عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 20-12-2019, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,120
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأبعاد التربوية للحج

مع السائرين!تـنـمـية الجوانب الأخلاقية: بعد غروب شمس يوم عرفة تبدأالإفاضة، فينطلق الحاج إلى مزدلفـة بهدوء وسكينة، مهللاً ومكبراً وملبياً، ثم يُصليالمغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان واحد وإقـامـتـيــن. ثـم يوتر ويبيت بمزدلفة.فإذا تبين الفجر صلى مبكراً، ثم قصد المشعر الحرام فوحَّد الله وكــبَّـر واستقـبلالقبلة، ثم دعا بما أحب حتى يُسفر جداً، أو يدعو في مكانه إن لم يتيسر له. ثم يلتقطحـصـيـات مــــن مزدلفة ليرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يتجه إلى منى. وإذا وصل إلىوادي محسر ـ وهو بين مزدلفة ومنى ـ استحب له الإسراع.وعندما نتأمل هذه المسيرة من خلال بُعدها التربـــوي وما ترمزإليه نستشعر بعض الوقفات واللمحات التربوية التي تدور حول بعض الأخلاقـياتالـمـنـشـودة للسائرين على درب المشروع الحضاري:أ -كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصيبالسكينة والهدوء فيقول: "أيها الناس! عـلـيـكـم بالـسـكـينة؛ فإن البر ليــسبالإيــضاع ـ أي بالإسراع ـ" (30) وكان صلى الله عليه وسلم يسيرالعَنَق ـ أي سيراً رفيقاً ـ فإذا وجد فجوة ـ أي مكاناً متسعاً غير مزدحم ـ نَصَّ ـأي أسرع ـ " (31).
والأمــــر بالسـكـيـنـة وصية يُستشعرمنها معانٍ عظيمة منها: الهدوء، والنظام، والطاعة، ومراعاة حقوق الآخــر، ومراعاةجلال الموقف؛ وذلك من خلال سمات المنهج الذي يربي أتباعه على النظام والطاعــة،وعدم التخلق بأخلاقيات الغوغائيين التي تبرز دوماً مع أي تجمعاتكبيرة.ب -كان من هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الإفاضة أن يستمر الذِّكر والتهليلوالتكبير والتلبية والاستغفار حتى تُرمى جمرة العقبة.وكـذلك كـانــت توجيهاتالحق ـ سبحانه ـ: (( فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَالمَشْعَرِ الـحَـــــرَامِ واذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِلَمِنَ الـــضَّـالِّــيـنَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حـَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُواسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فَإذَا قَضَيْتُممَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً )). [البقرة: 198 - 200].وهذا الهدي وتلك التوجيهات تـوحــي بـأهـمـية المتابعةوالاستمرار على الحالة الروحية الرفيعة المكتسبة من الدورة الروحية العظيمة أثـناءالوقوف بعرفات، وكذلك نستشعر معها أهمية المحافظة على المكتسبات الربانية،والـثـمـــرة الروحية للحج؛ فلا تذهب مع مشقة المسير. كما نستشعر مدى عمق التحذيرالإلهي من خطر العودة إلى الضلال السابق؛ فالموفق من تذكَّر ماضيه وقارنه بالحالةالربانية التي هو فــيـهـــا، فـشكر الله ـ عز وجل ـ ظاهراً بالمتابعةوالاستمراريـــة، وباطناً بالخوف من خطــر النكــوص والارتكـاس،والانتكـاس.ونـسـأل الله ـ سـبـحـانه ـ العفو والعافية، لا نحصي ثناءاً عليه ـسبحانه ـ، هو كماأثنى على نفسه.ج -في وصـفــه ـ ســبحانه ـ لحالة الذِّكرالمنشودة: ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) [البقرة: 200] نسـتـشـعر مدى أهمية تنقية النية وتصفيتها؛ فإذا كانت الغاية هي اللهـ سبحانه ـ فيجب ألاَّ تختلط بغايات أو رايات أخرى.كذلك يتبين لنا أهمية وجودالعقلية المسلمة المرتبة التي تفقه أولوياتها؛ فمن كان همه رضا خالقه ـ سبحانه ـفينبغي ألاَّ تـعـيـقـه أي اهتمامات أخرى حتى وإن كان الوالد أو الولد؛ ففي تلكالمواقف يصبح الاهتمام بالموروثــــــات القبلية مثل مجد الآباء والأجداد، والفخربالأبناء والأموال من قبيل النزول من القمة إلى السفح، ومن الاهتمام والتمحور حولالأفكار والمبادئ إلى التفاخر بالـوســائل الماديــة كالأرض والطين. والحـق ـسبحانه ـ يحب معالي الأمور.د -ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ خلقاً آخر يوصي به السائرين(ثُمَّأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) [البقرة: 199]. هذا وإن كــانت هذه وصيتهـ سبحانه ـ بأن تلتزم قريش بالوقوف مع الناس، وعدم التمايز المكاني؛ فقد كانت قريشومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ـ وكانوا يُسَمَّوْن: الحُمْس ـ وسائر العربيقـفــون بعرفات؛ فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتيعرفات، ثم يقف بها؛ ثم يفيض منها؛ فذلك قوله: ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ))" (32).
