
22-12-2019, 03:13 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,370
الدولة :
|
|
رد: ليشهدوا منافع لهم (مقال نادر عن الحج)
انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله ورضي عنه -.
قول الله تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [الحج: 25 - 37]، يقول الله تعالى ذكرُه عائبًا كفارَ قريش ومَن سار سيرتهم من الذين لم يقدروا اللهَ حقَّ قدرِه؛ فلم يعظموا شرائعَه، ولم يوقِّروا أوامرَه، ولم يقبَلوا هدايته، ولم يقوموا بحق المسجد الحرام الذي طهَّره أبوهم إبراهيم وابنه إسماعيل بأمر الله للطائفين والعاكفين والرُّكع السُّجود لله وحده، وأبعَدَا عنه كلَّ شوائب الشرك التي كانت تحيط بما أقيم من بيوت وهياكل للكواكب والموتى من الإنسان، وبَنَيَاه ساذجًا لا زخرف فيه ولا نقوش، ولا صور ولا تماثيل ممَّا كان ولا يزال يُعنى به المشركون في هياكلهم ومعابدهم الوثنية؛ ليفتنوا بها الناسَ، ويصرفوهم عن التفكُّر والتأمُّل بعقولهم في حقيقة هذه الأوثان؛ فإنهم لو تأملوا لعقلوا أنها خرافات وسخافات يمجُّها العقل السليم، وتأباها الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وكذلك الشأن في كنائس النصارى، يصرفون كلَّ عنايتهم في زخرفها ونقشها بالنقوش الفاتنة، ويملؤونها بما تصل إليه قدرتُهم من الصور والتماثيل، ويتخذون فيها آلات الموسيقا ومزامير الشيطان، ولأجل ذلك نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ النهي عن زخرفة المساجد ونقشها، واتخذ مسجدَه المشرف - أول مسجد ï´؟ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ï´¾ [التوبة: 108] - مِن اللَّبِن، وسَقَفَه بعريش النخيل، وفرَشَه بالحصباء، وقال عمر رضي الله عنه حين جدَّد المسجدَ النبوي: "لا تحمِّر ولا تصفِّر، أَكِنَّ الناسَ من الشمس والمطَر".
وما دَخَلَ الزخرف والتزويق والتكلُّف في عبادةٍ أو محلِّ عبادة إلا ضيَّع الخيرَ منها، وحرم القلب من خشوعه وانتفاعه بها، واستفادتِه القُربَ من ربه والخشية له، فلا يكون للنفوس من تلك العبادة: الطهرُ ولا التزكية والصفاء والرقة واللين والرحمة، التي إنما أنعم الله علينا بالعبادات من أجلها، والتي هي سرُّ الشرائع وثمرتها التي نحيا بها حياةً طيبة في الدنيا والآخرة.
صدَّ المشركون - مِن عتاة قريش وطغاتهم - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه عن تطهير المسجد الحرام وتعظيمه بإقامة الصلاةِ فيه، ورفعه بذكر اسم الله وحدَه، وبذلوا أنفسَهم وأموالَهم في الدفاع عن اللاَّت والعزَّى ومَناة وهُبَل وأشباههم مما أقاموه حول الكعبة وفي جوفها، ولطَّخوا به ذلك البيت الذي لا يتحقق شرفه إلا بتطهيره منها، وتخليصه لله وحده، ولعبادته دون غيره، وصدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم جاؤوا من المدينة مُحْرمين يلبُّون اللهَ بالعمرة، وساقوا هديَهم يعظمون به شعائرَ الله وحده، ومنعوهم عن دخول مكة وإتمام نسكهم، وردوهم من الحديبية، وشرطوا عليهم الشروط التي يرونها مجحفةً بحقِّ رسول الله والمؤمنين، وقَبِلها رسولُ الله؛ إكرامًا لهذا البيت، وليبعد عن الطغيان والعصبية لغير الحق، ولتتمَّ كلمةُ الله على أولئك الطغاة الظالمين، فينقضوها ويكون نقضها هو مفتاح مكة والمِعول الذي يهدم تلك الرؤوس المنفوخة بغرور الشيطان، ويطهر البيتَ من تلك الأصنام والأوثان، ولتعلوَ كلمةُ الله ï´؟ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ï´¾ [الإسراء: 81]، وتكون كلمةُ أبي سفيان يومَ أُحُدٍ: "اعل هُبَل" هي السُّفلَى، ï´؟ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ï´¾، وحقَّق اللهُ وعده، وأعز جنده ونصر عبده؛ ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ï´¾ [الحج: 40]، ومن عظيم كفر أولئك الطغاة الملحدين في الحرم: أنهم كانوا يؤمِّنون كلَّ لاجئ إلى الحَرَم مهما كان جُرمه، ومهما بلغَت جنايتُه على النفس والمال، ولكنه مشرك يعبد الأوثانَ، ويمنعون عن هذا البيت الذي جعله اللهُ للناس كلِّهم مثابةً وأمنًا، سواء منهم العاكف المقيم بجواره ببكَّة، والباد الذي يفِدُ إليه من قاصي البلاد ودانيها، ولم يجعلْه اللهُ وقفًا على أهل مكة يتحكمون فيه ببغيهم وظلمهم، ويمنعون منه أطهرَ الخلق وأزكاهم وأعرفهم بقدر البيت، وأشدهم له تعظيمًا، محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبَه الأبرار؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله وحده، ويبرؤون إلى الله من عبادة أولئك الموتى الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، وكانوا يدعون قريشًا إلى خلع تلك الأنداد؛ ليكون الدين لله، وكان هذا هو الذنب الذي لا تغتفِره قريش ولا تتجاوز عنه، والذي يقضي في نظرها الضالِّ على كلِّ فضلٍ وخير للأمين محمد بن عبدالله الذي بعثه الله رحمة للعالمين؛ ï´؟ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ï´¾ [البروج: 8، 9].
توعَّدهم اللهُ أن يذيقهم العذاب الأليم، وحذَّرهم عاقبة بغيِهم وصدهم عن سبيل الله والمسجد الحرام، وإلحادهم بالشرك والظلم والفسوق والعصيان في الحرم، وخوَّفهم أن تحلَّ بهم صاعقةٌ مثلُ صاعقة عاد وثمود، فما تغني النذر عن قوم ï´؟ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 179]، فأوقع اللهُ بهم بأسَه، وسلَّط عليهم نبيَّه وحِزبه، وأذاقهم الخزيَ في يوم بدر وما تلاه من الأيام، ï´؟ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ï´¾ [فصلت: 16].
ثم بيَّن اللهُ - جلَّ شأنه - أنه هو الذي أسبغ البركةَ والشرف والفضل على هذا البيت، لا قريش ولا غيرهم؛ فإنه هو الذي بوَّأ لإبراهيمَ مكانه، ووطَّأه له ومهَّده، ودلَّه على بقعته، وعرَّفه موضعَ الأساس الذي تقوم عليه قواعدُ هذا البيت وجدرانه، واختار لبنائه وإقامته أفضلَ خلقه على ظهر الأرض في ذلك الحين، وأطهر الأيدي وأبرَّها؛ إبراهيم وإسماعيل.
وتأمَّل الحكمة في اختيار الخليل، الذي آيةُ صِدق خُلَّته أن قدَّم ولدَه وحيده قربانًا لهذه الخلَّة، ï´؟ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ï´¾ [الصافات: 103]؛ ليذبحه فداءً لهذه المحبة، واختيار ذلك الابن البرِّ الصادقِ الإسلام لربه، الصادق البِرِّ بوالده، الذي قال: ï´؟ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [الصافات: 102]، فيا نعم ذلك الوالد، ويا نعم ذلك الولد! ولعل في قوله تعالى: ï´؟ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ï´¾ [البلد: 3] بعد إقسامه بهذا البلد: إشارةً إليهما، وإشادةً بفضلهما ومكانتهما، وفضلِ البيت الذي أقاماه لربهما، والبلد الذي عمَراه ليكون أمَّ القرى.
تأمَّل الحكمةَ هذه، واستشعر في نفسك سرَّها، وأمعِن التفكُّر والوقوفَ عندها طويلاً؛ فلعلَّك واجدٌ من وراء ذلك مفتاح سر الحب لذلك البيت، الذي لا تزال تهوي إليه أفئدةُ المحبين، والذي لا يزال يطير على أجنحته أحباب ربِّ العالمين؛ لينزلوا ضيوفًا على حبيبهم الذي ملك حبُّه قلوبَهم فشغلهم عن كلِّ شيء، وصفَّى قلوبهم، وجعل لها شبهًا من قلبِ هذا الخليل الأوَّاه المنِيب.
