الثاني: أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته:
ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « والله! لا أدري وأنا رسول الله ما يفُعل بي ولا بكم »[38].
فإذا كان هذا هو حال سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف بغيره من الناس؟! ومَنْ قرأ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « لن ينجي أحداً منكم عملُه »، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »[39]؛ أيقن بضعفه وعجزه، وازداد تضرعاً وافتقاراً لربه جل وعلا، ولم يتعاظم في نفسه، أو يُعجب بجهده وعمله.
قال الإمام ابن القيم: « كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله »[40].
وكلما شعر العبد بهذه الحقيقة بانت له عظمة الخالق جل وعلا، وعرف مقدار نفسه، وهكذا ربَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم -، فها هو ذا أجلّهم وأعلاهم منزلة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (علمني دعاء أدعو به في صلاتي)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف الناس بصاحبه ومع ذلك قال له: « قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم »[41].
إنها تربية ربانية تحدُّ من استعلاء العبد، وتجعله دائم الافتقار لربه، دائم الانكسار بين يديه، وإذا كانت هذه هي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنهما - وهو مَنْ هو إمامة وجلالة وجهاداً ونصرة لدينه وذباً عن نبيه؛ فكيف يكون حالنا ونحن المذنبون المفرطون؟! نسأل الله السلامة.
وكنت أعجب من حال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كيف يخشى النفاق على نفسه، وهو الفاروق الذي بشّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة؟! ثم عرفت أن العبد كلما ازداد عبودية وافتقاراً إلى ربه ازداد ازدراء للنفس وخوفاً عليها، وتعلق قلبه بربه سبحانه وتعالى.
قال ابن رجب الحنبلي: « كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة)[42].
الثالث: أن المنة لله جميعاً:
فالمؤمن ينسب ما به من نعمة، وما عنده من طاعة؛ إلى ربه ومولاه عز وجل، فله الفضل والمنة، ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده وجهده، قال الله تعالى: ï´؟ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ï´¾ [الأنعام: 125]. وقال تعالى: ï´؟ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان ï´¾ [الحجرات: 17].
و في الحديث القدسي قال الله تعالى: « يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم »[43]. ومن عجائب آي الذكر الحكيم: ما ورد في مطلع سورة المدثر، فعندما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنذارة بادئ الأمر، وُضِّح له طبيعة الطريق، فقال عز وجل: ï´؟ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ï´¾ [المدثر: 6].
إنها وصية واضحة لا غموض فيها، تجرد العبد من استعلائه وإدلاله على ربه؛ تملأ القلب مهابة وإجلالاً لله عز وجل صاحب الفضل والمنَّة.
ومن لطائف هذا الباب أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما طُعن وجعل يألم، قال له عبد الله بن عباس مواسياً: « يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون ».. وبعد هذا الثناء العظيم على أمير المؤمنين - رضي الله عنه -؛ تأمّل جوابه عندما قال لابن عباس: « أمّا ما ذكرت من صحبة رسول - صلى الله عليه وسلم - ورضاه: فإنما ذلك منٌّ من الله تعالى عليَّ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منَّ به عليَّ، وأمّا ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه »[44].
الرابع: أنَّ العبد لا يأمن على نفسه الفتنة:
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء »[45].
فالعبد مهما بلغت منزلته لا يأمن على نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح الأهواء والفتن، ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: « اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك »[46].
فإمام المتقين يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء افتقاراً إلى الله تعالى، فكيف بنا ونحن الفقراء المحاويج..؟! ومن كان لا يأمن على نفسه رأيته أشد وجلاً على نفسه، وأشد انكساراً بين يدي مولاه العظيم سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن من أدرك هذه الحقائق الأربعة؛ علم أنَّ إعجاب المرء بطاعته وإدلاله بها على ربه من أعظم الأدواء والآفات التي تُسقط العبد، وتجعله على شفا جرف من الضلال والانتكاس، والعياذ بالله.
قال مطرف بن عبد الله الشخّير: « لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ أحبّ إليَّ من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً »[47].
وقال الإمام ابن القيم: « إنك إن تبيت نائماً وتصبح نادماً؛ خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل. وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبّحين المدلين. ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر »[48].
وقال في وصف مشهد الذل والافتقار: « يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرة خاصة لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله.
وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً. فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله ».
ثم قال ابن القيم: « فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد وأجداه عليه! وذرة من هذا ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله سبحانه: قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله »[49].
