شرح باب المراقبة من كتاب رياض الصالحين
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
فهذه ثلاثة أمور هي منهج الذين أنعم الله عليهم؛ ولهذا قال ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 6، 7].
الآية الرابعة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في باب المراقبة: قوله تعالى: ï´؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ï´¾ [الفجر: 14]، وهذه الآية ختم الله بها ما ذكره من عقوبة عاد ï´؟ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ï´¾ [الفجر: 7- 14]؛ فبيَّن عز وجل أنه بالمرصاد لكل طاغية، وأن كل طاغية فإن الله تعالى يقصم ظهره ويبيده ولا يبقي له باقية.
فعادٌ إرم ذات العماد، ذات البيوت العظيمة المبنية على العُمُد القوية، أعطاهم الله قوة شديدة فاستكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة؟! فقال الله عز وجل: ï´؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ï´¾ [فصلت: 15]؛ فبيَّن الله عز وجل أنه هو أشد منهم قوة، واستدل لذلك بدليل عقلي، وهو أن الله هو الذي خلقهم؛ ولهذا قال: ï´؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ ï´¾ [فصلت: 15]؛ ولم يقل: (أو لم يروا أن الله هو أشد منهم قوة)؛ قال ï´؟ الَّذِي خَلَقَهُمْ ï´¾؛ لأنه من المعلوم بالعقل علمًا ضروريًّا أن الخالق أقوى من المخلوق، فالذي خلقهم هو أشد منهم قوة؛ وï´؟ كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ï´¾ [فصلت: 15]؛ فأصابهم الله سبحانه وتعالى بالقحط الشديد، وأمسكت السماء ماءها، فجعلوا يستقون؛ أي: ينتظرون أن الله يغيثهم، فأرسل الله عليهم الريح العقيم؛ في صباح يوم من الأيام أقبلت ريح عظيمة تحمل من الرمال والأتربة ما صار كأنه سحاب مركوم؛ ï´؟ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ï´¾ [الأحقاف: 24]، حكمة من الله عز وجل، لم تأتهم الريح هكذا، وإنما جاءتهم وهم يؤملون أنها غيث ليكون وقعها أشد، شيء أقبل فظنوه ريحًا تسقيهم فإذا هو ريح تدمرهم، فكون العذاب يأتي في حال يتأمل فيها الإنسان كشف الضرر يكون أعظم وأعظم.
مثل ما لو مَنَّيْت شخصًا بدراهم ثم سحبتها منه، صار أشد وأعظم؛ ï´؟ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ï´¾ [الاحقاف: 24]؛ لأنهم كانون يتحدون نبيهم؛ يقولون: إن كان عندك عذاب فأت به إن كنت صادقًا، فجاءتهم ï´؟ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ï´¾؛ والعياذ بالله هاجت عليهم سبع ليال وثمانية أيام؛ لأنها بدأت من الصباح وانتهت بالغروب، فصارت سبع ليال وثمانية أيام حسومًا متتابعة قاطعة لدابرهم تحسمهم حسمًا، حتى إنها تحمل الواحد منهم إلى عنان السماء، ثم ترمي به، فصاروا كأنهم أعجاز نخل خاوية؛ أي: مثل أصول النخل الخاوية ملتوين على ظهورهم والعياذ بالله كهيئة السجود؛ لأنهم يريدون أن يتخلصوا من هذه الريح بعد أن تحملهم وتضرب بهم الأرض، ولكن لم ينفعهم هذا؛ قال الله تعالى: ï´؟ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ï´¾ [فصلت: 16] والعياذ بالله.
أما ï´؟ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ï´¾ [الفجر: 9]؛ فهم أيضًا عندهم عُتُوٌّ وطغيان وتحدٍّ لنبيهم؛ حتى قالوا له: ï´؟ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ï´¾ [هود: 62]؛ أي: كنا نرجوك ونظنك عاقلًا، أما الآن فأنت سفيه؛ لأنه ما من رسول أُرسل إلا قال له قومه: ساحر أو مجنون؛ كما قال الله: ï´؟ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ï´¾ [الذريات: 52].
