عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-12-2019, 01:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي أين مواقع المصلحين حين الشدائد والفتن

أين مواقع المصلحين حين الشدائد والفتن
سليمان بن حمد العودة

لا بد قبل الحديث عن مواقع المصلحين حين الشدائد والمحن من تأكيد:
أ - سنة الله في الابتلاء، وهي سنةٌ ماضية في الأولين والآخرين: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1 - 3].
وكلما عظُم الإيمان عظمت الفتنة: ((أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يبتلى الرجلُ على حسب إيمانه، فإن كان في دينه صلابةً زيد له في البلاء))[1].
ب - بين المصائب والمعاصي:
ومع هذه السنة الربانية هناك سنة وقدر آخر حكم الله به وهو خير الحاكمين، ذلك هو الصلة بين المصائب والمحن والمعاصي والذنوب وعقوباتها وآثارها، والتقصير في طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان ذلك في خير القرون الذين قيل هم في "مصاب أحد": (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)[آل عمران: 165].
وفي الآية الأخرى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 36].
وهنا إحالاتٌ واتهاماتٌ للآخرين، والمُتهمون غير سالمين.
نعم إننا نزكي أنفسَنا أحياناً من حيث نشعر أو لا نشعر، ونظنُّ أن المصابَ بغيرنا، والمعاصي ليست من نصيبنا، وفينا خللٌ ولدينا تقصير.
قد ندرك بعضَه، وقد يغيبُ عنا الكثيرُ من عيوب أنفسنا، وحين تحلّ المصائبُ تدعونا بالقوة إلى أن نفتشَ في أحوالنا، ونتهمَ أنفسَنا اتهاماً لا يحبطُ ولا يقعدُ بها عن العمل، لكنه يصحح ويرشد المسيرةَ، وفي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله -: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقَاتِ"[2].
ولابن القيم -رحمه الله- كلامٌ جميلٌ في المعاصي وأثرها، انظره في الداء والدواء.
وثمة منكراتٌ قد لا يقيم لها بعضُ الأخيارِ وزناً.. وهي من المصائب والبلايا، ذلكم حين لا يتمعّرُ الوجهُ، ويضعف الإنكارُ، وعنها قال ابن القيم: "وأي دين وأي خير فيمن يرى محارمَ الله تنتهك، وحدودَه تضيّع، ودينَه يترك، وسنةَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- يُرغبُ عنها، وهو باردُ القلب، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس"... إلخ.. كلام جميل في[3].
ويقول الشيخ حمدُ بن عتيقٍ -رحمه الله-: "لو قُدِّر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً.. ثم نقل الشيخ عمن حدثه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - أنه قال: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء "لحى غانمة" وأنا أقول: إنهم "لحى فوائن" فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم"[4].
فلا بد من مراجعة النفس، والتفتيش عن الأخطاء، والنظر في المناهج، وأسباب النكبات والمعاصي فينا وفي غيرنا.
ونعود للسؤال: أين مواقع الصالحين حين تقع الشدائدُ والفتنُ؟
والمقصود بالسؤال: استفسارٌ عن موقعهم في الأحداث، وجهودهم في دفع البلاء، وإسهاماتهم الإيجابية حين تقع الفتن، وهنا عدة وقفات "واجبات، مشاريع، مبادرات، مدافعات... إلخ".
وقد قيل: "وما المرءُ إلا حيث يضع نفسَه" وأبلغ من ذلك وأصدق: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)[المدثر: 37].
وهنا أسجل: "من هذه الواجبات والمبادرات" ما حضر في الذهن، لأفتح الباب للإضافة والتسديد.
تحرير مصطلح "الفتنة" في المواقف العملية:
إذ إن تحريرَ المصطلحِ علمياً "نظرياً" تمتلئ به الكتب، لكن المهم هنا: تحريره في المواقف العملية حين الشدائد، فمن الناس من يتخذ من "الفتنة" وسيلةً للغياب عن المشهد حين تقع النوازل، ويُعفي نفسه من جهادِ الكلمة، وقولِ الحق، ودفعِ الباطل، فإذا ما بان للمسلم وجه الحق فلا يجوز له أن يتخلف عن البيان وفي وقت حاجته، وبما يقتضيه البيان "من حكمة، ومراعاة للمصالح والمفاسد..."، والمهم ألا يقعد حيث يجب القيام بأمر الله وعبوديته من الأمر والنهي.
