يقول صديق حسن خان: "والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظنَّ أو العلم تقيّد بما إذا لم يُضمَّ إليه ما يقويه، أما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا، أو مستفيضًا، فلا يجري فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماعُ على العمل بمقتضاه، فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيَّره من المعلوم صدقُه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، فكانوا بين عامل به، ومتأول له، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم"[18] .
فلم يكن السلف الصالح يفرِّقون بين خبرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآخرَ، بدعوى أنه آحاديّ، أو متكاثر الورود، تفريقًا يؤثِّر في العمل والعلم والاعتقاد، واستمرَّ هذا في أهل السنة والجماعة، أهل الحديث والأثر، إلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله، يدلُّ على هذا تخريج أئمة أهل السنة كمالك وأحمد، والبخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي، والنسائي والدارمي، وغيرهم، للأحاديث المثبِتة للعقائد في مدوناتهم، فمتى صح الحديث، وتُلُقِّي بالقبول، وجب العملُ والاعتقاد به ولزم.
• القاعدة الرابعة: الاعتماد على فهم الصحابة والتابعين للعقيدة:
فالصحابة أعلم الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقيدة؛ لذلك فأقوالُهم وتفاسيرهم للنصوص حجةٌ؛ لأنهم قد اكتمل فيهم الفهمُ والمعرفة لأصول الدِّين التي دل عليها كتاب الله المنزل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - المطهرة.
قال أحمد بن حنبل: "أصول السنة عندنا: التمسكُ بما عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -والاقتداءُ بهم، وتركُ البدع، وكل بدعة فهي ضلالة"[19] .
قال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة، وقِفْ حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفُّوا عنه، واسلُكْ سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم"[20] .
قال ابن رجب: "فمَن عرَف قدر السلف، عرف أن سكوتهم عمَّا سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرةِ الجدل والخصام، والزيادةِ في البيان على مقدار الحاجة، لم يكن عيًّا، ولا جهلاً، ولا قصورًا؛ وإنما كان ورعًا، وخشية لله، واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع"[21] .
ولقد تميَّز الصحابة في العقيدة وفهمها بعدة مميزات، أهمها:
أ- أنهم شاهَدُوا التنزيل، وعاشوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلقَّى هذا الوحي من ربِّه، الذي ينزل عليه مفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث.
ب- أنهم أكثرُ الناس فهمًا لرسالته - صلى الله عليه وسلم - وما يتعلَّق بها من أحكام، سواء في العقيدة أو الشريعة، فهم العارفون بدقائقها، المدركون لحقائقها، وهم أكمل الناس علمًا وعملاً.
ج- لم يكن بينهم خلاف في أصول الاعتقاد التي تلقَّوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الأمور اليسيرة التي اختلفوا فيها في هذا الباب، فهي من سنن الاعتقاد؛ كرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلةَ الإسراء والمعراج، هل كانت بقلبه أو بعينه؟ وهي لا تؤثِّر في هذه القاعدة العامة؛ لأن الخلاف فيها لا يعود على أصلٍ بالإبطال، وكان لها أسباب، منها أن يكون لبعض الصحابة من العِلم ما ليس عند الآخر؛ لكنهم - رضي الله عنهم - إذا جاءهم الدليل، خضعوا له بلا تردُّدٍ.
د- كان الصحابة يَسألون عما يُشْكِل عليهم، وهذا مشهور عنهم - رضي الله عنهم - فأمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - روي عنها أنها "كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه، إلا راجعتْ فيه؛ حتى تعرفه"[22] .
• القاعدة الخامسة: التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي:
وذلك بعدم الخوض في الأمور الغيبيَّة التي لا مجال للعقل في معرفتها، فنحن لا ننكر دور العقل؛ فهو مناط التكليف، ولكن نضعه من المكانة حيث وضَعَه الشرعُ.
فهو - كما قال ابن تيمية عنه -: "شرطٌ في معرفة العلوم، وكمالِ وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلاًّ بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإنِ اتَّصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجِز وحده عن دركها، وإن عُزل بالكلية، كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق، كما قد يحصل للبهيمة، فالأحوالُ الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يَعجِز العقلُ عن دركه، لم تأتِ بما يُعلم بالعقل امتناعُه"[23] .
• القاعدة السادسة: عدم تقديم مقالات مبتدعة، ومقدمات عقلية، وجعلها حاكمة على النص:
لم يكن السلف يتلقَّون النصوص ومعهم مقدماتٌ عقلية يحاكمون النصوصَ إليها، كما فعلت المعتزلة وغيرهم، الذين وضعوا مقالاتٍ مبتدعةً، ووصفوها بأنها أصول عقلية، ثم جاؤوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، فما وجدوه مخالفًا لشيء من مقالاتهم، أوَّلوه أو أنكروا الاحتجاج به، وقدَّموا عليه مقالاتِهم وأقوالَ أئمتهم، وجعلوا كتابَ الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وراءهم ظِهْرِيًّا.