فأنظرهم ثلاثة أيام؛ ï´؟ فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ï´¾ [هود: 65]؛ فلما تمت الثلاثة والعياذ بالله ارتجفت بهم الأرض، وصيح بهم؛ فأصبحوا كهشيم المحتظر؛ أي: مثل سعف النخل إذا طالت عليه المدة صار كأنه هشيم محترق من الشمس والهواء، صاروا كهشيم المحتظر وماتوا عن آخرهم.
أما فرعون، وما أدراك ما فرعون، فهو ذلك الرجل الجبار المتكبر، الذي طغى وأنكر الله عز وجل، وقال لموسى: ما رب العالمين؟ وقال لقومه: ما لكم من إله غيري، نعوذ بالله، وقال لهامان وزيره: ï´؟ ابْنِ لِي صَرْحًا ï´¾؛ يعني: بناء عاليًا؛ ï´؟ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ï´¾ يقوله تهكمًا والعياذ بالله، ï´؟ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ï´¾ [غافر: 36، 37]؛ وكذب في قوله: وإني لأظنه كاذبًا؛ لأنه يعلم أنه صادق؛ كما قال الله تعالى في مناظرته مع موسى، قال له موسى: ï´؟ لَقَدْ عَلِمْتَ ï´¾ يا فرعون ï´؟ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ï´¾ [الإسراء: 102]، ما أنكر، ما قال: ما علمت؛ بل سكت، والسكوت في مقام التحدي والمناظرة يدل على الانقطاع وعدم الجواب.
وقال الله تعالى عنه وعن قومه: ï´؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ï´¾ [النمل: 14].
فهم - والعياذ بالله - فرعون وجنوده يعلمون أن موسى صادق، لكنهم مستكبرون جاحدون.
ماذا حصل لهم؟ حصل لهم والعياذ بالله هزائم، أعظمها الهزيمة التي حصلت للسحرة
جمع جميع السحرة في بلاده باتفاق مع موسى عليه الصلاة والسلام وموسى هو الذي عيَّن الموعد أمام فرعون، مع أن موسى أمام فرعون يُعتبر ضعيفًا؛ لولا أن الله نصره وأيده.
قال لهم موسى: ï´؟ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ï´¾ [طه: 59]؛ يوم الزينة يوم العيد؛ لأن الناس يتزينون فيه ويلبسون الزينة؛ وقوله: ï´؟ وَأَنْ يُحْشَرَ ï´¾؛ يُجمع ï´؟ النَّاسُ ضُحًى ï´¾؛ لا في الليل في الخفاء؛ فجمع فرعون جميع من عنده من عظماء السحرة وكبرائهم، واجتمعوا بموسى عليه الصلاة والسلام وألقوا حبالهم وعصيهم - الحبال معروفة، والعصا معروفة - ألقوها في الأرض فصارت الأرض كلها ثعابين - حيَّات - تمشي، أرهبت الناس كلهم، حتى موسى أوجف في نفسه خيفة، فأيَّده الله وقال له: ï´؟ لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ï´¾ [طه: 68، 69].
فالقى ما في يمينه وهي العصا، عصا واحدة فقط؛ فإذا هي تلقف ما يأفكون، كل الحبال والعصي أكلتها هذه العصا، سبحان الله العظيم، وأنت تعجب: أين ذهبت العصا؟ ليست كبيرة حتى تأكل كل هذا، لكن الله عز وجل على كل شيء قدير، فالتهمت الحبال والعصي، وكان السحرة أعلم الناس بالسحر بلا شك، فعرفوا أن الذي حصل لموسى وعصاه ليس بسحر، وأنه آية من آيات الله عز وجل، فألقي السحرة ساجدين.
وانظر إلى كلمة (ألقي) كأن هذه السجود جاء اندفاعًا بلا شعور، ما قال: سجدوا! ألقوا ساجدين، كأنهم من شدة ما رأوا اندفعوا بدون شعور ولا اختيار؛ حتى سجدوا مؤمنين بالله ورسوله.
ï´؟ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾؛ فتوعدهم فرعون واتهمهم، وهو الذي جاء بهم، فقال: ï´؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ï´¾ [طه: 71]؛ سبحان الله! علمهم السحر! وأنت الذي أتيت بهم؟! سبحان الله! لكن المكابرة تجعل المرء يتكلم بلا عقل.
