شرح باب المراقبة من كتاب رياض الصالحين
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
باب المراقبة:
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 218، 219]، وقال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، والآيات في الباب كثيرة معلومة.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - باب الصدق، وذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك أعْقَبَ هذا بباب المراقبة.
المراقبة لها وجهان:
الوجه الأول: أن تراقب الله عز وجل.
والوجه الثاني: أن الله تعالى رقيب عليك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52].
أما مراقبتك لله فأن تعلم أن الله تعالى يعلم كل ما تقوم به من أقوال وأفعال واعتقادات؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 218، 219]؛ يراك حين تقوم؛ أي: في الليل حين يقوم الإنسان في مكان خال لا يطَّلِع عليه أحد، فالله سبحانه وتعالى يراه، حتى ولو كان في أعظم ظلمة وأحلك ظلمة؛ فإن الله تعالى يراه.
وقوله: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾؛ أي: وأنت تتقلب في الذين يسجدون في هذه الساعة؛ يعني: تقلبك فيهم؛ أي: معهم، فإن الله سبحانه وتعالى يرى الإنسان حين قيامه وحين سجوده.
وذكر القيام والسجود؛ لأن القيام في الصلاة أشرف من السجود بذكره، والسجود أفضل من القيام بهيئته.
أما كون القيام أفضل من السجود بذكره؛ فلأن الذكر المشروع في القيام هو قراءة القرآن، والقرآن أفضل الكلام.
أما السجود فهو أشرف من القيام بهيئته؛ لأن الإنسان الساجد أقرب ما يكون من ربه عز وجل، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»[1].
ولهذا أمرنا أن نكثر من الدعاء في السجود، كذلك من مراقبتك لله، أن تعلم أن الله يسمعك، فأي قول تقوله؛ فإن الله تعالى يسمعك؛ كما قال الله: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]؛ بلي: يعني: نسمع ذلك.
ومع هذا فإن الذي تتكلم به - خيرًا كان أم شرًّا، معلنًا أم ميسرًّا - فإنه يُكتب لك أو عليك؛ كما قال الله تبارك وتعالى:﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
فراقب هذا الأمر، وإياك أن تُخرج من لسانك قولًا تحاسَب عليه يوم القيامة، اجعل دائمًا لسانك يقول الحق أو يصمت؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
الثالث: أن تراقب الله في سرك وفي قلبك، انظر ماذا في قلبك من الشرك بالله والرياء، والانحرافات، والحقد على المؤمنين، وبغضاء، وكراهية، ومحبة للكافرين، وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل.
راقب قلبك، تفقده دائمًا؛ فإن الله يقول: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه ﴾ [ق: 16]، قبل أن ينطق به.
فراقب الله في هذه المواضع الثلاثة: في فعلك، وفي قولك، وفي سريرتك، وفي قلبك، حتى تتم لك المراقبة؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
اعبد الله كانك تراه، كأنك تشاهده رأي عين، فإن لم تكن تراه فانزل إلى المرتبة الثانية: «فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
فالأول: عبادة رغبة وطمع، أن تعبد الله كأنك تراه، والثاني: عبادة رهبة وخوف؛ ولهذا قال: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
فلابد أن تراقب ربك، وأن تعلم أن الله رقيب عليك، أي شيء تقوله، أو تفعله، أو تضمره في سرك فالله تعالى عليم به، وقد ذكر المؤلف رحمه الله من الآيات ما يدل على هذا، فبدأ بالآية التي ذكرناها؛ وهي قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 217- 220].
الآية الثانية التي ساقها المؤلف رحمه الله تعالى في باب المراقبة: قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]؛ الضمير (هو) يعود على الله؛ أي: الله سبحانه وتعالى مع عباده أينما كانوا: في بر أو بحر، أو جو، أو في ظلمة، أوفي ضياء، وفي أي حال؛ هو معكم أينما كنتم؛ وهذا يدل على كمال إحاطته عز وجل بنا علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك. ولا نعني أنه سبحانه وتعالى معنا في نفس المكان الذي نحن فيه؛ لأن الله فوق كل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وقال: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18]، وقال تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الملك: 16]، وقال: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أنه فوق كل شيء، لكنه عز وجل ليس كمثله شيء في جميع نعوته وصفاته، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في عُلوِّه جل وعلا؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في الأرض، لأننا لو توهمنا هذا لكان فيه إبطال لعلو الله سبحانه وتعالى. وأيضًا فإن الله سبحانه لا يسعه شيء من مخلوقاته: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: 255].
الكرسي محيط بالسماوات والأرض كلها، والكرسي هو موضع قدمي الرحمن عز وجل، والعرش أعظم وأعظم وأعظم، كما جاء في الحديث: «إِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِيينَ السَّبْعَ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُرْسِيِّ كَحَلَقِةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ».
حلقة كحلقة المغفر صغيرة في فلاة من الأرض؛ أي: مكان متسع، نسبة هذه الحلقة إلى الأرض ليست بشيء.
قال: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْحَلْقَةِ»[2]، فما بالك بالخالق جل وعلا! الخالق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في الأرض؛ لأنه سبحانه وتعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ﴾ [الحديد: 4].
واعلم أن المعية التي أضافها الله إلى نفسه تنقسم بحسب السياق والقرائن؛ فتارة يكون مقتضاها الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك، مثل هذه الآية: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ﴾، ومثل قوله تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ﴾ [المجادلة: 7].
وتارة يكون المراد بها التهديد والإنذار، كما في قوله تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]؛ فإن هذا تهديد وإنذار لهم أن يبينوا ما لا يرضي من القول يكتمونه عن الناس، يظنون أن الله لا يعلم، والله سبحانه عليم بكل شيء.
