القراءة منهجيًّا وعلاجيًّا
د. مولاي المصطفى البرجاوي
3- طرق قراءة الكتاب: وها هنا نقف عند ثلاثة نماذج:
أ- نموذج هينز ورنر(Heinz Werner): ويرى أن تطورَ مهارات القراءة يمر عبر ثلاث مراحل:
• المرحلة الأولى: وهي "المرحلة الكلية"؛ حيث يكون الإدراك الكلي هو السمةَ السائدة في عمليات الإدراك المختلفة، وفي هذه المرحلة يكونُ التركيز على الانطباعات الحسية بشكل مباشر، والاهتمام بالخِبرات الشخصية التي تؤثِّر على الإدراك؛ حيث تلعب المشاعرُ والأحاسيس دورًا رئيسيًّا في عمليات الإدراك.
• المرحلة الثانية: وهي "المرحلة التحليلية"، وفيها يتم إدراك الأجزاء التي تكوِّن الكل، وفي هذه المرحلة وبعد أن يعتاد الفرد على البيئة أو بعد أن يتعرَّف على المهمة الواجب القيام بها، يبدأ في ملاحظة التفاصيل، ويقوم بعمليةِ تحليل للأجزاء أو التفاصيل التي يتكوَّن منها الكل.
• أما المرحلة الثالثة: فهي "مرحلة التكامل" أو "الدمج"؛ حيث يسُود فيها نوعٌ من التكامل بين الإدراك الكلي والإدراك الجزئي، وهي المرحلة الأخيرة في تطور الإدراك، وتُصبِح لدى الفرد في هذه المرحلة نظرةٌ موضوعية لنوع العلاقة التي تربط بين الأجزاء والكل، وهناك أوجه شَبَه بين هذه المرحلة والمرحلة الأولى في تطور عمليات الإدراك، لكن الاختلاف بينهما يتمثل في الوصول إلى فهم أعمقَ وأكثرَ تحليلية لهذه العلاقة بين الأجزاء والكل.
ب- نموذج الخريطة الذهنية: بالإنجليزية Mind Mapping وبالفرنسية carte mentale la، وقد ظهر مصطلح "الخريطة الذهنية" لأول مرة عن طريق الإنجليزي "توني بوزان " Tony Buzan في نهاية الستينيات.. وهي أداةُ تفكير تنظيمية نهائية، وهي أسهل طريقة لإدخال المعلومات للدماغ، ومن ثم استرجاع هذه المعلومات وتذكرها، كما تساعد على القراءة والتفكير والتعلُّم[10]...، وفي هذا الباب يمكن التمييزُ بين الخريطة الذهنية المرسومة باليد والمعدة بواسطة الحاسوب [11]، كما يظهر ذلك من خلال الجدول التالي:
ويلخص أحد الباحثين خطوات رسم الخريطة الذهنية - كوسيلة مهمة للقراءة والتذكُّر - بأسلوب بسيط بوضع عنوان رئيس في المركز، ثم رسم الفروع بحجم الكلمات، وبعدها اختيار مفاتيح الكلمات المناسبة، ثم الكتابة بخط كبير، وفي النهاية عمل رسومات لتوضيح المعلومات، وترك العمل فترة، ثم الرجوع للخريطة مرة أخرى[12].
تعتمد الخريطةُ الذهنية على رسم وكتابة كلِّ ماتريده على ورقة واحدة بطريقة مرتَّبة تساعدك على التركيز والتذكر والتلخيص؛ بحيث تجمع فيها بينالجانب الكتابي المختصر بكلمات معدودة مع الجانب الرسمي، مما يساعد على ربط الشيءالمراد تذكُّره برسمةٍ معينة.
مثال للخريطة الذهنية لدرس الجغرافيا
المصدر: شبكة الانترنت.
