الموضوع: مشاهد الحج
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-12-2019, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد الحج

مشاهد الحج


الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي


مقام إبراهيم:



وتجد أيضًا هذا المقام - مقام إبراهيم - الذي فيه موطئ قدميه عندما كان يبني الكعبة، فيصعد به الحجر كلما تطاول البنيان، كأنه سلمٌ كهربائي، ومن عصر إبراهيم إلى عصرنا هذا وهو موجود هنا، ولذلك يقول فيه أبو طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:



وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ وَسَاعٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
وَمَوْطِئِ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ[18]







فما زال موطئ إبراهيم على قدميه حافيًا غير ناعل إلى وقتنا هذا كما هو.

وكذلك نجد من هذه الآيات البينات، هذا الأمن والأمان الذي فطر الله عليه النفوس في هذا المكان، فالنفوس مطمئنة إلى أمانها، ومرتاحةٌ في هذا المكان راحةً لا تجدها فيما سواه، وهكذا الأمن والطمأنينة أمرٌ مشاهدٌ، حتى عند غير العاقل، كما قالت المرأة في أبياتها التي ذكرنا بعضها:






وَاللَّهُ آمَنَ طَيْرَهَا وَالعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ







وكذلك فإن هذه الطيور التي تعيش في هذا الحرم تأمن الناس، وتألفهم من عصر الجاهلية إلى عصرنا هذا؛ ولذلك قال فيها النابغة الذبياني في عصر الجاهلية:






بِالمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرَ تَمْسَحُهَا رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الغِيلِ وَالسَّعَدِ[19]







فهذه العائذات عائذات الطير من العصر الجاهلي، وهي تألف هذا الحرم، ويمر بها الناس ويمسحونها ولا يؤذونها، وهي تألفهم وتستقر في هذا المكان؛ دليلاً على هذا الأمن الذي وضعه الله فيه.

وجوب حج البيت:


وكذلك من هذه الآيات البينات، أن الله أوجب حجه على الناس، فيأتونه في كل سنة، فيقام فيه الموسم، فيأتي الناس من مشارق الأرض ومغاربها.

هذه الآيات البينات هي التي بينها الله في قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].

ولذلك جاء في الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام، فرأى البيت العتيق، قال: ((اللهم زِد هذا البيتَ تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة وبرًّا، اللهم زد مَن شرَّفه وكرَّمه وعظَّمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا))[20].

ولا شك أن المؤمن الذي يقفو أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا علم أنه طاف سبعة أشواط بهذا البيت، وكل الأنبياء من قبله، وأنه كان يمسح هذا الركن اليماني بيده، ويقبل نفس الحجر الأسود الذي تقبله أو تلمسه بيدك، وهو الذي لمسه آدم، ومَن بعده مِن الأنبياء إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لاشك أن هذا مما يزيد الإيمان.

الصفا والمروة:


وكذلك إذا ذهب الشخص إلى الصفا والمروة، فإنه يتذكر أنهما من شعائر الله، وشعائرُ الله معناها: التي أشعر الله فيها بحكم وعظمها، والله قال فيهما: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اقترب من الصفا: ((أبدأ بما بدأ الله به))[21].

فإذا صعدتَها تذكَّرتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان محصورًا عليها في أربعين شخصًا، هم المؤمنون على وجه الأرض، في دار الأرقم، وأن الله وعَدَهم أن يبلغ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، وأن ينتشر حتى تخرج الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف أحدًا إلا الله.

مستضعفون في الأرض:


وفي حديث خباب بن الأرت في الصحيح، أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بُردَهُ في ظل الكعبة، فقال: "يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيجعل فيها فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظمٍ وعصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون))[22].

فيذكر الشخص هذا الحصارَ الذي كان مضروبًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهم نفرٌ قليل، مختفون بأمرهم، لا يستطيعون الظهور إلى الناس، ولا أن يطلع على أمورهم أحدٌ، وهم في دار واحدة تحصرهم جميعًا، لا يتجاوزون أربعين نفسًا، ثم امتنَّ الله عليهم بالإظهار والنصرة والانتشار، حيث قال الله – تعالى -: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

فتذكر هذه النعمة كما أمرك الله بذلك، فتقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))[23].