ولكننا نستشعر هنا المعنى التربوي البعيد للنص؛ حيث يدعوالسائرين في كل درب وفي كل مجال إلى التخلق بخلق المساواة والعــدل والتسوية بينالأفراد وعدم التمايز الذي من شأنه أن يمنع تولد الحقد والبغضاء والحـســـد داخل أيتجمع؛ فما بالك بالسائرين على درب المشروع الحضاري؟!ولقد كان الحبيب صلى اللهعليه وسلم يتتبع هذا الخلق في كل مجال.وتـدبَّـرْ هذا السلوك النبوي التربــويالرفيع؛ فعــن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ "أن أباه أتى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي.فقال رســـول الله صلىالله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم: فأرجعه". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هـــذا بولدككلهم؟ قال: لا، قال: اتقــوا الله واعدلــوا في أولادكــم. فرجـع أبي فـردَّالصدقة". وفـي روايــة: فـقال رســول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشير! ألك ولدسوى هذا؟ قال: نعم. قال: أكلـهـم وهـبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشهدنيإذاً؛ فإني لا أشهد على جَوْر. ثم قال: أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال:بلى! قال: فلا إذاً" (33).
وكــذلـك كان شعور كل فرد منالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، وكأنه هو المقرب والمفضل عنده صلى الله عليهوسلم.ويستشعر الداعية أيضاً كيف أن بعضاً من داخل أي مؤسسة ـ خاصة المؤسساتالدعوية ـ قد يصـيـبـه حالة اعتلالية يرى فيها نفسه فوق الآخرين، فينظر إلى موقعهالتنظيمي ويقيِّم الآخرين على أساس تقدمه عليهم، ولا يفيض في الحركة الدعوية من حيثأفاض الناس، وهي (ظاهــرة الغرور التنظيمي)، ولو تدبر قليلاً لوجد الرد الإلهيواضحاً في سورة عبس؛ وهي السورة التي وضعت أساسات وموازين تقييمالناس.هـ -وفي قـولــه ـ سبحانه ـ: ((فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَافِي الدُّنْيَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . ومِنْهُم مَّن يَقُولُرَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَالنَّارِ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُالحِسَابِ)) [البقرة: 200 - 202].(إن هناك فريقين: فريقاً همه الدنيا، فهو حريصعليها مشغول بها، ويذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالـدعــــاء؛ لأنها هي التيتشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم فيالدنيا ـ إذا قدر العطاء ـ ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق. وفريقاً أفــســــحأفقاً وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه فيالآخـــرة؛ فهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة، بــليَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون.وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب)(34).