وأمرهما ربُّهما أن يخلصا النيةَ له عند مباشرة بنائه؛ ليكونَ العمل فيه لله وحده، وأن يجنِّباه - كما قلنا آنفًا - الزخارفَ والنقوش والرسوم، وأن يجعلاه ساذجًا على البساطة والفطرة، إذا جاءه العبدُ لا يجد فيه ولا عنده ما يشغَلُ بصرَه فيلفتَ قلبَه عن التوجُّه الخالص لله ربه، فيقوم عنده بالعبادة الصافية النقية طائفًا راكعًا ساجدًا، داعيًا ضارعًا، خاشعًا مخبتًا لله بارئِ النسم، ومبدع الكلِّ من العدم، الحيِّ القيوم، لا إله إلا هو، فقام إبراهيم يَبني وإسماعيلُ يناوله الحجارةَ.
ولقد ذكر الله تعالى من شرف هذا البناء، وما صحبه من نشيد ذلك البنَّاء والمناول الكريمين ï´؟ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ï´¾ [البقرة: 127، 128]، فما رفع إسماعيلُ حجرًا من الجبل، ولا وضعه بجوار أبيه، ولا ناوله لأبيه، ولا وضعه أبوه مكانه من الجدار، إلا شادَا بتلك الدعوة الخالدة، وتلك الكلمات العَذْبة الحُلْوة المعبِّرة عن طُهر هذين القلبين، وصفاء هاتين النفسين، وصدق هذين النبيَّين الكريمين، وشرف ما يبنيان، وكرامة ما يقيمان، وعلوِّ قدر ما يرفعان، تبارك الله ربي، ونعم المُناوِل والبنَّاء، ونعم المكان وما قام عليه من بِناء، وفوزًا ثم فوزًا، وسعادة ثم سعادة، وشرفًا ثم شرفًا، لمن أنعم اللهُ عليه بشهود تلك البنية الكريمة، وطافَت بقلبه تلك الذكريات الطيبات المباركات، وحلَّقت نفسُه في عالم هذه الذكريات، فشهدَت هذين النبيَّين الكريمين وهما يعملان في بناء البيت، وعاينَت صفاءَ قلبيهما وطهارة رُوحيهما، وصدق إخلاصهما لربهما، المتجلي في دعائهما الذي يشعُّ نورًا ويقينًا، فأخذه جلال تلك الذكريات، وملكَت مشاعره روعتها، فتشبَّه بهما، وأخلص عملَه وقلبَه لربِّه كما أخلصا، وضرَع إلى ربه بذلَّة ومسكنة وفقر كما ضرَعا، ونادى ربَّه بقلبٍ خاشع كما نادَيَا: ï´؟ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [البقرة: 127]، لا تسَلْ عن فرحةِ القلب وسرورِه ولذَّته وحبوره عندئذ، فإنه تنفسح أمامه الآفاق، وتجلى عنه الغشاوات، ويغسل من دَرَن الخطايا والسيئات، وتفيض عليه الهِبَات والخيرات من رب الأرض والسموات، ويجد نفسَه كأنه في جنة النعيم، وفي روضات الرضوان مقيم؛ ï´؟ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ï´¾ [الرحمن: 60].
لأجل ذلك الفوز الكبير وهذه السعادة التامَّة: أمر اللهُ الخليلَ أن يؤذِّن في الناس بالحج إلى هذا البيت، وأن يُعلنَ بالدعوة إلى مائدة الكريم الرحيم، التي مدَّها لأحبابه عند هذا البيت، فيسمع المحبون المشتاقون دعوة إمامهم فيأتون من كل فجٍّ عميق، ويطيرون على أجنحة الشوق من كل بلد ناءٍ ومكانٍ سحيق، لا يقعد بهم عدم المطيِّ ولا فقدان الرواحل، بل يجيئون رجالاً يمشون على الأقدام، ولو استطاعوا لمشَوا إلى مائدة الكريم الوهاب على الأفئدة والقلوب، وما كان ذلك على ما سينالون من هِباته وعطاياه ومنحِه لهم بكثيرٍ.