أنجز وعده: وهو قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

وقد حقق الله هذا الوعد لرسوله وللمؤمنين، وأنت داخل في جملة الموعودين بذلك، فلما وصلت إلى هذا المكان حقق الله لك وعده وأنجزه، فلذلك تحمده على ذلك، فتقول: لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده.

ونصر عبده: أي نصر اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فلم ينصره الناس، ولذلك قال - تعالى -: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

وكذلك تقول: وهزم الأحزاب وحده:


فتذكر أن الذين كانوا يعادون هذه الدعوة، ويقفون في وجهها، من صناديد قريش، ومن سواهم - لم تبقَ لهم باقيةٌ على هذه الأرض، ولا يُعلم مكانُ أحد منهم؛ إلا أنه عن يسار من دخل النار - نعوذ بالله - أما محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا مستضعفين، فهم الذين كتب الله البقاء لدعوتهم، وأيدهم بنصره، وأعلى منزلتهم في الأولين والآخرين، ونصرهم هذا النصر المبين، فلذلك تُثني على الله - سبحانه وتعالى - بهذا فتقول: "وهزم الأحزاب وحده".

ثم إذا ذهبت إلى المروة تذكرت أن الصفا والمروة كان عليهما صنمان؛ كان على الصفا صنم اسمه إساف، وكان على المروة صنم اسمه نائلة[24]، وكان الناس يترددون بينهما في الجاهلية ويعظمونهما، فلما كسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذين الصنمين بعد الفتح، تحرج أصحابه من الطواف بهما (الصفا والمروة)؛ فردَّ الله عليهم هذا التحرج بقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].

وادي منى:


ثم إذا ذهبت إلى منى، رأيتَ هذا الوادي المبارك الضيق، الذي كان فيه إبراهيم خليل الله، وكان يطرد الشيطان ويرجمه بالحجارة[25]، وفيه كانت قصة الذبيح، وفيه منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف، حيث نزل ونظم الناس تنظيمًا عجيبًا، فجعل في مقدمة المسجد المهاجرين والأنصار؛ إشعارًا للناس بمنزلتهم في الإسلام؛ لئلا ينازعوهم، ثم جعل وراءهم مُسلمة الفتح، ثم وراءهم الأعراب، فجعلهم في مؤخرة المسجد، وترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما عُرض عليه أن يُبنَى له بيت بمنى؛ يستظل فيه من الشمس، قال: ((لا، إنما منى مُناخ مَن سبق إليها))[26].

وتجد هذا التواضع العجيب من سيد خلق الله، وأكرمهم على الله، وهو يمتنع أن يبنى له بيتٌ في منى؛ يستظل فيه من الشمس، ويصلي في مكان هذا المسجد إلى غير جدار، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وتمر الأتان بين يدي بعض الصف وهو في صلاته[27]، فكل هذا يشعرك أن هذا الدين دين الفطرة، وأنه مَن تواضع لله رفعه الله[28]، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُعزَّه الله بمعايير المادة الدنيوية، وإنما أعزَّه بمعيار نصر الله - سبحانه وتعالى - ورَفْعه الذي رفعه به وأعلى منزلته.

إلى عرفات:


ثم عندما تنطلق إلى عرفات، تستشعر أن هذا الوادي الذي يسمى بطن نعمان، وهو وادي عرفات - هو الذي مسح الله فيه ظهرَ آدم بيده الكريمة، فأخرج منه ذريَّة، فقال: أي ربِّ، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم مسحه مرةً أخرى، فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربَّ، من هؤلاء؟ فقال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون[29]، ثم دعاهم أجمعين فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى جميعًا، هذا في عالم الذرِّ، أما المؤمنون فقد بقوا على هذا العهد الذي أشهدوا الله عليه، فما زالوا يجددون العهد في كل سنة يتوافدون إلى هذا المكان؛ ليعلنوا أنهم يقرون لله - تعالى - أنه ربهم، يتذكرون أنه خاطبهم في هذا المكان بقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؛ فلذلك يجددون هذا العهد مع الله، وهو العهد الذي تجدده أنت في كل صباح ومساء، بما أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت))[30] الحديث، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت: هو هذا العهد القديم الذي كان في عالم الذر، الذي قال الله فيه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