يقول ابن تيمية واصفًا أهلَ السنة والجماعة: "ولا ينصرون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل يجعلون ما بُعث به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة، هو الأصلَ الذي يعتقدونه ويعتمدونه"[24] .
ويقول - رحمه الله -: "هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثِرون كلامَ الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدْيَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على هدي كلِّ أحدٍ، ويتَّبعون آثاره - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا"[25] .
• القاعدة السابعة: الجمع بين أطراف الأدلة:
فلا بد من الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معيَّنة وجمعها، وعدم الاقتصار على بعضها، فجمعُ النصوص: يفصِّل المجمَلَ، ويبيِّن المبهَمَ، ويرفع التشابه، ويحكم النص، ويفسر النص على مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا على أهواء البشر وآرائهم.
قال أحمد بن حنبل: "الحديث إذا لم تجمع طرقه، لم تفهمه، والحديث يفسر بعضُه بعضًا"[26] .
يقول الشاطبي: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضمِّ أطرافها بعضها لبعض؛ فإن مأخذَ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو أن تؤخذ الشريعةُ كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها"[27] .
• القاعدة الثامنة: ردُّ المتشابه للمحكَم وليس العكس كما هو عادة أهل البدع:
اتَّفق أهل السنة والجماعة على: "موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه؛ كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي ردُّ المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسِّر لهم المتشابهَ ويبيِّنُه لهم، فتتفق دلالتهم مع دلالة المحكم، وتوافق النصوصُ بعضُها بعضًا، ويصدِّق بعضُها بعضًا؛ فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله، فلا اختلاف فيه ولا تناقُض؛ وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره"[28] .
فالمعيار لمن أراد صحة الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة، والسير على دربهم، والاقتداء بهديهم: أن يتبع منهجهم، سواء في أصول الاعتقاد، أو أصول الاستدلال، ولا يخرج عن نهجهم بأصول في الاعتقاد مبتدعة، أو أصول في الاستدلال منحرفة.
أسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا معهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/51 - 71)، و"المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية"، لإبراهيم البريكان (23 - 36)، و"العقيدة في الله"، لعمر سليمان الأشقر (57 - 75)، و"منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة"، أحمد الصويان، و"أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى"، لمحمد عبدالهادي المصري (75 - 79)، "طريق الهداية مبادئ ومقدمات علم التوحيد"، لمحمد يسري (278 - 313)، "الثوابت والمتغيرات"، لصلاح الصاوي (51 - 60)، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد"، لعثمان علي حسن (1/348).
[2] "درء تعارض العقل والنقل" (10/ 304).
[3] "مجموع الفتاوى" (20/164).
[4] "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 231 - 232).
[5] "مجموع الفتاوى"(5/432).
[6] "الإيمان"، لابن تيمية، (ص: 271، 272).
[7] رواه أبو نعيم الأصفهاني في "الحلية" (8/361).
[8] "فضل علم السلف على علم الخلف"، لابن رجب، (ص: 150).
[9] رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/452).
[10] "إحياء علوم الدين" (1/ 164)، و"درء تعارض العقل والنقل" (7/ 147).
[11] "الإحياء" (1/ 164)، و"درء التعارض" (7/ 158)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (145)، و"الحجة في بيان المحجة" (ص: 13).
[12] القولان في "الإحياء" (1/ 164)، وفي "درء التعارض" (7/ 147) القول الأول فقط.
[13] "مجموع الفتاوى" (3/ 346).
[14] "إيقاظ الهمم" (ص: 104) ["الأم" (7/273)].
[15] ولا نناقش دعوى حديث آحاد لم يحتفَّ بالقرائن في باب العقائد؛ لأنها دعوى متوهمة، ليس عليها مثال واحد في هذا الباب.
[16] "مجموع الفتاوى" (18/48).
[17] "شرح العقيدة الطحاوية" (ص: 339، 340).
[18] نقلاً عن "العقيدة في الله"، لعمر سليمان الأشقر (ص: 60).
[19] "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، للالكائي (1/156).
[20] "ذم الكلام"، للهروي، (ص: 315).
[21] "فضل علم السلف على علم الخلف"، لابن رجب، (ص: 58).
[22] رواه البخاري (103، كتاب العلم، باب: من سمع شيئًا فلم يفهمه، فراجع فيه حتى يعرفه).
[23] "مجموع الفتاوى" (3/338، 339).
[24] "مجموع الفتاوى" (3/347).
[25] "مجموع الفتاوى" (3/157).
[26] "الجامع لأخلاق الراوي"، للخطيب البغدادي (2/212).
[27] "الموافقات" (1/245، 246).
[28] "إعلام الموقعين" (2/294).