قال: ï´؟ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ï´¾؛ أقطع اليد اليمنى والرجل اليسري، ï´؟ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ï´¾ [طه: 71]، ما الذي قالوا له؟ ï´؟ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ï´¾؛ ما يمكن أن نُقدِّمك على ما رأينا من البينات! أنت كذاب لست برب، الرب رب موسى وهارون؛ ï´؟ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ï´¾ [طه: 72]؛ انظر إلى الإيمان إذا دخل القلوب! رخصت عليهم الدنيا كلها؛ ï´؟ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ï´¾؛ أي: افعل ما تريد؛ ï´؟ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ï´¾؛ إذا قضيت علينا أن نفارق الدنيا، ï´؟ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ï´¾؛ لأنه قد أكرهمم لكي يأتوا ويقابلوا موسى، ï´؟ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ï´¾ [طه: 73]؛ فالإيمان إذا دخل القلب، واليقين إذا دخل القلب لا يفتته شيء، وإلا فإن السحرة جنود فرعون، كانوا في أول النهار سحرة كفرة، وفي آخر النهار مؤمنين برره، يتحدون فرعون؛ لِمَا دخل في قلبهم من الإيمان، فهذه هزيمة نكراء لفرعون، لكن مع ذلك ما زال في طغيانه.
وفي النهاية جمع الناس على أنه سيقضي على موسى، فحرج موسى في قومه هربًا منه، متجهًا بأمر الله إلى البحر الأحمر؛ ويسمى «بحر القلزم»؛ متجهًا إليه مشرقًا، فتكون مصر خلفه غربًا، فلما وصل إلى البحر وإذا فرعون بجنوده العظيمة وجحافله القوية خلفهم والبحر أمامهم، ï´؟ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ï´¾؛ البحر أمامنا وفرعون وجنوده خلفنا، أين نفر؟ ï´؟ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ï´¾ [الشعراء: 62]، اللهم صل وسلم عليه، هكذا يقين الرسل عليهم الصلاة والسلام في المقامات الحرجة الصعبة، تجد عندهم من اليقين ما يجعل الأمر العسير - بل الذي يظن أنه متعذر - أمرًا يسيرًا سهلًا، ï´؟ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ï´¾؛ فلما فوَّض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى أوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر الأحمر، فضرب البحر بعصاة ضربة واحدة فانفلق البحر اثني عشر طريقًا؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة، اثني عشر سبطًا، والسبط بمعني القبيلة عند العرب.
فضربه، وبلحظة يبس؛ ï´؟ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ï´¾ [طه: 77]؛ فعبَر موسى بقومه في أمن وأمان؛ الماء بين هذه الطرق مثل الجبال؛ كأنه جبل واقف، الماء جوهر سيال، لكنه بأمر الله صار واقفًا كالجبال.
حتى إن بعض العلماء قال: إن الله سبحانه وتعالى جعل في كل طود من هذه المياه، جعل فيها فرجًا حتى ينظر بنو إسرائيل بعضهم إلى بعض؛ لئلا يظنوا أن أصحابهم قد غرقوا وهلكوا، من أجل أن يطمئنوا.
فلما انتهى موسى وقومه خارجين، دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا أمر الله البحر أن يعود على حاله فانطبق عليهم، وكان بنو إسرائيل من شدة خوفهم من فرعون وقع في نفوسهم أن فرعون لم يغرق، فأظهر الله جسد فرعون على سطح الماء، قال: ï´؟ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ï´¾ [يونس: 92]؛ حتى يشاهدوه بأعينهم، واطمانوا أن الرجل قد هلك.
فتأمل هؤلاء الأمم الثلاث الذين هم في غاية الطغيان، كيف أخذهم الله عز وجل وكان لهم بالمرصاد، وكيف أُهلكوا بمثل ما يفتخرون به.
فقوم عاد قالوا: ï´؟ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ï´¾؛ فأُهلكوا بالريح، وهي أصلًا لطيفة وسهلة.
وقوم صالح: أُهلكوا بالرجفة والصيحة.