ثم تتذكر هذا الموقف العظيم، الذي هو أعظم يوم في السنة، ولم يمر على الشيطان يومٌ في السنة أخزى فيه منه، ولا على العباد يومٌ أكثر مغفورًا لهم فيه من هذا اليوم.

والناس فيه يستقبلون عثراتهم، ويبكون ويتوجهون إلى الله بقلوب خاشعة، وفيهم المقبولون ومن سواهم، وفيهم مَن يرجع كما أتى أو شرًّا مما أتى.

تتذكر وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، وما خاطبهم به، وتتذكر تجلي الباري - سبحانه وتعالى - ليباهي بعباده ملائكتَه، فيقول: ((هؤلاء عبادي، أتَوني شعثًا غُبرًا، أشهدكم أني قد غفرت لهم))[31].

تتذكر هذا الوادي المبارك والذكريات فيه كثيرة: من خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فيه، عندما خطب خطبة الحج، وفي آخرها أمر بلالاً فأذَّن ثم أقام، فصلى الظهر ركعتين، ثم أمره فأقام فصلى العصر ركعتين، ثم ابتدأ الموقف، وتتذكر حال أصحابه معه في ذلك اليوم وهم يحيطون به من كل جانب، وما كان يأمر به جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - أن يستنصت الناسَ؛ حتى يسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما انطلق بعد غروب الشمس يهدئهم، ويأمرهم أن ينصرفوا بهدوء وسكينة؛ لأنهم في عبادة لله - سبحانه وتعالى - هي من أعظم القُرب.

المشعر الحرام:


ثم إذا وصلت إلى المشعر الحرام مزدلفة، وأنت كنت في مشعر حلال (فعرفة هي المشعرُ الحلال؛ لأنها خارج حدود الحرم، ومزدلفة هي المشعر الحرام؛ لأنها داخل حدود الحرم) فتذكرت مبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بها، ووقوفه الموقف الذي ستقفه أنت بعد طلوع الفجر، تكبِّر الله - سبحانه وتعالى - على ما هداك وما وفقك إليه من الحج، وتذكر أن أهل الجاهلية كانوا يذكرون آباءهم، ويتفاخرون بأنسابهم في هذا المكان، فتذكر الله أكثرَ مما كانوا يذكرون آباءهم.

وبذلك يقوى منسوبُ الإيمان لديك، حتى إذا أفضتَ إلى منى، وأسرعت في بطن مُحَسِّر (وهو وادي النار) - تذكرتَ أيضًا أنه هو الذي انتقم الله فيه من أصحاب الفيل، الذين كانوا يريدون هدم البيت العتيق: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 3 - 5]، وجاءت هذه الطيور من جهة البحر الأحمر، وكل طائر منها يحمل ثلاثة أحجار، فيرمي ثلاثة رجالٍ فيهلكون، حتى قضى على آخرهم، ومات الفيل في هذا المكان، فتسرع في هذا المكان؛ لأنه مكان غضب، ومخالفة للمشركين والنصارى الذين كانوا يقفون فيه.

ثم تصل إلى مِنًى بحمد الله، فإذا وصلتَ إليها، ورميت جمرة العقبة - تذكرتَ موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها، وأنك تسلك أثره، وهذا الموقف الذي قال فيه ابن مسعود: "هذا موقف الذي أنزلت عليه سورة البقرة"[32]، يقصد موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم.


