موانع المحبة "الكفر والشرك والحلف بغير الله تعالى"
محمد محمود صقر
تعريف الكفر:
الكفر -في اللغة- التغطية والستر، والكفر شرعًا: ضد الإيمان؛ فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله؛ سواءً كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب؛ بل شك وريب، أو إعراض، أو حسد، أو كِبر، أو اتباع لبعض الأهواء الصادَّة عن اتباع الرسالة، وإن كان المكذِّب أعظم كفرًا.وكذلك الجاحد المكذب حسدًا مع استيقان صدق الرسل[1].
وكفر الرجل كفرًا وكُفْرانًا: لم يؤمن بالوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة، أو بثلاثتها.
وفي التنزيل العزيز: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا)[العنكبوت: 12)].
ويقال: كفر بالله أو بنعمة الله؛ وفي التنـزيل العزيز: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ)[(البقرة: 28)].
وفيه أيضًا: (وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)[النحل: 72)].
كما يقال: كفر نعمةَ الله؛ فهو كافِر.. الجمع كُفَّار وكَفَرَة. وهو كَفَّارٌ أيضًا، وهو وهي كَفُور.. الجمع كُفُر، وهي كافرة.. الجمع كوافِر. وكفر بهذا: تبرَّأ منه، وكفر الشيءَ وعليه كفرا: ستره وغطاه؛ ويقال: كفر الزارع البذر بالتراب؛ فهو كافر، وكفر التراب ما تحته: غطاه. أكفر غيره وكفَّره: نسبه إلى الكفر. وأكفر من يطيعه: ألجأه إلى أن يعصيه... [2].
أنواع الكفر وأقسامه:
قسم العلماءُ الكفرَ -من الناحيتين النظريَّة والعمليَّة- إلى نوعين.:
النوع الأول: كفر أكبر.. يُخرِج من الملة، وهو خمسة أقسام:
القسم الأول: كفر التكذيب، ودليله قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)[العنكبوت: 68)].
القسم الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، ودليله قوله - تعالى -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 34)].
القسم الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، ودليله قوله -تعالى-: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً )[الكهف: 35-38)].
القسم الرابع: كفر الإعراض، ودليله قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)[الأحقاف: 3)].
القسم الخامس: كفر النفاق، ودليله قوله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)[المنافقون: 3)[3].
النوع الثاني: كفر أصغر.. لا يُخرِج من الملة، وهو الكفر العمَليّ، وهو الذنوب التي وردت تسميتُها في الكتاب والسنة كفرًا، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر؛ مثل كفر النعمة المذكور في قوله - تعالى -: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ)[(النحل: 116)].
ومثل الحلف بغير الله.. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))[4].
ومثل قتال المسلم المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))[5].
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ترجعوا بعدي كُفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))[6].
وقد جعل الله مرتكب الكبيرة مؤمنًا.. قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)[البقرة: 178].
فلم يُخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخًا لوليّ القصاص، فقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)[البقرة: 178)].
والمراد أُخُوَّة الدين بلا ريب، وقال -تعالى-: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)[(الحجرات: 9)] إلى قوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الحجرات: 10)[7].
وأشكال الكفرين الأكبر والأصغر أكثر من ذلك بكثير، ومنها ما يتعلق بالألوهية والربوبية وأسماء الله -تعالى- وصفاته، ثم ما يتعلق بأصول الإيمان الأخرى كالملائكة والكتب والنبيين واليوم الآخر والقدر.
كذلك ما يتعلق بالإيمان والكفر من مسائل؛ مثل: تكفير المعيّن، والإعذار بالجهل والتأويل وسائر العوارض التي يعذر المعيّن بها، وما يعد من البدع مكفرًا وما لا يعد، وما يلتبس بالكفر مما يكون أحيانا -أو دائما- بمعناه؛ كالشرك والنفاق و"الكتابيّة" (ديانة أهل الكتاب)، والظلم والإثم وغيرها، وهذا مع غيره من العلاقة بين الإيمان والإسلام، وبين العقيدة والشريعة، وغير ذلك بابُ علمٍ واسع، هو علم التوحيد الواجب تعلُّمُه على كل مسلم يريد أن يحَصِّل أول أسباب محبَّة ريِّه الواحد الأحد سبجانه.
الفروق بين الكفرين.. الأكبر والأصغر:
1- أن الكفر الأكبر يُخرِج من الملة ويحبط الأعمال، والكفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال؛ لكن ينقصها بحسبه ويعرّض صاحبَه للوعيد.
2- أن الكفر الأكبر يَخلُد صاحبُه في النار، والكفر الأصغر إذا دخل صاحبُه النار فإنه لا يَخلد فيها. وقد يتوب الله عليه فلا يدخله النار أصلاً.
3- أن الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يبيح الدم والمال.
4- أن الكفر الأكبر يوجب العداوة الدائمة بين صاحبه وبين المؤمنين؛ فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا بل صاحبه يُحَب ويوالى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويعادى بقدر ما فيه من العصيان[8].