الصبر حين البلاء:
فلا يمكن أن يَسْلَم أهلُ الإيمان من بلاءٍ على قدر جهادهم، وهو طريق الرسل وأتباعهم، وهنا لا يسوغ الجزع ولا الخور، ولا التسخط والقلق، بل لا بد من احتساب الأجر، وصلاح النوايا، والبشرى بقدر الله الشرعي، دون تمنٍّ للقاء العدو، أو تحميل للنفس من البلاء ما لا تُطيق، وفي الحديث الصحيح: ((لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه، يتعرض للبلاء ما لا يُطيق))[5].
والناس يختلفون بين "العزيمة" و"الرخصة" والمهم القدر الأعلى من الصبر، والحد الأدنى من المجاهدة.
الذكر الحسن:
ومع ما في الصبر من عظيم الأجر لمن احتسب حتى: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة))[6]؛ إلا أن ذلك قد يكون غير منظور للناس، بل لصاحب البلاء نفسِه، لكن هناك ما يُسلي ويسري عاجلاً، ألا وهو (الذكر الحسن) لأهل البلاء والإيمان، قال ابن القيم: "مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَرْفَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُ، وَيُعْلِي قَدْرَهُ، وَلِهَذَا خَصَّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ - تعالى -: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)[ص: 45-46].
وقَالَ إبراهيم: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 84].
وعن محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[سُورَةُ الشَّرْحِ: 4]، ثم قال: فَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ"[7].
والواقع في القديم والحديث يشهد على ذلك، فكم من صادق شُهر اسمُه بسبب عداوة ومعاقبة الظالمين له، فوقع عليه من الظلم ما ذكّر به من لم يعرفه، وأحبه من لم يسمع منه..
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت *** أتاح لها لسانَ حسودٍ
محكمات الدين أصول ومنطلقات في البلاغ والدعوة:
محكمات الدين لا يسع المسلم إلا التسليم لها، والعمل بها، وعلى المصلحين أن يُعنوا بها ويرسخوها لعامة الأمة وخاصتها، ويجعلوا منها ميداناً رحباً للحديث والتأليف، والشرح والبيان؛ إذ هي أقصر الطرق وأنفعها للبلاغ والإقناع، وهي أعظم حجة لقطع الطريق على أهل الريب؛ فتوحيدُ الله بالعبادة، والتسليمُ لشرعه، وتحريمُ الشرك، ومحبةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعتُه فيما أحب المرءُ أو كره، وتثبيتُ أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وحفظُ الضرورات الخمس "الدين، النفس، المال، العرض، العقل".
والولاءُ للمؤمنين والبراءةُ من المشركين، والعزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، وإحقاقُ الحق، وزهوقُ الباطل، وتحريمُ الظلمِ والإثمِ والزنا والخمر والربا وسائرِ الفواحش، والأمرُ بالأخلاق الفاضلة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونحو ذلك من محكمات في الدين لا تقبل المساومة والجدل، وتمثل "أم الكتاب"؛ كما قال - تعالى -: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)[آل عمران: 7]، والأمُ هو الأكثر والأصل كما قال العالمون[8].
هذه المحكمات تتأكد الحاجة لبيانها وتعميمها كلما كانت الظروف داعيةً لها في أزمان الشدائد والفتن، وكلما حاول المبطلون اختراقها بأساليب ملتوية، وطروحات غريبة، ويحتاج كذلك للحديث عن هذه المحكمات في سبيل وحدة الأمة، إذ "الواجب تقديم الإسلام في التطبيق والدعوة من خلال المحكمات والأساسيات لا من خلال الاجتهادات والخلافات السائغة أو غير السائغة"[9].
وليس يخفى أن عالَم اليوم يموج بعقائدَ باطلةٍ، ومذاهبَ فكريةٍ منحرفةٍ، وفرقٍ ضالةٍ، وانفتاحٍ إعلاميٍ مهولٍ.. ومن هنا فعلى المسلمين كافةً، وعلى المصلحين خاصةً، أن يُعنوا بهذه المحكمات والمنطلقات الإسلامية، دليلهم قوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))[10]، وميزانهم قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
ومن رام المزيد عن هذه المحكمات وأهميتها وتطبيقاتها، فليراجع ما كتبه "د. عابد السفياني: المحكمات حوار وتطبيقات".