ج- نموذج "عسقلم"[13]: تهدف هذه القراءة إلى ترتيب المعلومات وضمان التعلُّم الطويل المدى في أقلِّ وقت ممكن، وتضم خمس خطوات تختصرها كلمة "عسقلم"، وهي:
أولاً: الاستعراض: وهو معرفة القالب الكلي أو الصورة العامة لِما يعرِضه الكاتب، أو النظرة العامة التمهيدية للكتاب، ويسمى التصفح المنتظم أو ما قبل القراءة، وهو فن الحصول على أكبر فائدة من الكتاب خلال زمن محدد، ويتم بطرق عدة:
• قراءة صفحة الغلاف وقائمة المحتويات في بداية أو نهاية الكتاب.
• قراءة المقدمة والخاتمة والصفحات الأخيرة من الكتاب.
• تصفُّح القائمة الهجائية للأسماء والموضوعات والمراجع في نهاية الكتاب.
• الاطِّلاع على المخطط التمهيدي لمضمون كل فصل.
• قراءة التلخيص في نهاية كل فصل.
• ملاحظة بداية أو نهاية الفقرات للوقوف على جملٍ تكون بمثابة مفاتيح لمضمون الفقرة.
• اعتماد المسح، وهو إلقاء نظرة سريعة على الصفحات دون قراءة كل كلمة في كل جملة، (اختيار كلمة هنا وهناك).
وهذه الطرق تمكِّن القارئَ من:
• فهم الترابط القائم بين النقاط والعناوين.
• تحديد النقاط الهامة التي تستحق قراءة متأنِّية وواعية.
• تنظيم مادة الكتاب في العقل.
ثانيًا: السؤال: قد يتبادر إلى ذهن القارئ - وهو يمارس الخطوة الأولى على الكتاب - جملة من الأسئلة، يحسُنُ به تدوينها، والفائدة من طرحها أنها تعتبر مؤشراتٍ وعلامات تشجعه على البحث عن التفاصيل خلال القراءة الواعية، وتزيد من تركيزه لكونه يبحث عن هدف.
ثالثًا: القراءة: مفتاح القراءة الفعالة هو تفاعل القارئ مع ما يقرأ، مراعيًا في ذلك:
• حُسن القراءة بعدم الوقوف عند كل كلمة، والتقاط نصف سطر أو السطر كله، ويمكن تمرير الأصبع عليه بسرعة أكثر بقليل من حركة العينين.
• تنويع سرعة القراءة، بمعنى عدم قراءة الكتاب بالوتيرة نفسها؛ لأنه قد تكون بعض الفصول أصعبَ من بعض، وبعض الفقرات أصعب من بعض، وبعض الجمل أصعب من بعض.
رابعًا: التلخيص: وهو إعادة القارئ لما قرأ بأسلوبه الشخصي، يراعي في ذلك التدرجَ فقرة فقرة، وفصلاً فصلاً، ويمكن أن يصلَ القارئُ إلى مرحلةٍ يستفيد فيها من تلخيصات الكتب تُغنيه عن صرف وقت كبير في الرجوع إلى الكتب، ولإعداد ملخَّص موجَز ومركَّز.
خامسًا: الامتحان: وهو المراجعةُ؛ أي البحث الذِّهني للعقل أكثر من مرة على استرجاع المعلومات والحقائق التي استفادها القارئ، والهدفُ من هذه الخطوة هو الوقوفُ على درجة الاستيعاب، حتى يتسنَّى له ترسيخ ما ترسخ، وتدارك ما لم يترسخ بعد.
المحور الثالث: البيبليوتيرابيا (العلاج بالقراءة):
وها هنا لا أقصد العلاج بالقرآن الكريم؛ فهذا يسمى بالرقية الشرعية، وهو أفضل كتاب يمكن للمسلم أن يتحصن به عِلمًا وعملاً، وما يؤكد هذا تلك التجرِبة الماليزية - من خلال برنامج وثائقي بثته قناة الجزيرة القطرية - إذ ألزمت مجموعة من المنحرفين من المراهقين والشباب المجرمين بحفظِ بعض أجزاء من القرآن الكريم في مراكزَ تربوية، فكان لذلك صدًى إيجابي، ولقي استحسانًا كبيرًا، من خلال تغيير سلوكاتهم الشاذة؛ إذ آتَتْ أُكلها فساهمت في إنقاذِهم من براثن التشرد، ورمت بهم في أحضان المجتمع مساهمة واندماجًا وعلمًا وتنمية.