ونـحـن نــدور مــع الـبـعـد التربوي البعيد للنص، وهوالتركيز على علاج (ظاهرة القصور الفكري) التي تصيب بعضاً من اللحظيين ذوي النظرةالمحدودة التقدير القاصرة القريبة من حواسهم ضيقي الأفق؛ فلا يدركون الأبعادالبعيدة للقضايا والأمور.وعلاجها يتم بضرورة تشجيع ذوي النظرة المستقبليةللأمور البعيدة التقدير، والاستشرافية للقضايا.وكم من مكاسب عظيمة أضاعهاالمحدوديون! ولم يكن لهم نصيب في فقه سراقه بن مالك ـ رضـي الله عـنـه ـ عـنـدمــاتـنـاقش مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مطاردته له في الـهـجـرة، ونـظـر إلىالمكاســب العـظـيـمـة البعيدة التي تفوق جائزة قريش، فكسب نعمة الإسلام، والنجاةفي الآخرة، وفوق هذا حصل على الوعد بسواري كسرى بعد سنوات أثناء حكم الفاروق ـرضوان الله عليه ـ.

عوائق..وتضحيات:أهـمـيـة مـعـــرفة عوائق الطريق:ثم نأتي إلى اليوم العظيم، يوم النحر؛ يوم العيد؛ حيث ينطلق الحاج قبل طلوع الشمسإلى منى ملبياً وعليه السكينة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات مـتـعـاقـبـات،ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عندها، ثم يذبح الهدي، ثم يحلق أو يقصر. وبـذلكيـتـحـلل التحلل الأول، فيلبس الثوب ويتطيب، ويحل له جميع محظورات الإحرام إلاالنساء، ثـم يـذهــب إلى مكة لطواف الإفاضة بدون رَمَل. ثم يصلي ركعتي الطواف،ويسعى المتمتع والقارن أو المـفـرد الـذي لـم يـسـع. وبذلك يتحلل التحلل الكامل.ويشرب من زمزم، ويصلي الظهر ـ إن أمكن ـ، ويكبر، ثم يـذهـب للمبيت في منى باقيالليالي.وحول الأبعاد التـربـويـة لأعماليوم النحر نقتطف بعض هذه الملامح التي ترمز إلى معرفة السائر لعوائق الطريق،وتصميمه على الانتصار عليها:أ -عـنـدمـــا يـبتدأ الحاج بالرمي فإنما هو من باب دخول البيوتمن أبوابها؛ حيث إن الرمي هو تحية منى.وكذلك هو من باب الـبـدايــة بالأصلالكبير في كل قضية؛ فبعد سفر طويل وتعبئة كبرى، وشحن داخلي يتجه الحاج إلى العدوالأول، ذلك الذي حذره منه الحبيب صلى الله عليه وسلم فعرَّفه عليه ليتجنبه؛ كـيـفلا وهــو عينه ذلك العدو الذي لم يَرُقْهُ جلال سويعات الوقوف بعرفات، وكان في أغيظمواقفه؟!وعندما يرمي الحاج سبعاً من الحصيات فإنه يبدو كأنه تصميم على جديةالمواجهة ضـــد شبهات الشيطان وشهواته.وفي دعاء الحاج ربه عقيب الرمي يتبينأهمية سلاح الدعاء في كل موقف، وكذلك يتـبـيـن معنى فقر العبد دوماً إليه ـ سبحانهـ؛ فبعونه ـ عز وجل ـ تأتي القوة والمنعة والـنـصـر في معركته ضد عدو اللهوعدوه.وبتدبر البعد التربوي الشامل للرمي نستشعر أن أصل كل معركة أن تعرف من هوالـعــدو الحقيقي، فتواجهه.فمن العوائق الرئيسة عدم معرفة العدو، وعدم معرفةأسلحته، ونقط ضعفه، ومعرفة كيفية التغلب عليه.ب -وفي الـنـحــر دلالات عـظـيـمـةللسائر: فهو يرمز إلى أن السائر الذي يعرف طريقه، ويعرف هدفه، ويعرف أيضاً عدوه،وأن عـلـيه ألاَّ تعيقه أي تضحيات في سبيل تحقيق ما خطط له.يتأمل الداعية ذلكوهو يتذكر رواده على الـطـريـق، يتذكر الخليل ـ عليه السلام ـ وكيف أنه ضحى بولدهالوحيد الحبيب ـ عليه السلام ـ وذلك في سبيل رضاه ـ سبحانه ـ وامتثالأمره.