واخْلُ بنفسِك أيها القارئ، وأطرق، وتأمَّل طويلاً، وعُد بقلبك راجعًا إلى ذلك الماضي البعيد في الزمن، ثم أصغِ بقلبك، وابعث أشعة البصيرة من قول ربك لخليله: ï´؟ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ï´¾ [الحج: 27]، فلا إخالك إلا شاهدًا إبراهيم قد وضع أصبعَيه في أذنيه ورفع عقيرتَه، ينادي بأعلى صوته، يقبِل به يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا يقول: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم قد بنى لكم بيتًا فحجُّوه"، فيجيبه أحبابُ الله من أطراف الأرض وجهاتها الأربع، ويجيئون جماعات وفرادى، والكل يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فلا تتمالك نفسك، ولا تستطيع أن تردَّها، ولا أن يردها أيُّ رادٍّ، عن الانضمام إلى هذه الثُّلَّة المسارعة إلى إجابة الخليل، وإلى تلك الزُّمرة المصطفاة التي لبَّت النداءَ وبادرَت بالإجابة، ولم تخدعها خوادعُ التسويف وتعِلَّات: هل هو على الفور أو التراخي؟ وما شروط استطاعة السبيل؟ وكلاَّ والله ثم كلا والله، إنك لو شهدَتْ نفسك هذا الشهود، وأشرق على بصيرتك هذا النور، لتبيعنَّ الأهل والولد والوطن، ولتبيعنَّ نفسَك إذا لم يكن إلا نفسك تبيعها، وتخرج مسارعًا إلى مغفرة الله ورضوانه اللذين مدَّ اللهُ مائدتهما عند بيته المحرم، وأمر خليلَه بدعوة الضيوف والأحباب إليها، وجرِّبْ ذلك إن كنت في ريب مما أقول، واعرف ذلك بما ترى وتشهد من مسارعة من يدعوهم ملك بلدهم إلى مائدته، ليتفضلَ عليهم بتشريفهم بمجالسته ومكالمته، هل تجد أحدًا منهم يعتذر بعدم المركب أو فقدان الثياب؟ إنك لتراهم يحرصون أشدَّ الحرص على هذا الشرف، ويتحدثون به في المجالس تفاخرًا وتمدحًا ومباهاة بما نالوا من هذه المنزلة الدنيوية، وربَّما كلفتهم فوق ما يطيقون، وحملتهم مِن المشاقِّ والمتاعب ما ينوء به كاهلُهم، ولكنهم مع كل ذلك وأكثر منه عليها حريصون، وإليها مجيبون، فاعرف هذا وقارن بينه وبين مائدةِ ملِك الملوك أرحمِ الراحمين في أشرف بقعة وأقدس مكان، ومع أحسن الرفقة وخيرة المصطفَيْنَ من العباد، ومائدة ملِك الدنيا يتلاشى أثرُها بعد حين، ومائدة الله سعادة خالدة إلى يوم الدين، بل باقية أبدَ الآبدين، فانظر بالله إلى أولئك المغبونين الذين يعدِلون برب العالمين، بل يقدمون إجابة دعوة العبد على دعوة أرحم الراحمين، ولعل منهم من يجيب دعوةَ كلِّ مَولد وعيدٍ من أعياد الجاهلين، وينفق فيه المالَ الكثير والوقت الطويل؛ تقرُّبًا إلى الميِّت الذي لا يملِك له ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فإذا دعا داعي الحج إلى بيت الله المشرَّف اعتذر بقلَّة المال أو ضيق الوقت أو نحو ذلك قائلاً: الحج على التراخي، مما لا يقوله ولا يعتذر به عن السعي إلى أولئك الموتى وموالدهم وأعيادهم، ثم يدَّعون بعد هذا أنهم من المسلمين المطيعين، أليس ذلك من أعجب ما سمع السامعون ورأى الراؤون؟ اللهم غَفْرًا غَفْرًا، ورحمة رحمة يا أرحم الراحمين، لا تهلِكنا بما فعل السفهاء منَّا؛ إنك أنت العزيز الحكيم ï´؟ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ï´¾ [البقرة: 130].