العزلة المشروعة والمذمومة:
لا شك هناك عزلةٌ مشروعةٌ أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لمن؟ ومتى تكون؟ وكيف؟ هذا هو المهمُ، إذ قد يتصور طالبُ علم، أو قادرٌ على المساهمة في دفع الشر وإقرار الحق؛ أنه معذورٌ باعتزالِ الفتنة، والغياب عن الأحداث.
وتلك قضيةٌ بين العبد وربه، فإذا ما اشتبهت على الإنسان الأمورُ إلى درجةٍ لا يعرف فيها أين يكون الحق؟ وأين يوجد الباطلُ؟ وأشهدَ اللهَ على ذلك، بعد تحري الأسباب الممكنة، فهنا قد يسوغ للإنسان أن يعتزل، كما فعل بعض الصحابة حين الفتنة الواقعة بين المسلمين.. لكن الأصل الاختلاط بالناس، والمساهمة بالدعوة والإصلاح، ودفع المنكرات: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[النساء: 11]، و((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))[11].
وهنا نموذج وتصحيح للعزلة، ففي[12]: عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: خَرَجَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الْجَبَّانَةِ "الصحراء" يَتَعَبَّدُونَ، وَاتَّخَذُوا مَسْجِدًا وَبَنَوْا بُنْيَانًا، فَأَتَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ سَرَّنَا أَنْ تَزُورَنَا، قَالَ: مَا أَتَيْتُكُمْ زَائِرًا، وَلَسْتُ بِالَّذِي أَتْرُكُ حَتَّى يُهْدَمَ مَسْجِدُ الْجَبَّانِ، إِنَّكُمْ لأَهَدى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟! أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ صَنَعُوا كَمَا صَنَعْتُمْ مَنْ كَانَ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ، وَمَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟! ارْجِعُوا فَتَعَلَّمُوا مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَعَلِّمُوا مَنْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ.
قَالَ: وَاسْتَرْجَعَ فَمَا بَرِحَ حَتَّى قَلَعَ أَبْنِيَتَهُمْ وَرَدَّهُمْ.
تعميق الوعي بالحق:
فتلك مهمةٌ كبرى لأهل الإيمان، سلكها المرسلون وأتباعُهم، وأعلنوها لقومهم عبر "مصطلحات، وقيم، ونداءات، وتحذيرات متكررة" تملأُ آياتِ القرآن الكريم من مثل قوله -تعالى-: "على ألسنة هؤلاء المرسلين والمؤمنين": (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا)[الأعراف: 140]، (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر: 38].
وحين يختلط على الناس الحقُ أو شيءٌ منه، فلا بد للعالِمين من البيان والبلاغ، ولا يجوز كتمانُه: (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[آل عمران: 71]. إنه ميثاقٌ عظيمٌ أخذه الله على أهل الكتاب: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران: 178].
ومع بيان الحق لا بد من كشفِ الباطل، ورفعِ التلبيس والتدليس، وكشفِ الكذب، وفضحِ الخونة، واستبانةِ سبيل المجرمين، وأشدُ ما يكون التلبيس حين تقع الشدائدُ والمحنُ، وتحل الفتنُ، فيُصوّر الباطلُ حقاً وعكسه، والمعروفُ منكراً ونقيضه.. وهكذا.. ومن هنا تتحتمُ مسؤولية كشف الباطل والمبطلين (بسيماهم) وهو الأصل، أو بأسمائهم وأفعالهم إذا لزم الأمر، وقد جاء الإنكار في القرآن الكريم صريحاً: (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[آل عمران: 79].
وأهلُ العلم والدعوة، والفكرِ النزيه، والشرفاءُ، وأهلُ المروءةِ والكرمِ... هم المؤهلون لهذه المهمة الشريفة.
معركة الفكر والقيم في عمقها وأهدافها:
مما ينبغي أن يُتفطن له على الدوام وفي أزمنة الشدائد على الخصوص، أن رحى المعارك الدائرة في الفكر والقيم، وبين الأخيار وخصومهم، أعمق مما يتصوره البسطاء، ولا بد من كشف ما يريد أن يسطحه أهل الريب، ذلك أنهم وحتى لا يُتفطن لمكرهم يُبسطون طروحاتهم، ويلبسونها لبوس "التجديد" و"التطوير" و"الانفتاح" أو غير ذلك من مصطلحات خادعةٍ، لتُمرر هذه الطروحات وتُقبل، ولا يجترئ معترضٌ عليها حتى لا يُرمَى بالتخلف والرجعية أو نحوها من ألقاب "تحييد" و"محاصرِة" للرافضين للفساد.. فليُنتبه لهذا جيداً.