وتارة يراد بها النصر والتأييد والتثبيت وما أشبه ذلك؛ مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وكما في قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 35]، والآيات في هذا كثيرة.
وهذا القسم الثالث من أقسام المعية تارة يضاف إلى المخلوق بالوصف، وتارة يضاف إلى المخلوق بالعين.
فقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، هذا مضاف إلى المخلوق بالوصف، فأيُّ إنسان يكون كذلك فالله معه.
وتارة يكون مضافًا إلى المخلوق بعين الشخص؛ مثل قوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]؛ فهذا مضاف إلى الشخص بعينه، وهي للرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار؛ لَمَّا قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا؛ لأن قريشًا كانت تطلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه بكل جد! ما من جبل إلا صعدت عليه، وما من واد إلا هبطت فيه، وما من فلاة إلا بحثت، وجعلت لمن يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر مائتي بعير، مائة للرسول، ومائة لأبي بكر، وتعب الناس وهم يطلبونها، ولكن الله معهما، حتى وقفوا على الغار، يقول أبو بكر: لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فيقول له الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا، فَمَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟».
والله ظننا لا يغلبهما أحد، ولا يقدر عليهما أحد، وفعلًا هذا الذي حصل؛ ما رأوهما مع عدم المانع، فلم يكن هناك عِشٌّ كما يقولون، ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، وما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما.
وكما في قوله سبحانه لموسى وهارون، لما أمر الله موسى وأرسله إلى فرعون هو وهارون: ﴿ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه 45، 46].
الله أكبر: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾؛ إذا كان الله معهما هل يمكن أن يضرهما فرعون وجنوده؟ لا يمكن، فهذه معية خاصة مقيدة بالعين: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾.
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى مع الخلق، لكنه فوق عرشه ولا يساميه أحد في صفاته، ولا يدانيه أحد في صفاته، ولا يمكن أن تورد على ذهنك أو على غيرك كيف يكون الله معنا وهو في السماء؟
نقول: الله عز وجل لا يقاس بخلقه، مع أن العلو والمعية لا منافاة بينهما حتى في المخلوق؛ فلو سألنا سائل: أين موضع القمر؟ لقلنا: في السماء، كما قال الله: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ﴾ [نوح: 16]، وإذا قال: أين موضع النجوم؟ قلنا في السماء، واللغة العربية يقول المتكلمون فيها: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا! مع ان القمر في السماء والنجم في السماء، لكن هو معنا؛ لأنه ما غاب عنا؛ فالله تعالى وهو على عرشه سبحانه فوق جميع الخلق.
وتقتضي هذه الآية بالنسبة للأمر المسلكي المنهجي بأنك إذا آمنت بأن الله معك، فإنك تتقيه وتراقبه؛ لأنه لا يخفى عليه عز وجل حالك مهما كنت، لو كنت في بيت مظلم ليس فيه أحد ولا حولك أحد فإن الله تعالى معك، لكن ليس في نفس المكان، وإنما محيط بك عز وجل لا يخفى عليه شيء من أمرك؛ فتراقب الله، وتخاف الله، وتقوم بطاعته، وتترك مناهيه. والله الموفق؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾.
الآية الثالثة التي ساقها المؤلف رحمه الله تعالى في باب المراقبة: قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]؛ ﴿ شَيْءٌ ﴾؛ نكرة في سياق النفي في قوله: ﴿ لَا يَخْفَى ﴾؛ فتعم كل شيء، فكل شيء لا يخفى على الله في الأرض ولا في السماء، وقد فصل الله هذا في قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].
قال العلماء: إذا كانت الأوراق الساقطة يعلمها؛ فكيف بالأوراق النامية التي ينبتها ويخلقها؛ فهو بها أعلم عز وجل.
أما قوله: ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ﴾؛ ﴿ حَبَّةٍ ﴾؛ نكرة في سياق النفي المؤكد بمن؛ إذًا يشمل كل ورقة صغيرة كانت أو كبيرة.
ولنفرض أن حبة صغيرة منغمسة في طين البحر، فهي في خمس ظلمات:
الظلمة الأولى: ظلمة الطين المنغمسة فيه.
الثانية: ظلمة الماء في البحر.
الثالثة: ظلمة الليل.
الرابعة: ظلمة السحاب المتراكم.
الخامسة: ظلمة المطر النازل.
خمس ظلمات فوق هذه الحبة الصغيرة؛ والله عز وجل يعلمها.
وقوله: ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾؛ مكتوب، مبيَّن، بيِّن، ظاهر، معلوم عند رب العالمين عز وجل.
إذًا من كان هذا سعة علمه فعلى المؤمن أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشاه في السر كما يخشاه في العلانية؛ لأن خشية الله في السر أقوى في الإخلاص؛ لأنه ليس عندك أحد؛ لأن خشية الله في العلانية ربما يقع في قلبك الرياء ومراءاة الناس.
فاحرص - يا أخي المسلم - على مراقبة الله عز وجل، وأن تقوم بطاعته امتثالًا لأمره، واجتنابًا لنهيه، ونسأل الله العون على ذلك؛ لأن الله إذا لم يُعِنَّا، فإننا مخذولون؛ كما قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ فإذا وفق العبد للهداية والاستعانة في إطار الشريعة فهذا هو الذي أنعم الله عليه؛ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 5، 6]، لابد أن تكون العبادة في نفس هذا الصراط المستقيم، وإلا كانت ضررًا على العبد.
يتبع