ما يمنع من محبة الله -تعالى-.. الكفر الأكبر أم الأصغر؟
الرأي أن الكفر الأكبر وحده هو الذي يمنع من محبة الله - تعالى -عبدَه، وذلك استنادًا إلى جملة أدلة:
الأول: أنه ما دام صاحب الكفر الأصغر يحب ويوالى من قبل المؤمنين فإنه كذلك بالنسبة لربه -والله أعلم- وإنه لا دليل على عدم ذلك، كما سيتضح إن شاء الله من خلال الآيات التي في عدم حب الله للكافرين أنها في الكافرين كفرًا أكبر.
الثاني: أن الله -سبحانه- أرأف وأرحم بعباده من إخوانهم المؤمنين، وهو أيضًا - سبحانه - أقرب إليهم منهم؛ بل أقرب إليهم من أنفسهم.. قال - تعالى -: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ)[الواقعة: 85)].
وأنه -سبحانه- يتقرّب إلى عباده بأكثر مما يتقربون هم إليه، ومما يتقرب بعضهم لبعض.. قال -تعالى - في الحديث القدسي-: ((ومن تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة))[9].
ومعلوم أن الكفر الأصغر ليس شركًا بالضرورة لا أكبر ولا أصغر.
قال الإمام النووي: معنى الحديث: "من تقرب إلي" بطاعتي؛ "تقربت إليه" برحمتي، وإن زاد زدت، "فإن أتاني يمشي" وأسرع في طاعتي "أتيته هرولة"؛ أي صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أُحْوِجْه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود[10].
الثالث: أن صاحب الكفر الأصغر قد يدخل الجنة -سواء بعد خروجٍ من النار، أو بعد المغفرة ابتداءً- ومعلوم أنه لا يدخل الجنة مكروهٌ من قبل الله تعالى؛ لقوله - تعالى -: (وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً)[فاطر: 39)].
الرابع: أن هذا كلّه من كرم الله ورحمته اللذين لا يقنط منهما إلا كافرٌ كفرًا أكبر، أما صاحب الكفر الأصغر فقد تناله رحمة الله -تبارك وتعالى- وعفوه.
أولاً: بغض الله -تعالى- عمومَ الكافرين والمشركين ومقتُه -تعالى- إيَّاهم:
قال -تعالى-: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[الروم: 44-45)].
فهذه الآية الأخيرة مجردة في عدم حب الله -تعالى- للكافرين؛ أي بشتى أنواعهم ومختلف أشكال كفرهم، وذلك لأنها تقارن بين أصحاب العمل الصالح وأضدادهم، ومعلوم أن أول العمل الصالح الإيمان بالله تعالى؛ فشمل الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بفضله، وشمل الكافرين -أيًّا كان كفرُهم- بعدله وبغضه الذي هو ضد محبته وفضله -سبحانه-.
و(مَنْ كَفَرَ) منهم؛ أي من جملة الناس الذين يصدَّعون يوم القيامة بمعنى يتفرقون ويصدرون أشتاتا ليروا أعمالهم، أو يتفرقون فريقا في الجنة وفريقا في السعير، (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ويعاقب هو بنفسه، لا تزر وازرة وزر أخرى. (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً) من الحقوق التي لله والتي للعباد الواجبة والمستحبة، (فَلأَنفُسِهِمْ) لا لغيرهم (يَمْهَدُونَ)؛ أي: يهيِّئون، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها.
ومع ذلك جزاؤهم ليس مقصورًا على أعمالهم؛ بل يجزيهم الله من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما لا تبلغه أعمالهم، وذلك لأنه أحبهم، وإذا أحب الله عبدًا صب عليه الإحسان صبًّا، وأجزل له العطايا الفاخرة، وأنعم عليه بالنعم الباطنة والظاهرة. وهذا بخلاف الكافرين؛ فإن الله لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم، ولم يزدهم كما زاد من قبلهم؛ فلهذا قال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[11].
ومما يدل على أن هذه الآية في عموم الكافرين بشتى أنواعهم الجمع والتعريف في لفظ: (الْكَافِرِينَ)؛ فـ"الكافرون" جمع "كافر"، وهو غير المؤمن عمومًا؛ وله أنواع كثيرة.. أكثرها شهرة جحود ربوبية الله - تعالى -، أو ألوهيته، أو الرسالة، أو الشريعة؛ مثال الصنف الأول: الملاحدة من الشيوعيين والدهريّين، ومثال الصنف الثاني: مشركو قريش، ومثال الصنفين الثالث والرابع: هؤلاء وأولئك واليهود والنصارى ممن لم يؤمنوا بنبوة النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -؛ فيصح أن هؤلاء جميعًا تشملهم هذه الآية الكريمة، والله أعلم.
أي أن الله -تعالى- لا يحب الملاحدة والدهرية، ولا المشركين، ولا اليهود والنصارى، ولا من ارتد بعد إسلام.. إلى آخر أنواع الكفّار وأقسامِهم.
