فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب والتشريعات.. وما يعتبر فناً رائعاً عند من يكتب عن الحضارات يعتبر حراماً في الإسلام.
والواقع أن ابن نبي غير واضح في هذه المسألة، فنراه واعياً لمسألة الشمولية عندما يعتبر العصر الراشدي هو النموذج دائماً وتعاطفه وتأييده للحركات الإسلامية، مثل: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة جمعية العلماء في الجزائر، وربما يكون ضعفه في العلوم الشرعية هو الذي جعله يقع في أخطاء توحي بعدم الشمولية، وخاصة في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك فإن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان، ولذلك سنمضي معه في وقفته الطويلة عند هذا الموضوع.
إن ارتفاع المسلم إلى مستوى “حضارة”(فيتعلم كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية) [23]، ويتعلم كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص)، هذا الارتفاع لابد منه وهو المطلوب الآن، بينما نرى في الواقع أن المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يستطيع مجابهة مشاكله وكيف يحلها، لأنه تعلم وأخذ شهادات مدرسية ولكنه لم يتثقف، ولم يتشرب من بيئته في المنزل والمدرسة كيف يكون فعّالاً، وكيف يقوم بأعمال مشتركة مع الآخرين، والإسلام عندما رفع العرب إلى مستوى (حضارة) عدّل من طباعهم حتى تكون وسطاً، ووضعهم بين حدّي الوعد والوعيد، وعدل من غرائز الإنسان ولم يكبتها (حرّم الزنا وشجع الزواج)؟، وهكذا دخل العربي وغير العربي في حضارة الإسلام، وأصبحت شخصية المسلم شخصية سوية ليس فيها عُقد نفسية أو اجتماعية، وعندما عُزل خالد بن الوليد رضي الله عنه- عن قيادة الجيوش في الشام لم يُحدث عزله أي مشكلة، ولو حصلت هذه الحادثة بعد بضعة عقود من السنين لزلزلت الأرض.
والمسلم الذي هو (خارج من حضارة) -كما يعبر مالك بن نبي- يتصرف بأنانية مفرطة، قد تضخمت عنده (الأنا)؛ فلا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته الخاصة، ولا يستطيع أن يقوم بعمل تعاوني مع غيره، وإذا ذهبت إلى منزل هذا المسلم (الطيب) ستجد آثار تضييع المال ودون قصد منه في كثير من الأحيان، فأولاده يحطمون كل شيء، وبقايا الطعام تتناثر فوق السجاد الفاخر، والأم الجاهلة تنظر إليهم وكأن شيئاً لم يكن، ولأنه لم يرتب أموره الاقتصادية تذهب أمواله إلى أصحاب المصانع في الغرب والشرق لتكون عوناً لهم على المسلمين، مع أنه يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن (إضاعة المال). وعندما أراد بلد كأندونيسيا النهوض باقتصاده استدعى الخبير المشهور (شاخت)، ولكن خطط هذا الخبير لم تنجح في أندونيسيا ونجحت في ألمانيا الغربية، والسبب هو: أن الشعب الأندونيسي لم يرق بعد إلى مستوى (حضارة).
وعندما يتم استيراد الأجهزة الحديثة من أفضل ما أنتجته التقنية الغربية لا يستفاد منها كثيراً في بلادنا، لأنه لا يوجد جو اجتماعي ثقافي يحيط بها ويحفظها، فالنظم الاستبدادية جعلت العقول العلمية تهاجر إلى الغرب.
هذا ما يقصده مالك بن نبي عندما يبدأ ويعيد في موضوع الحضارة، وأن المسلم لا يعيش ولا يتنفس الثقافة الملائمة له، وإنما يحمل أمراض بيئته المتخلفة وهو لا يشعر، ونحن نوافقه من هذا الجانب، ولذلك سنبدأ بعرض بعض المعوقات التي يراها مانعة من دخول المسلم في (بادرة حضارة) وتعرقل مساعيه للانطلاق والنهوض.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.80%)]