ï´؟ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ï´¾ [الحج: 28]:
دعا اللهُ تعالى عبادَه من جميع أطراف الأرض ونواحيها إلى حج هذا البيت المشرف على كل بقاع الأرض بتشريف الله واختيارِه، والله سبحانه إنما يدعو عبادَه لما يحييهم الحياة الطيبة، ويسعدهم السعادةَ الخالدة، بما ينتفعون منه من منافعَ جمَّة، وما يستفيدون من فوائد في معاشهم ومعادهم لا غِنى لهم عنها إن كانوا يريدون هناء العيش الرغيد، فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}: لفظ عامٌّ شامل لكل نفع وخير، سواء في ذلك نفع الدنيا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ إذ تتلاقى أجزاء هذه الكتلة الإسلامية الموزعة في أكناف الأرض ومختلف نواحيها البعيدة، ويتعارفون، ويتشاكى كلٌّ منهم بما عنده، فيجد العلاجَ عند الآخر، وتتوحد هذه الكتلة توحيدًا يجعلها كالبنيان المرصوص، والحصن المنيع الذي لا ينال، ويتحقق معنى الأخوَّة الإيمانية، ومعنى الوحدة الإسلامية؛ فيرهَبها الأعداءُ، ويخشون بأسها، ويملأ قلوبهم الرعبُ والخوف من هذه الأجزاء التي تسري فيها جميعها روحٌ واحدة، هي روح الإسلام القوية العزيزة، ولها شعار واحد، هو كلمة الحق: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، ويدعوهم ذلك إلى التواصل المستمر، والحرص على تعرف أحوالهم؛ حتى لا يؤخذ جزء من هذه الكتلة على غرَّة، ولا تخدش عزَّة طائفة من المسلمين على غير أُهْبة واستعداد، وتقوي روابط المنافع التجارية والاقتصادية تلك الأخوة الإيمانية، فتكون كالشرايين التي لا تزال تمد الجسم بغذائه وقوَّته الحيوية، ويعرفون معنى التعاون بينهم بتبادل كل جماعة ما عند الأخرى من ثمرات مجهودهم وعملهم للدنيا؛ من صناعات، وزراعات وفنون، واختراعات، فتبقى ثروتهم بينهم يتداولونها، ويدَّخرون الزائدَ منها لحاجة الدفاع، ولحاجة المعونة والمساعدة، والمالُ هو العمود الفقري لحياة الأمم، وبقائها وعزتها، فإذا خرج من يدها إلى يدِ عدوِّها بأي طريق، تحول معه كل مقومات الحياة، وأسباب العزة الدنيوية، وقوة الدفاع، كما نرى ونشهد الآن حالَ الأمم الإسلامية مع أوربا؛ إذ تسرَّبت الثروة كلها إلى الأيدي الأوربية، ونالوا الثقةَ منا ومن غيرنا، وأصبحنا ذيلاً لهم وعالة عليهم، بل أصبحنا لا يقام لنا وزن، ولا يعمل لنا حساب، ذلك من يوم أغمضنا أعيننا وانصرفنا عن شهود تلك المنافع التي دعانا الله تعالى إليها.
أما منافع الدين والآخرة فأكثر من أن تحصى؛ فالصلاة عند المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والطواف حول بيت الله والتعلق بأستاره لجئًا إلى الله يحطُّ الخطايا التي تقصم الظهور، ويبيِّض الصحائف التي سوَّدتها المعاصي والأعمال، ومشهد عرفة يتجلى اللهُ فيه على ضيوفه، ويباهي بهم ملائكتَه، ويكرمهم بنزلهم مغفرةً ورضوانًا واستجابة لدعائهم، وغير ذلك من هذا القبيل كثيرٌ.
وهناك منافع دينية كبيرة جدًّا، لو أدركها المسلمون وفقهوها - ذلك أن لهذا البلد الأمين والبيت المشرف من الجلالة والهيبة والاحترام في نفوس المسلمين ما لا يدانيه فيه بقعة أخرى، فإذا اختلف أهل قُطْرٍ أو بلد في مسألة دينية، روَّجها بينهم شياطين التفرقة، وحاولوا بها أن يجعلوا منهم شِيعًا وأحزابًا تمزِّق الوحدة الإسلامية وتقطِّعها أممًا - ثابوا إلى هذا البلد الأمين، وتحاكموا فيه إلى هذا المؤتمر الإسلامي العام الذي يجب أن يجمع في كلِّ عام خلاصةَ كلِّ قُطر في العلم والدين والسياسة والاقتصاد، والصناعة، وفنون الدنيا، ويطرحون هذه المسألة على بساطِه، ويديرونها بينهم بحثًا وفحصًا وتمحيصًا، ويعرضونها على كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينظرون إليها بعين الصالح الإسلامي الفردي والاجتماعي، والدنيوي والأخروي - فهم لا بدَّ خارجون من بحثهم هذا بنتيجة ممحصة يكون فيها كلُّ الخير والقوة، قوة الحجَّة والدليل، وقوة التوحيد وربط القلوب، فيلزم الناس هذه النتيجة، ويقفون عند كلمة هذا المؤتمر، ومن شذَّ عنها كان عليه ما يستحق من العقوبة، ومقتَه المسلمون، واحتقره أهلُ بلده وكان بينهم مرذولاً، فلو أن ذلك كان كذلك من أزمنة متطاولة لما تفرَّق المسلمون هذا التفرُّق الذي جعلهم شيَعًا وأحزابًا، وقطَّعهم في الأرض أممًا مستضعفين متخاذلين، ليس عندهم من الحياة ما يجيبون به الصارخَ القريب، أو يغيثون به الجار الجُنُب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|