خامساً: خشية اللّه في السرَّ والعلن:
الخوف من الله تعالى من أجلّ صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: ï´؟ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2]. وقال عز وجل: ï´؟ وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ï´¾ [الحج: 34-35].
وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: ï´؟ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ï´¾ [الرحمن: 46]، وقال تعالى:ï´؟ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى ï´¾ [النازعات: 40-41]. وقال تعالى: ï´؟ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ï´¾ [إبراهيم: 14].
ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله تعالى: ï´؟ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون ï´¾ [الزمر: 9]. وقال سبحانه وتعالى: ï´؟ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ï´¾ [السجدة: 16].
وقال: ï´؟ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ï´¾ [الفرقان: 64]، قال الحسن البصري: « تجري دموعهم على خدودهم فَرَقاً من ربهم »[50].
وتأمل معي قول الحق جلَّ وعلا: ï´؟ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ï´¾ [الإسراء: 107- 109].
فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللاً وإنابة، قال الأستاذ سيد قطب: « إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن ï´؟ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ï´¾ [الإسراء: 107]، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: ï´؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ï´¾ [الإسراء: 108]، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ »[51].
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، قال الله تعالى:ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ï´¾ [الملك: 12]. وقال تعالى:ï´؟ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ï´¾ [الأنبياء: 49]. وقال تعالى: ï´؟ وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ï´¾ [ق: 31-33].
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. »، وذكر منهم: « ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه »[52].
قال الحافظ ابن حجر: « خالياً: أي من الخلو؛ لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء، والمراد: خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ »[53].
والخوف من الله عز وجل عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية والإقبال على الطاعة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ خاف أدلج، ومَنْ أدلج بلغ المنزل »[54].
ولهذا قال الحافظ عبيد الله بن جعفر: « ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله »[55].
وتتجلى حقيقة هذه العبادة القلبية على الجوارح، ولهذا جاء فى حديث السبعة الذين يظلهم الله: « ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله »[56].
فالمعصية تعرضت له بأكمل زينتها، وأبهى فتنتها، وهو بشر كالبشر، لكن ما حبسه عنها إلا الخوف من الله عز وجل، ونظير هذا ما جاء في حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، فقال أحدهم: « اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجال النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها فجمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه! فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة.. [57]، وفي لفظ: « فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنا »[58].
فالمرأة الضعيفة استسلمت له، ولم تملك إلا تخويفه بالله عز وجل، فاستيقظ قلبه، وامتلأ خشية من الله، فحال ذلك بينه وبين المعصية، ومن أجمل ما وقفت عليه في تعريف الخشية قول سعيد بن جبير: « إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية »[59].
سادساً: تعظيم الأمر والنهي:
فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبَّة وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جلَّ وعلا، قال الله عز وجل: ï´؟ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه ï´¾ [الحج: 30]، وقال الله تعالى: ï´؟ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ ï´¾ [الحج: 32].
وما انتشرت المعاصي، وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين؛ إلا بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله عز وجل ونهيه.
وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله عز وجل وأَمْر رسوله - صلى الله عليه وسلم - حقه الإجلال والامتثال، قال الله تعالى: ï´؟ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ï´¾[الأحزاب: 36].
قال الإمام ابن القيم: « استقامة القلب بشيئين: أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب... الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمَّ من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: ï´؟ مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ï´¾ [نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا ترجون لله تعالى عظمة ». ثم قال: «.. فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها.. ». ثم ذكر عدداً من علامات تعظيم المناهي، وهي على وجه الاختصار:
1- الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب إليها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكَسْرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
3- أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط.
4- أن لا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر.. »[60].
ومن المسائل الجديرة بالعناية في هذا الباب: أنَّ على العلماء وطلبة العلم والباحثين والمثقفين.. ونحوهم، العناية بالاستدلال، والاعتماد على النصوص الشرعية في العلم والعمل، « وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام »[61].
ويجب أن يكون نظرهم في النصوص نظر المفتقر إليها، المتتبع لهداياتها، الملتزم بدلالتها.
وما أجمل قول الإمام الثوري: « إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل »[62].
ومَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقراً لها، معظماً لحدودها، قال ابن تيمية: « من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولاَ وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم »[63].
وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه، والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطاً كبيراً في خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن مع الأسف الشديد قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شؤون الدعوة، نسأل الله السلامة!!
المصدر: مجلة البيان
[1] مدارج السالكين، (2/439).
[2] المرجع السابق، (2/440).
[3] ذم الهوى، لابن الجوزي، (ص 69).
[4] أخرجه: مسلم في كتاب الصلاة، (1/348)، رقم (479).