والله ـ عز وجل ـ لا يريد العنت بعباده، وإنما يـريــد لهم تجربة واقعيةتثبت وتبرهن أن الـعـبـــد قد رتب أولوياته جيداً، وعندما يثبت ذلك للعبد نفسه وليسللحق ـ سبحانه ـ الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عند ذلك فقط يكون النجاحفي الاختبار.كيف لا والحق ـ سـبحانه ـ قد أخبر أن إبراهيم وولده ـ عليهماالسلام ـ قد نجحا بالرغم من عدم ذبح إسماعـيـل ـ عليه السلام ـ؟ فالقضية لم تك هيالذبح، بل هو مجرد اختبار واقعي لجدية الاستعــداد للتضحية: ((ونَادَيْنَاهُ أَنيَا إبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِيالمُحْسِنِينَ)).[ الصافات: 104، 105].والموفق هو من يعرف عـوائق طريقه،فيتـغـلب عليها مضحياً في سبيل هدفه الأسمى، وهذا هو الفيصل والفارق: ((ومِـنَالـنَّـاسِ مَـــن يَـتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّاللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ)). [البقرة: 165].فرحم اللهمن أرى أعداء الله مـنـه قـوة، ورحــم الله من أظهر لربه منه جدية وبذلاً وحباًوتضحية، وترتيباً صحيحاً لأولوياته.ج -وفي ذهاب الحاج إلى مكة لطواف الإفــاضــةأبعاد تربوية عظيمة منها أنه تأكيد على أن السائر لم يزل على عهده، ولم تزل القضيةالمحورية التي يدور حولها وبها ومعها هي شغله الشاغل.ومنها أيضاً أنه فوق كونهتجديداً للعهد، فـهـو تجديد للزاد الذي من شأنه أن يقويه على أي عقبة فيالطريق.ومـنـهـا أهـمـيـة تـذكـير الأمة بضرورة توحيد الغاية والهدف والهموملتكون أشبه بمحور تطوف كل فئات الأمة حوله حتى تتجمع القوى حول الأهداف العظام، ولاتتفرق.فمن عوائق الطريق الـتـشرذم تحت رايات متعددة، والتمحور حول أفكار غيرموحدة؛ لأن من أهم ركائز المشروع الحضاري الإسلامي هو الحركة الجماعية المنظمةوالمتوافقة.د -وعندما ينهي الـحـاج أعـمـــال يوم النحر بالحلق أو التقصير، وهو من باباستعداد الحاج لأعمال منى، التي ستكون أشبه باللجان المصغرة التي تعقد ورش عمللمتابعة أعمالالمؤتمر السنوي الذي عقد في عرفة.وعندما يقرر صلى الله عليهوسلم صـحـة كلٍ من الحلق والتقصير، ثم يرتب الحلق ويفضله على التقصير فإنما هو منباب يسر المـنـهج ومرونته، وكذلك له مغزى تربوي آخر وهو من ركائز المشــروع الحضاريألا وهــو قـبـول الآخـــر، أو بمعنى أشمل هو من باب التعددية الـفـكـريــةوالمـذهـبـية؛ وذلك كما بينا ذلك عند الحديث عن أهمية إعادة صياغة العقلية المسلمةعلى أصول منها: قضية تعدد الصواب.فمـن عوائق الطريق وجــود بعض من ذويالاعتلالات التربوية والحــركية بل والفكريــة، فلا يرى إلا رأيه، ولا يستمع للآخر،بل يبلغ به الأمر إلى أن يسفه رأي الآخر، ويتمادى به الاعتلال حتى يسفه الآخرنفسه.وقـديـمـــــاً من وراء السنين أنصفنا المربون عندما حملوا لنا نصيحةالشافعي ـ رحمه الله ـ عندما وضــــع قـاعــدة ذهبية من قواعد حرية الفكر: "رأيناصواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب".بل إن الحق ـ سبحانـه ـ ذمرائد هؤلاء (الدكتاتوريين) عندما وضع قاعة بغيضة من قواعد كبت الفكر: ((قَالَفِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَالرَّشَادِ)) [ غافر:29].مع لجانمنى!:أهمية بث روح المؤسـسـيـة: بعد ذلكتبدأ أيام منى أو أيام التشريق. وأعمالها تتلخص في رمي الجمرات الثلاث، والـمـبـيتبمنى، وهي أيام قال عنها المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكلوشرب وذكر لله" (35).