وثمة أمرٌ آخر ينبغي التفطن له، وهو أهم، وذلك بتصوير الفكرة أو المشروع المراد بأبسط مظاهرِه، وعدم الإفصاحِ عن أهدافه العميقة، وذلك لسهولة تقبله حين يفصل عن توابعه وآثاره.
ولعله بالمثال يتضح المقال، وقضية المرأة نموذج صارخ، وخذ على سبيل المثال "قيادتها للسيارة" فالأمر لا ينتهي عند القيادة، بل يراد الوصول إلى "الحجاب" ويراد "تحرير المرأة من قَوامة الرجل" ويراد "نشر الفساد، وابتزاز المرأة" ويراد "سفرها بلا محرم" و"تصوير المرأة" وضرورة إيجاد "شرطة نسائية" .. وهكذا قُل ما شئت من أمور ستتبع "قيادتها للسيارة" ولذا فمن البساطة والتغفيل مناقشة الأمر مناقشةً فقهيةً تنتهي عند حدود: "ألم تركب المرأة البعير؟" أو "طرح الخلاف الفقهي في تغطية وجه المرأة" أو حكاية: "المرأة والسائق الأجنبي" أو نحو ذلك، مما لا يقيم أهلُ الريب له بالاً، بل يهدفون إلى ما أبعد من ذلك.
هذا نموذجٌ وقِسْ عليه غيرَه مما يطرح أحياناً، ويلبَّس في طرحه، أو يُهون من شأنه، وعلى أهل العلم والفكر والرأي أن يُجلُّو الصورة، ويكشفوا مخطط الفساد، وحتى يتأكد الأمرُ وفي قضية المرأة طرحت تباعاً "الاختلاط في المراحل الأولى"، و"المرأة والرياضة"، و"المرأة والأندية النسائية"، وأخيراً "حضور المرأة للمدرجات الرياضية" ودمج المرأة مع الرجل، و"عمل المرأة في المستلزمات النسائية"... إلخ القائمة التي تؤكد أن القضيةَ "مشروعٌ متكاملٌ لتغريب المرأة" من التغفيل أن يفصل بعضُه عن بعض.
ولعل الأنظمة الصارمة والمدونة في سياسات بلادنا عطلت تنفيذ هذه المشاريع برهةً من الزمن، ولعل الأغلبية الساحقة وفي بلادنا كذلك والرافضة لهذه الطروحات الغريبة، تعطلها مستقبلاً، لا سيما إن انضم إلى ذلك وعود من المسؤولين في بلادنا بعدم الاستجابة لهذه المطالب المخالفة لقيمنا وأنظمتنا.
تمايزُ الصفوف:
ففي أزمان الأزمات والفتن، تتجلى المواقف، ويتمايز الناسُ، وإذا قيل لخير القرون على أثر مصاب أحد: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال: 37].
فغيرهم بالتمييز من باب أولى، وهنا يتسنى لأهل العلم والدعوة أن يتعاملوا مع الناس حسب مواقفهم، وأن يرصدوا ويكتشفوا المواقف وأصحابها على حقيقتهم.