[5] أخرجه: مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، (1/535)، رقم (177).
[6] الخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي، ص (41، 43).
[7] سير أعلام النبلاء، (8/427).
[8] المرجع السابق، (8/426).
[9] أخرجه: مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (4/2148)، رقم (2788)، واللفظ له، وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب التوحيد، (13/393)، رقم (7412)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، (4/234)، رقم (4732) بلفظ: (ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بيده الأخرى).
[10] الفوائد، (ص 81 - 82).
[11] الروح، (ص 232).
[12] مدارج السالكين، (1/144، 145).
[13] تفسير ابن جرير، (1/155).
[14] جامع العلوم والحكم، (1/155).
[15] مجموع الفتاوى، (10/193، 194).
[16] مفتاح دار السعادة، (1/500).
[17] شذرات الذهب، (2/326).
[18] أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/143)، رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/715، 716)، رقم (1031).
[19] فتح الباري، (145/2).
[20] أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/162)، رقم (676).
[21] طريق الهجرتين، (ص 18).
[22] طريق الهجرتين، (ص 70).
[23] أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/81)، رقم (2887).
[24] مجموع الفتاوى، (10/ 185، 187).
[25] مدارج السالكين، (1/458).
[26] أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 2075، 2076)، رقم (2702).
[27] أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، (11/101)، رقم (6307).
[28] أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/2075)، رقم (2702).
[29] أخرجه: أحمد، (37/151)، رقم (2487)، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/97)، رقم (2535)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2/482)، لكن ضعفه الأرناؤوط، في تحقيقه للمسند.
[30] أخرجه: أحمد، (34/75)، رقم (20429)، وأبو داود في كتاب الأدب، (4/324)، رقم (5090)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246)، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
[31] أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم 46، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227).
[32] أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/98)، رقم (6306).
[33] أخرجه: البخاري في كتاب التهجد (3/3)، رقم (1120)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (1/532)، رقم (769).
[34] الوابل الصيب، (ص 139).
[35] أخرجه أحمد، (42/156، 456)، رقم (25263 و 25705)، و الترمذي في تفسير القرآن، (5/327)، رقم (3175)، و ابن ماجه في الزهد، (2/1404)، رقم (4198)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (162).
[36] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955)، رقم (2577).
[37] قاعدة في المحبة (ص 255).
[38] أخرجه: البخاري في كتاب الجنائز، (3/114)، رقم (1243)، وفي كتاب التعبير، (12/410)، رقم (7018)
[39] أخرجه: البخاري في كتاب الرقاق (11/294)، رقم (6463)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، (4/2169)، رقم (2816).
[40] مدارج السالكين، (1/176).
[41] أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/317)، رقم (834)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، (2/2078)، رقم (2075).
[42] جامع العلوم والحكم، (1/117).
[43] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955)، رقم (2577).
[44] أخرجه: البخاري في كتاب فضائل الصحابة، (7/43)، رقم (3692).
[45] أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (4/2045)، رقم (2654).
[46] أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر)، (4/2045)، رقم (2654).
[47] الزهد، لعبد الله بن المبارك، (ص 151).
[48] مدارج السالكين، (1/177).
[49] مدارج السالكين، (1/428-429)، وانظر: الوابل الصيب (ص 20 - 23).
[50] الخشوع في الصلاة، لابن رجب، (ص 31).
[51] في ظلال القرآن، (5/2254).
[52] تقدم تخريجه.
[53] فتح الباري، (2/147).
[54] أخرجه: الترمذي في كتاب صفة القيامة، (4/633) رقم (2450)، و الحاكم في كتاب الرقاق، (4/307-308)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (6098)، والدلجة: السير في آخر الليل، أو سير الليل كله، انظر: لسان العرب، مادة (دلج)، (4/385).
[55] سير أعلام النبلاء، (6/9).
[56] تقدم تخريجه.
[57] أخرجه: البخاري في عدة مواضع منها: كتاب البيوع، (4/409)، رقم (2215)، ومسلم في كتاب بالذكر والدعاء والتوبة، (4/2099-2101)، رقم (2743).
[58] أخرجه: البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، (6/506)، رقم (3465).
[59] حلية الأولياء، (4/276)، وسير أعلام النبلاء، (4/326).
[60] الوابل الصيب، (ص 24-39) باختصار.
[61] الحسبة في الإسلام، (ص 65).
[62] الجامع لأخلاق الراوي، (1/142)، وذم الكلام وأهله، (1/181).
[63] مجموع الفتاوى، (13/28).