وحول أيام منى والأعمال الخاصة بها نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من بابهذه الدراسة وقيمتها وما ترمز إليه:أ -حول لزوم المبيت للحاج بمنى، وأن يبقى أكـثــرالليل في أوله أو آخره. وكأن من فقه المتابعة أن يشارك الحاج في حضور اجتماعات منىالمصغرة والتي هي أشبه بفرق العمل أو اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنويالكبير، وذلك لمدارسة التوصيات.وهذا يبين لنا أهمية المتابعة لكلأمر.ب -ومن أعمال منى رمي الجمرات الثلاث، كل واحـــــدة بسبع من الحصيات، ووقت الرميمسألة خلافية، ولكن المختار أن يبتدئ من الزوال إلى الغروب.والبعد التربويللرمي هو أنه يبدو كأنه تأكيد على أن المجـتـمـعـيـن عليهم ألا يغفلوا عن العدوالمتربص بهم، ومحاربته وصد ما يلقيه من شبهات وشهوات سواء للنفس أو الزوج أو الولد،وألا يغفلوا أيضاً عن العدو الخارجي.ورمي كل جمرة بسبع من الحصيات هو أيضاً منباب التصميم والجدية في المعركة.وفي اختلاف وقت الرمي؛ حيث يبدو الحجيج بينذاكر لله ورام ودارس وطــائــف وآكل وشارب، وفي الوقت نفسه يبدو حالهم كأنه من بابتكامل الجهود وتنوع الأعمال وتوافق الوظائف، وكأنهم في حركة جماعية مؤسسية تقوم علىلجان متوافقة متناسقة ومـتـكاملـة ومـتـعاضدة. وهو من باب أهمية المؤسسية في الحركةالجماعية الهادفة إلى تحقيق المشاريع الحضارية. وهو أيضاً من باب الاعتراف والتقريربل والتقدير لكل عمل سواء قل أو عظم، ما دام يتوافق مع الحركةالمؤسسية.ج -كــان الـقـائـد صـلـى الله عـليه وسلم في هذه الحركة الجماعية أيام منىمثالاً للقيادة الواعية؛ فعن ابن عـبـاس ـ رضــي الله عـنـهـما ـ أن النبي صلى اللهعليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: "لا حرج" (36).
وأهم سمة قيادية في مثل هذه المواقف ينبغي أن تتمثل فيالمرونة واليسر.وهاتان السمتان ـ سواء المرونة القيادية، أو التخلق بخلقالتيسير ـ إنما تنبثقان وتنبعان من القاعدة الربانية الكبرى للمنهج الإســــلامـي:((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185].
وهذه السمة القيادية تبدو بارزة عند القادة الربانيين في كلالمواقف.ولـعـلـنـا نـذكـــر ذلك القائد الرباني طالوت الذي كان يتمتع بهذهالمرونة القيادية، فكان رحيماً في تجربـتـه الجهاديةالتغييرية؛ عندما قال لأتباعه:((إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) [البقرة: 249].والموفق من يكونمتوازناً بين الحزم والمرونة، وبين الشدة والتيسير بشرط أن لا يخل ذلك بروحالانضباط؛ فيحافظ على شعرة معاوية.د -ومن الـسـنـةالـصــلاة فـي مـسجد الخيف أيام التشريق؛ حيث ورد أنه صلى في هذا المسجد سبعوننبياً. وهو من باب استشعار عمق جذور الحركة الدعوية، وأصالتها في عمق التاريخ؛فالمشروع الحضاري لــيــس بـدعـاً؛ بل هو بعث لروح الأمة وتجديد لدينها، أو بالمعنىالأبسط: هو مجرد إزالة للركام المركــب الـذي طـمس معالم المنهج سواء من جانب ضياعالمفاهيم، أو من جانب سوء طريقة عرضه ومعاصرة طرحه.أو بمعنى آخر: هو جولةحضارية تغييرية جديدة تـقــوم عـلـى مـرتـكـز عظيم وهو رصيدالتجربة.هـ -ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أيام منى أكل وشرب وذكر لله.وهـذا يـشـعـرنـــا بأهـمـية تنمية الجانب الروحي، ومتابعة ذلك عند السائرينعلى درب المشروع الحضاري، حتى في سويعات الراحة المباحة من الأكلوالشرب.