وكدليل على بغض الله -تعالى- الكافرين قوله -تعالى- أيضًا: (وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً)[فاطر: 39)].
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)[غافر: 10)].
قال الشوكاني: (وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً)؛ أي غضبًا وبغضًا[12].
(وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً) أي نقصا وهلاكا، والمعنى: أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار[13].
وقال ابن كثير: (وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله -تعالى-، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله ارتفعت درجته ومنـزلته في الجنة، وزاد أجره، وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين[14].
وقال السيوطي: أخرج عبد بن حميد عن الحسن -رضي الله عنه- في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال: إذا كان يوم القيامة فرأوا ما صاروا إليه مقتوا أنفسهم فقيل لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا، إذ تُدْعَون إلى الإيمان فتكفرون، أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: مقتوا أنفسهم لما دخل المؤمنون الجنة وأدخلوا النار فأكلوا أناملهم من المقت، قال: ينادون في النار لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم في النار، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية، يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين يعرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبَوْا أن يقبلوا أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عايَنوا عذاب الله يوم القيامة، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن زر الهمداني -رضي الله عنه- في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال: هذا شيء يقال لهم يوم القيامة حين مقتوا أنفسهم؛ فيقال لهم: (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال: مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة[15].
وعن قتادة عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في نفر من أصحابه، قال قلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: ((نعم)) قال قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((إيمانٌ بالله)) قال قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: ((ثم صلة الرحم)) قال قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: ((ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) قال قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: ((الإشراك بالله)) قال قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: ((ثم قطيعة الرحم)) قال: قلت يا رسول الله! ثم مه؟ قال: ((ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف))[16].
ففي هذا الحديث أن أبغض الأعمال إلى الله -تعالى- الإشراك به -سبحانه-، وهو اتخاذ الأنداد أو إشراكهم مع الله -تعالى- في العمل، وهذا موافق لنصوص الشرع الشريف؛ إذ ليس بعد الكفر والشرك ذنب؛ فإذا كان الله -سبحانه- يبغض الذنوب فهو لأعظمها وهو الشرك أشدُّ بغضًا؛ فعن عبد الله قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك))[17].
ثانيًا: بغضه -تعالى- الكافرَ المعرِضَ عن طاعته -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-:
قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 31-32)].
أي: قل يا محمد إن كنتم حقًّا تحبون الله فاتبعوني لأني رسوله؛ يحبَّكم الله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ أي باتباعكم الرسول وطاعتكم لأمره يحبكم الله ويغفر لكم ما سلف من الذنوب[18].
ثم قال الله -تعالى-: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ)؛ أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الطاعة: (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) أي لا يحب من كفر بآياته وعصى رسله؛ بل يعاقبه ويخزيه: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)[19].
قال ابن كثير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))[20]، ولهذا قال: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ) أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إيّاه، وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء والحكماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ إنما الشأن أن تُحَبَّ[21].
قال: ثم قال -تعالى-: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي باتباعكم لرسول الله يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال -تعالى- آمرًا لكل أحدٍ من خاصٍّ أو عام: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تخلفوا عن أمره: (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرّب إليه؛ حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسوله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء بل (المرسلون) بل أولو العزم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته... [22].
وأبرز من ادعوا محبتهم لله؛ بل محبة الله إيّاهم هم اليهود والنصارى لعنهم الله؛ فهذه فرية: أن يدعي الكافرون -أو صنف منهم- أن الله يحبّهم، قال الله -تعالى-: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)[المائدة: 18)].
فقوله -تعالى-: (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ردٌّ على دعوى حب الله إياهم، وقوله -تعالى-: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) رد على دعوى أنهم أبناء الله -تعالى الله عما يصفون علوًّا كبيرًا- ويجوز أن يكون: (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ردًّا على الدعويين، وكذلك: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي أنكم مجرد بشر ممن خلق لا يحبكم الله إلا بحصول الأسباب وانتفاء الموانع التي جعلها أسبابا وموانع لحصول محبته -تعالى-عبادَه.
هذا، وتشيع في زماننا دعوى الناس محبة الله إياهم؛ فنسمع البعض يقول: (أنا ربُّنا يحبني)؛ وقد يكون تعليقًا على كونه أفلت من قدر كاد يحل به أو حل بغيره، مع أنه قد يكون من حل به هذا القدر أحبَّ إلى الله؛ لأنه قد يكون ابتلاءً، وسيأتي أن من علامات محبة الله العبد ابتلاءه إيَّاه.
غير أنه ليس كل من يدعي حب الله -تعالى- إيّاه كاذبًا؛ بل قد يكون البعض صادقا لكن يجب عدم تزكية النفس بهذا الفضل العظيم.
كذلك فإن قول القائل إن الله يحبني ليس مذمومًا بإطلاق وإنما قد يمدح إذا جاء في محل الشكر، والله أعلم.
يتبع