وفرعون أُهلك بالماء والغرق، وكان يفتخر بالماء، يقول لقومه: ï´؟ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ï´¾ [الزخرف: 51- 53]؛ فأغرقه الله تعالى بالماء.
فهذه جملة ما تشير إليه هذه الآية الكريمة: ï´؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ï´¾ [الفجر: 14].
الآية الخامسة: قوله عز وجل: ï´؟ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ï´¾ [غافر: 19]؛ يعلم؛ يعني: الله عز وجل ï´؟ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ï´¾؛ وخائنة الأعين: خيانتها؛ فالخائنة هنا مصدر كالعاقبة والعافية وما أشبهها.
ويجوز أن تكون اسم فاعل على أنها من خان يخون؛ فيكون من باب إضافة الصفة إلى موصوفها.
على كل حال هذه مسألة نحوية ما تهم هنا، المهم أن للأعين خيانة، وذلك أن الإنسان ينظر إلى الشيء ولا تظن أنه ينظر إليه نظرًا محرمًا، ولكن الله عز وجل يعلم أنه ينظر نظرًا محرمًا.
كذلك ينظر إلى الشخص نظر كراهية، والشخص المنظور لا يدري أن هذا نظر كراهية، ولكن الله تعالى يعلم أنه ينظر نظر كراهية، كذلك ينظر الشخص إلى شيء محرم ولا يدري الإنسان الذي يرى هذا الناظر أنه ينظر إلى الشيء نظر إنكار أو نظر رضا، ولكن الله سبحانه هو يعلم ذلك، فهو سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين، ويعلم أيضًا ما تخفي الصدور؛ أي: القلوب؛ لأن القلوب في الصدور، والقلوب هي التي يكون بها الفهم، ويكون بها التدبير، كما قال الله: ï´؟ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ï´¾ [الحج: 46].
سبحان الله! كأن هذه الآية تنزل على حال الناس اليوم، بل حال الناس في القديم؛ يعني: هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟
هذه مسألة أشكلت على كثير من النظار الذين ينظرون إلى الأمور نظرة مادية لا يرجعون فيها إلى قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإلا فالحقيقة أن الأمر فيها واضح أن العقل في القلب، وأن القلب في الصدر؛ ï´؟ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ï´¾، وقال ï´؟ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ï´¾ [الحج: 46]؛ ولم يقل: (القلوب التي في الأدمغة)؛ قال: ï´؟ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ï´¾؛ فالأمر فيه واضح جدًّا أن العقل يكون في القلب، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
فما بالك بأمر شهد به كتاب الله، والله تعالى هو الخالق العالم بكل شيء، وشهدت به سنة الرسول صلي الله عليه وسلم!
إن الواجب علينا إزاء ذلك أن نطرح كل قول يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نجعله تحت أقدامنا، وأن لا نرفع به رأسًا.
إذًا القلب هو محل العقل ولاشك، ولكن الدماغ محل التصور، ثم إذا تصورها وجهزها بعث بها إلى القلب، ثم القلب يأمر أو ينهى؛ فكأن الدماغ (سكرتير) يُجهِّز الأشياء ثم يدفعها إلى القلب، ثم القلب يوجِّه، يأمر أو ينهى، وهذا ليس بغريب؛ ï´؟ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ï´¾ [الذريات: 21]، وفي هذا الجسم أشياء غريبة تحار فيها العقول، فليس بغريب أن الله سبحانه وتعالى يجعل التصور في الرأس، فيتصور الدماغ وينظم الأشياء، حتى إذا لم يبق إلا الأوامر أرسلها إلى القلب، ثم القلب يحرك، يأمر أو ينهى.
لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ»؛ فلولا أن الأمر للقلب ما كان إذا صلح صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
إذًا، فالقلوب هي محل العقل والتدبير للشخص، ولكن لا شك أن لها اتصالًا بالدماغ؛ ولهذا إذا اختل الدماغ فسد التفكير وفسد العقل! فهذا مرتبط بهذا، لكن العقل المدبر في القلب، والقلب في الصدر ï´؟ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ï´¾ [الحج: 46].
المصدر: «شرح رياض الصالحين»
[1] أخرجه مسلم (482).
[2] أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 332)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (109).