وداعٌ .. وأمل:أهـمـيـة الـحـركـــة وبث روح الأمل: ثم نأتي إلى نهاية رحلةالحج المباركة التي تنتهي بذهاب الحاج إلى مكة لطواف الوداع، وذلك قبل غروب شمس يومالثاني عشر للمتعجل، أو يوم الثالث عشر للمتأخر، ثم بعد ذلك يعود إلى بلدهمباشرة.وحول بعض الملامح الـتـربـويـــة للنهاية الجليلة لتلك الرحلة العظيمةنقتطف بعض هذه القطوف التربوية.لمـا كان الهدف هو حضور المؤتمر السنوي العامبعرفات، ومعرفة العدو الواحد، ثم حضور لجـان منى وفرق العمل المنبثقة عن المؤتمرالعام، واستشعار روح المؤسسية، وفوق ذلك كله الـتـزود بــزاد التقوى:((وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [البقرة: 197]، وبلوغ درجاترفيعة من التربية الروحية ـ كان الأصل أن يعود المؤتمرون إلى بلادهم للقاء منيمثلونهم من الأمة ومتابعتهم.يعودون إلى حـيـث يـنـشــرون فكرتهم في أرجاءالمعمورة، وكأن الانتشار بالفكرة هو الهدف المطلوب، أو أن الحركة بالفكرة هي قضيةالساعة الآن.وكذلك يدل على عالمية الرسالة؛ فهي مشروع لا يعرف حدوداً من جنس أوأرض.ولكن قبل العودة كان لا بد من مِسك الختام فيِ الطوافِ الأخير طوافِالوداع.وتدبر مغزى كلمة وداع وأثرها على النفس.وتدبر كيف كان الختاموكـأنـــــه تأكيد عملي أخير يركز على ضرورة فقه الهدف الواحد والهم الواحد الذيتطوف حوله جموع السائرين، والذي ستحمله القلوب إلى بلادها، تلك القلوب التي هوتشوقاً إلى هذا المكان، فأتت من كل فج عميق.ولكن هذه القلوب لم يمنعها هذاالـربــاط الـروحي ولـن يمنعها من أن تعود فتنشر فكرتها، وتدعو إلى مشروعها الذيتحقق على أرض فـأصـبـح لــه مرتكز ومركز إشعاع ثابت وقاعدة صلبة توضع عليها رايةالتجميع ليؤوبوا إليها كل حين، ثم يعودون للانتشار من جديد.فحركة التاريخوناموسية التغيير الحضاري من سماتها الـتـبـديــل والحركة التي لا تعرف السكون: بينمد وجزر، أو بين امتداد وانحسار.وكذلك الأفكار؛ فالحركة تمنع نمو جراثيمالتأسُّن الفكري في العقليات.وأيـضــــاً بالنسبة للأمم والجماعات والمؤسسات؛فإن الحركة أيضاً تهاجم حشرات التعفن الحضاري عند الأمم.وإن الحركة في كل تلكالمجالات مثلها مثل حركة الكون التي تجري مكوناتها في ديمومة حركية، لا تهدأ حتىالمستقر النهائي الذي يقرر منتهاه ومستقره العزيز العليم(والشَّمْسُ تَجْرِيلِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ)) [يس: 38].