العودة من رحلة الآخرة:

ثم بعد ذلك إذا بدأتَ التحلل، تذكر نعمة الله - تعالى - عليك؛ لأنك أتيحت لك فرصة جديدة بعد هذه الرحلة إلى الآخرة، التي تذكرك بالموت بكل ما فيه وبالمحشر؛ حيث جمع الناس في هذا المكان الضيق في عرفات، ورأيت أنواع البشرية وأجناسهم يجتمعون من كل فج عميق، وتذكرت أن الله - سبحانه وتعالى - لا يعجزه حشرُهم جميعًا في الساهرة؛ إذ أرانا من قدرته أنه حشر هذه الخلائق، التي لا حصر لها، والتي يعجب الشخص إذا رآها كالسيول الهادرة في هذه الأماكن الضيقة، فرأيت هذا العجب العجاب، وتذكرت به النشأة الآخرة، وأن الله سيناديهم فيخرجون من الأجداث سراعًا، ويجتمعون جميعًا في الساهرة، حينما يناديهم المنادي: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فيخرجون سراعًا يلتقي أولهم مع آخرهم، وينسَوْن كم لبثوا في قبورهم، فإذا اجتمعوا جميعًا في الساهرة أُتي بجهنم تُقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف مَلَك، فتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تصير كالميل على رؤوسهم، ويشتد العرق حتى يُلجِم أقوامًا، ويصل إلى تراقي آخرين، وإلى ثدي آخرين، ودون ذلك، ويطول هذا الموقف حتى يكون كألف سنةٍ مما تعدون، ويبحث الناس فيه عن المخرج ولا يجدون المخرج إلاَّ إلى الأنبياء، ويختارون أولي العزم منهم، فيمرون بهم مرورهم الذي أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم في الآخر تكون المنزلة والرفعة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الشافع المشفعن وهذا هو المقام المحمود الذي ادخره الله له.

تذكر ماذا ستكون عليه في ذلك اليوم، الذي ينظر الشخص من أمامه فلا يرى إلا عملَه، وينظر من خلفه فلا يرى إلا عمله، وينظر أيمن منه فلا يرى إلا عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلاّ عمله، وتذكر هذا الموقف العظيم الذي تعلن فيه النتائج، وينادي الله - سبحانه وتعالى - آدمَ بصوت، فيقول: ((أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم تذهل كلُّ مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى؛ ولكن عذاب الله شديد))[33]، ذلك الوقت الذي تعلن فيه النتائج على رؤوس الأشهاد، فينادى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59].

فيُفصل بين الناس فيه، ويحال بينهم، ويضرب فيه بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره مِن قِبَله العذاب.

تتذكر مرورك وعبورك على الصراط، الذي هو جسرٌ منصوب على متن جهنم، يمر الناس عليه، وهو أحدُّ من السيف، وأرقُّ من الشعر، وعليه كلاليبُ كشَوْك السَّعْدَانِ، يمر الناس عليه بحسب أعمالهم؛ فمنهم مَن يمر كالبرق الخاطف، ومنهم مَن يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدْوًا، ومنهم من يزحف على مقعدته؛ فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسل، ومكردسٌ في نار جهنم.

تتذكر عبورك على هذا الصراط، وأنه جسر حقيقي، وأنك اليوم تسير على جسر معنوي، وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأنه بقدر ثباتك على هذا الصراط الدنيوي، يكون ثباتك على الصراط الأخروي.


فاختر لنفسك وأنت ترى هذا بعيني رأسك، ترى أنك الآن تسير على صراطٍ، أنت متحكمٌ فيه، وأنت منه في سعة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

تسير في صراط موافقٍ للفطرة، ليس فيه كلاليب كشوك السعدان؛ بل كل أموره ميسرة ولله الحمد، كل أموره موافقة لمرضاة الله، ولفطرة ابن آدم التي فطره الله عليها، وكلها لمصلحة ابن آدم، وأنت تسير عليه، واعلم أنه على قدر استقامتك عليه ستكون استقامتك على ذلك الصراط الأخروي، الذي وصفناه بأوصاف مناقضة لهذه، فهو بهذا الضيق، والشدة، والحدة، وعليه هذه الكلاليب، التي هي كشوك السعدان.




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]