حتى لا يُخترق العلماء والأمراء:
هؤلاء هم أولو الأمر، وهم يُعلمون الناس ويقودونهم، يُسألون فيفتون، ويأمرون فيُطاعون، بصلحهم يصلح الناسُ، وباجتماعهم على الحق يسعد المجتمعُ، وبتعاونهم على البر والتقوى تأمن البلادُ والعبادُ، ومن حظهم وحظ المجتمع أن يوفقوا لبطانةٍ صالحةٍ تدلهم على الخير وتعينهم عليه، وقاتل الله "بطانة السوء"؛ فكم أفسدوا ما بين الحاكم والمحكوم، بل وبين العالم والأمير، ومن قرأ التاريخ بعمق وجد علاقةً بين صلاح الراعي وصلاح من حوله، ووجد أثرَ ذلك في العدل والاستقرار والرخاء، كما يشهد التاريخ على أثر بطانة السوء على أولي الأمر في حصول الفتن، وانقسام الناس، ونزع الثقة، وتأرجح الطاعة المشروعة، والمصلحون أقدر الناس على قراءة التاريخ، وبيان آثار القطيعة بين العلماء والأمراء، وأحرى الناس بنصح الأمراء، وتحذيرهم من بطانة السوء، وشؤم المنتفعين لأنفسهم على حساب مصالح المجتمع والدولة... ودعونا نضرب لنوعي البطانة نموذجاً من التاريخ، ونقرأ آثارهما:
أما نموذج البطانة الصالحة ففي الدولة "الأموية" ومع الخليفة "سليمان بن عبد الملك" -رحمه الله- حيث كان "رجاء بن حيوة" -رحمه الله- كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك، وهو ثقةٌ عالمٌ فاضلٌ، وقد أجرى الله على يديه الخيرات؛ كما نقل الذهبي في السير: 4/558 560)، وليس يخفى أن "رجاء" هو الذي أشار على "سليمان" أن يكون الخليفة من بعده "عمر بن عبد العزيز" -رحمه الله- في قصةٍ تمتلئ بها كتب التاريخ، ومعلوم ما حصل للمجتمع والدولة والأمة باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر عهده بالعدل والرخاء.
أما النموذج الآخر: فكان في الدولة "العباسية" وفي زمن "المأمون والمعتصم والواثق" حين وقعت "فتنة القول بخلق القرآن" وامتُحن الناسُ، وأوذي العلماءُ، وحصل تفرق وشرورٌ وبلاءٌ وفتنة، وكان قطبا رحى هذه الفتنة من بطانة السوء:
أ. "بشر بن غياث المريسي" قال عنه ابن كثير: شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون [البداية والنهاية: 10/118]، وقال كذلك: كان المأمون على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم "بشر المريسي" فخدعوه وأخذ عنهم المذهب الباطل، ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهراً، وذلك في آخر أيامه.. [البداية والنهاية: 10/312].
ب. "أحمد بن أبي دؤاد" وعنه قال الخطيب: كان موصوفاً بالجود والسخاء.. غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن، ثم نقل أنه ولي قضاء القضاة للمعتصم ثم الواثق، وكان "ابن أبي دؤاد" هو الذي يمتحن العلماء، ويدعو إلى القول بخلق القرآن.. [تاريخ بغداد: 4/142].
وقال الذهبي عنه: ابن أبي دؤاد: جهمي بغيض [الميزان: 1/97]، وقال في السير: كان ابن أبي دؤاد يوم المحنة أَلِباً على الإمام "أحمد" يقول: يا أمير المؤمنين، اقتله، هو ضال مضل [11/170]، ومعلوم ما جرى بسبب هذه المحنة من الشرور، حتى قال ابن كثير: وهذه المحنة التي هي أُسُّ ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن[13]، وفي النهاية، وبعد السجن والأذى، ينصر الله الحق ب "المتوكل" ويعلو ذكر الإمام أحمد، ويطلبه "المتوكل" مستشاراً فيعتذر.
أما ابن أبي دؤاد فيبتلى بمرض "الفالج" فيبقى طريح فراشه، لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحُرم لذة الطعام والشراب والنكاح[14].
أما الخلفاء "المأمون والمعتصم والواثق" فيصف حالهم "المتوكل" حيث يقول حين كتب رجل رقعةً إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين، إن أحمد يشتم آباءك، ويرميهم بالزندقة، فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.. ثم أمر أن يضرب الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط، فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوطٍ؟ قال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف الرجل الصالح أحمد بن حنبل[15].
وإذا كان ما سبق نموذجاً للتأثير على الخلفاء، فالعلماء كذلك يتأثرون أو يُؤثر عليهم، وفي فتنة القول بخلق القرآن السابقة، وقع تأثيرٌ "أو اختراق" للعلماء حتى أجاب لهذه الفتنة طائفةٌ عد منهم ابنُ كثيرٍ ما يزيد على ثلاثين عالماً، ومنهم جهابذةٌ في العلم، أمثال: يحيى بن معين، ومحمدِ بن سعد "صاحب الطبقات" وأبي خيثمة "زهير بن حرب" وبشرِ بن الوليد الكندي، وأبي نصر التَمَّار... وغيرهم[16].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]