والحركـــة الحضارية من شأنها التداول: ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَابَيْنَ النَّاسِ )) [آل عمران: 140].وعندما يفقه الدعاة وكل من يشارك في مسيرةالدعوة إلى المشروع الحضاري تلك الإشكالية، ويدركون مــغـزى السـمـة التداوليةللحركة الحضارية، ويعون الناموسية التغييرية للتاريخ فإن ذلك من شأنه أن يمدهم بزادآخر، زاد ضروري، ألا وهو زاد الأمل.ذلك الزاد الذي يعطي الدفعة العظيمةللسائرين، ويُضاعف روح البذل.وخير ما ورد عن ذلك الزاد تلك البشارات التي كانيطلقها الحبيب صلى الله عليه وسلم أثناء أصعب المواقف؛ عـنـدمـا حوصرت الدعوة وجففتمنابعها، وحوصر الداعية، وذلكأثناء غزوة الأحزاب، وكان هـنـاك مــــن يسجل لناهذا الموقفالاستشرافي العظيم للقيادة الربانية الواعية؛ كان هناك البراء ـ رضـيالله عـنـه ـ فقال: "لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منهاالمعاول، فـاشـتـكـيـنـا ذلك لرسول الله صلى الله عـلـيـه وسلم، فجاء وأخذ المعول،فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربــة، وقــال: الله أكـبـر أُعـطـيـتُ مـفـاتـيـحَ الشام،والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبرأُعطِيتُ فارس، واللهِ إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة، فقال:بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصرأبواب صنعاء من مكاني" (37).
ومرت الأحداث، وتـعـاقـبـتالأيـام، وتداولت الحركة الحضارية، واسْتَعْلت الدعوة على الحصار الشيطاني، ومكَّنالله لها فـي الأرض، وتحقــق ما بشر به القائد العظيم صلى الله عليهوسلم.وبـعـد:فهذه لمحات متواضعة حول الأبعاد التربوية لتلك الرحلة المباركة وما تمثلهمن ركائز للمشروع الحضاري الإسلامي؛ وهي محاولة نرجو من الله بها القبول؛ فمنه وحدهـ سبحانه ـ التوفيق؛ وإن كان بها من الزلات فهي مني ومن الشيطان.الهوامش:

(1)
رواه البخاري، 2/ 164.
(2)
مدارج السالكين: ابن القيم، 1/ 85 ـ 90.
(3)
رواه البخاري، ح/ 1337.
(4)
قصة جريج العابد رواها البخاري، ح/ 2302، ومسلم، ح/ 4625..
(5)
رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/5.
(6)
رواه الترمذي، ح/ 2337.
(7)
رواهمسلم، ح/ 654.
(8)
رواه مسلم، ح/ 4650.
(9)
رواه مسلم، ح/ 654.
(10)
رواه البخاري، ح/ 676.
(11)
رواه ابن خزيمة، ح/ 2634 بسند صحيح.
(12)
تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 226.
(13)
رواه مسلم، ح/ 4869.
(14)
رواه البخاري حديث رقم 1.
(15)
رواه أبو داود ، ح/ 3745 .
(16)
رواه أحمد، ح/ 5442.
(17)
رواه الطبراني في المعجم الكبير، ح/ 2910 ورواته ثقات.
(18)
رواه البخاري 1/ 101 باب أحب الدين إلى الله أدومه.
(19)
رواه مسلم، ح/ 4937.
(20)
المنهاج فييوميات الحاج: خالد بن عبد الله الناصر، 35.
(21)
رواهالبخاري، ح/ 3113.

(22)رسالة المرأة في المجتمع المسلم، 5/ 29بتصرف.
(23)
رواه أحمد، ح/ 58220.
(24)
المقدمة: ابن خلدون بتصرف.
(25)
رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/ 107.
(26)
رواه مسلم، 4/ 107.
(27)
رواه مسلم،ح/ 2402.
(28)
رواه مالك، ح/ 840.
(29)
إحياءعلوم الدين: الغزالي، 3/ 147.
(30)
رواه البخاري،ح/ 1559.
(31)
رواه البخاري، ح/ 1555.
(32)
رواه البخاريعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، ح/ 4158.
(33)
رواه مسلم، ح/ 3509.
(34)
في ظلال القرآن: سيد قطب، 2/ 201 بتصرف.
(35)
رواه مسلم، ح/ 1926.
(36)
رواه البخاري، ح/ 1619.
(37)
رواه أحمد، ح/ 17946، والنسائي، ح/3125..
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]