بل أقصد بفلسفة العلاج بالقراءة (البيبليوتيرابيا) استعمال كتب بعينها لتخليص الشخص من معاناة، يمكن أن يشمل ذلك مثلاً:
• قسم المستشفيات والعيادات الطبية؛ حيث يمكن تزويدُها بالمكتبات المتخصصة، تخصص من خلالها للمرضى ساعات محددة للقراءة الهادفة والمثمرة، التي تخفِّفُ من وطأة الأذى النفسي والمادي.
• قسم السجون: بحيث تخصص كتبًا أيضًا موجهة للسجناء ذوي سوابق خطيرة من أجل إعدادهم للحياة اليومية والعملية بعد الخروج منه، من أجل دمجه في المجتمع، وجعله مواطنًا صالحًا يفيد ويستفيد، بل يمكنُ تطويرُ ذلك من خلال إجراء مناظرات لتقويم الاعوجاج الفكري..، ولقد سلك المغربُ تجرِبة رائدة في هذا الباب مع أصحاب الفكر التكفيري.
خاتمة
خلاصة القول:
إن القراءة الناجعة النافعة لا يقتصر دورُها على مجرد اكتساب المعلومات والحصول عليها كنشاطٍ عقليٍّ محض، بل هي أكثرُ من ذلك؛ عملية مركبة: اجتماعية، وثقافية، ونفسية، وعلاجية... تعمل على بِناء وتكوين الشخصية المستقلة والفاعلة في المجتمع من خلال المساهمة في البناء الحضاري للأمة عبر قنوات التواصل الاجتماعي بين جميع شرائحِ المجتمع.
[1] أحمد السعيدي (2009): مدخل إلى الديسلكسيا، دار البازوري العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، بدون الطبعة، ص16 - 17.
[2] العربي اسليماني (2002): إشكالية القراءة والتصحُّر المعرفي، مجلة علوم التربية، المجلد الثالث، العدد 23، ص 95.
[3] M.P.Schmitt et A.Vialay (1982) : savoir- lire (prcis de lecture critique), ed, Didier, Paris, p12
[4] العربي اسليماني، 2002، مرجع سابق، ص 98
[5] Farr,R(2003) : Reading (skill).In world Book encyclopedia-deluxe edition 2 CD.Chcago IL
[6] محمد حمود (1998): مكونات القراءة المنهجية (المرجعيات، المقاطع، الآليات، تقنيات التنشيط)، دار الثقافة، ط 1، الدار البيضاء، المغرب، ص 31 - 32.
[7] Nathalie Albou, Franois Rio (1995) : lecture méthodique, ed Ellipses, Paris, pp5-16.
[8] أحمد السعيدي (2009): مرجع سابق، ص 20 - 21.
[9] فؤاد علي العاجز، مشكلات عادة القراءة لدى التلاميذ وسبل علاجها، بحث مقدم للمؤتمر العلمي الرابع" القراءة وتنمية التفكير" المنعقد في الفترة ما بين 7و8 يونيو 2004 - القاهرة.
[10] Buzan, T. (2002). How To Mind Map. London: Thorons.
[11] Tucker, Joanne, M. ; Armstrong, Gary, R. ; Massad,Victor, J. (2008).
Profiling A Mind Map User: A Descriptive Appraisal.
[12] الرفاعي نجيب (2009): الخريطة الذهنية خطوة خطوة، ط2، مطابع الخط، الكويت.
[13] مركز الإمداد التربوي (1995)، كتاب طريقك إلى الدراسة الصحيحة، دار المداد للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، نقلاً عن مقالة رشيد الوهابي، نحو قراءة فعَّالة ومثمرة، مجلة النداء التربوي، العدد 14 - 15، السنة 1426 - 2005، مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء.