والمسلم ينتقي صحبته على أساس الإيمان : (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ) [37]، ويشتاق إلى أخيه المسلم : عن الحسن أن عمر [ ابن الخطاب رضي الله عنه ]، كان يذكر الأخ من إخوانه الليل، فيقول : ما أطولَها من ليلة، فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه ) [38] ، ويدعو له بظهر الغيب : عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : ولك بمثل) [39]، ويحب له ما يحب لنفسه : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [40]، ويؤازره : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) وشبك بين أصابعه [41]، ويرد عن عرضه : ( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ) [42]، وينصره ولا يخذله : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) قالوا : يا رسول الله ! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً ؟ قال : ( تأخذ فوق يديه ) [43]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) [44].
علاقة ممتدة حتى الخلود :
ولا يمنع المسلمَ عجزُهُ عن نصرة دينه وإخوانه، بل لا تنقطع هذه العلاقة حتى بالموت؛ فالمسلم يهتم لنصرة دينه حتى إنه يكترث لذلك بعد موته، هل رأيتم من يجاهد بجثته ؟ ! : غزا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الروم فمرض، فلما حُضِر قال : ( أنا إذا مت فاحملوني، فإذا صافعتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم، وسأحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذا ما حدثتكموه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) [45]، فأبو أيوب - رضي الله عنه - يذكِّر نفسه بما ينبغي أن يموت عليه، ويذكِّر أصحابه بالرسالة التي لأجلها خرجوا (التوحيد ونبذ الشرك)، ويضرب أروع مثال للفداء والتضحية من أجل هذه الرسالة، وهو الحرص على إبلاغ الرسالة وعلى امتداد جهاده بعد موته، وذلك بتكريس إسلامية أرض فتحها المسلمون، بدفنه فيها، وإضافة سبب يحفز أصحابه على التقدم وعدم التقهقر عن أبعد نقطة وصلوا إليها، وذلك حفظاً لحرمة الميت.
وتمتد علاقة المسلم بدينه وإخوانه : عند الموت : يودع الدنيا بإعلان التوحيد كما دخلها : ( لقنوا موتاكم : لا إله إلا الله ) [46]، ويُبرز المسلمون الخير عند أخيهم المحتضَر،، وتشاركهم الملائكة : عن أم سلمة - رضي الله عنها -؛ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حضرتم المريض، أو الميت، فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون ) [47] .
وتمتد العلاقة بعد الموت : فالمسلمون يصلون عليه ولو كان بعيداً غائباً ولو لم يروه؛ فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه ) يعني النجاشي [48] .
ورغم أن دفن الميت يكفي في القيام به نفر قليل، إلا أن إخوانه المسلمين لا يتركونه بعد موته يذهب وحيداً إلى أول منازل الآخرة، بل يشيعونه إلى قبره كما يشيع الضيف العزيز الراحل : ( حق المسلم على المسلم ست :... وإذا مات فاتبعه.. ) [49] .
والمسلم لا يُدفن للتخلص من جثته، بل هو يعود مرحلياً إلى الأصل الذي خرج منه : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه : 55]، وهو في هذا العَوْد مرتبط أيضاً بدينه وإخوانه؛ فهو ينزل إلى القبر تحت شعار (بسم الله وبالله وعلى سنة - وفي رواية : ملة - رسول الله ) [50]، ويدفن متوجهاً إلى القبلة؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البيت الحرام : (قبلتكم أحياءاً وأمواتاً) [51]، كما أنه ينحاز إلى إخوانه المسلمين الأموات، فلا يدفن في مقابر غيرهم، وفي المقابل : لا يُدفن غير مسلم في مقابر المسلمين [52]. وبعد الدفن يقف المسلمون عند قبر أخيهم يسألون له التثبيت : (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل ) [53]، والمسلم إذا مر على مقابر إخوانه المسلمين سلَّم عليهم ودعا لهم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية ) [54]، أما إذا مر بقبر كافر فالأمر يختلف؛ ففي حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي : ( حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ) [55] .
ولا تقف العلاقة عند هذا الحد، بل تمتد حتى لما بعد البعث؛ فيوم القيامة يحشر الناس بحسب متابعتهم ومشابهتهم الإيمانية في الدنيا : { يوم ندعو كل أناس بإماهم } [الإسراء : 71]، { \احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وأَزْوَاجَهُمْ ومَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ (23) وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [الصافات : 22 - 24]، وهنا يبرز مآل المشاعر، والعلاقات بين الناس : {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ } [الزخرف : 76]، ولا شك أن ذلك أثر لما كان في الدنيا : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت ) [56] .
وعند الجزاء يكون كل فرد مع مجموعته أيضاً : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زٍمرا } [الزمر : 71]، { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زٍمرا } [الزمر : 73].
وتستمر مشاعر الأخوة وعلاقاتها حتى بعد المستقر في الجنة : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرٍر متقابلين } [الحجر : 74]، بينما في النار : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [الأعراف : 83].
مشاعر موحدة تجاه كل شيء، وعلاقات ممتدة من قبل الميلاد حتى بعد الوفاة. فمن غير المؤمن التقي له تلك المنظومة ؟ ! { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 125].
(1) أخرجه البخاري، ك / الوضوء، ب / 6، ومسلم، ك / النكاح، ب / 18 .
(2) أخرجه مسلم، ك / الفضائل، ب / 41، والبخاري، ك / أحاديث الأنبياء، ب / 44 .
(3) أخرجه أحمد، 3 / 310، وقال محققو المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط (ح / 14333) : صحيح لغيره .
(4) أخرجه ابن ماجة، ك / المناسك، ح / 2921، والترمذي، ك / الحج، ح / 828، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، ح / 2550 .
(5) أخرجه أحمد، 5 / 170، 162، والنسائي، ك / الخيل، ح / 3577، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح / 2414 .
(6) أخرجه البخاري، ك / بدء الخلق، ب / 15، ومسلم، ك / الذكر والدعاء، ب / 20 .
(7) أخرجه الترمذي، ك / أبواب العلم، ح / 2682، وابن ماجة في المقدمة، ح / 223، وصححه الألباني، انظر : صحيح سنن الترمذي، ح / 2159 .
(8) أخرجه أحمد، 2 / 486، والنسائي، ك / الجمعة، ح / 1428، وقال محققو المسند بإشراف الأرناؤوط (ح / 10303) : إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني أيضاً في إرواء الغليل (ح / 773) .
(9) أخرجه ابن ماجة، ك / إقامة الصلاة، ح / 1084، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (ح / 1363) .
(10) أخرجه مسلم، ك / البر والصلة، ب / 15 .
(11) أخرجه البخاري، ك / بدء الخلق، ب / 12، والنسائي، ك / الأذان، ح / 644 .
(12) أخرجه ابن ماجة، ك / الأذان والسنة فيه، ح / 723، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، ح / 591 .
(13) أخرجه البخاري، ك / الأدب، ب / 12، ومسلم، وأحمد بن حنبل .
(14) أخرجه ابن ماجة، ك / الفتن، ح / 4022، والترمذي، وأحمد، والطبراني، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 154 .
(15) الجواب الكافي، بتحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص 143 .
(16) انظر : تفسير الآية عند ابن جرير الطبري (رحمه الله) .
(17) أخرجه مسلم، ك / الحج، ب / 93، والبخاري، ك / المغازي، ب / 28 .
(18) أخرجه البخاري، ك / فضائل الصحابة، ب / 5 .
(19) أخرجه مسلم، ك / الفتن، ب / 18، والبخاري مختصراً، ك / الجهاد والسير، ب / 94 .
(20) أخرجه الترمذي، ك / الدعوات، ح / 3451، وأحمد، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 1816 .
(21) أخرجه الترمذي، ك / البر والصلة، ح / 1978، وأبو داود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 528 .
(22) أخرجه أحمد، 6 / 83، 109، 217، وابن ماجة، ك / الصيد، ح / 3231، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 1581 .
(23) أخرجه أبو داود، ك / الأدب، ح / 2567، وابن ماجة، ك / الصيد، ح / 3224، وأحمد، 1 / 332، 347، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، ح / 3067 .
(24) أخرجه مسلم، ك / السلام، ب / 39، وابن ماجة .
(25) رواه الطبراني في الأوسط، ح / 3728، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 42) : (وفيه المسيب بن واضح، وفيه كلام، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح)، وأصله في سنن النسائي، وقد صححه الألباني دون التعليل المذكور، انظر : صحيح الجامع، ح / 7390، وضعيفه، ح / 6252، وحسنه الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في تعليقه على جامع المسانيد والسنن، 26 / 48، وقال الذهبي في الميزان (6 / 432) : (صوابه موقوف)، وله شاهد موقوف من طريق آخر في مصنف عبد الرزاق (ح / 8418)، ولمثل هذا الموقوف حكم الرفع .
(26) أخرجه أحمد، 2 / 174، وصححه أحمد شاكر، ح / 6626، والألباني في صحيح الجامع (ح / 3882)، بينما ضعفه محققو المسند بإشراف الأرناؤوط (ح / 6625) .
(27) أخرجه الترمذي، ك / تفسير القرآن، ح / 3258، ومسلم، ك / الصلاة، ب / 33 .
(28) أخرجه مسلم، ك / البر والصلة، ب / 35 .
(29) أخرجه أحمد 4 / 239، عن صفوان بن عسال المرادي مرفوعاً، والترمذي، ك / العلم، ح / 2682، وابن ماجة، المقدمة، ح / 223، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن ابن ماجة، ح / 182 .
(30) أخرجه مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعاً، ك / الذكر، ب / 11، وأبو داود وابن ماجة وأحمد بن حنبل .
(31) أخرجه البخاري عن أسيد بن حضير مرفوعاً، ك / فضائل القرآن، ب / 15، ومسلم، ك / صلاة المسافرين، ب / 37 .
(32) أخرجه البخاري، ك / بدء الخلق، ب / 6، ومسلم، ك / فضائل الصحابة، ب / 34 .
(33) أخرجه مسلم، ك / المساجد، ب / 17، والنسائي وابن ماجة وأحمد بن حنبل .
(34) أخرجه مسلم، ك / المساجد، ب / 1، وأحمد، 5 / 383، والنسائي .
(35) أخرجه الطبراني في الكبير، ح / 11537، وأحمد، 4 / 286، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 45)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 1728 .
(36) أخرجه البخاري، ك / الأدب، ب / 14، ومسلم (32) أخرجه أبو داود، ك / الأدب، ح / 4832، والترمذي ك / الزهد، ح / 2399، والحاكم، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، ح / 5018 (38) ذكره الإمام أحمد في الزهد، ص / 152، وانظر : موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، ص111 .
(39) أخرجه مسلم، ك / الذكر، ب / 23 .
(40) أخرجه البخاري، ك / الإيمان، ب / 7، ومسلم، عن أنس بن مالك .
(41) أخرجه البخاري، ك / المظالم، ب / 5، ومسلم .
(42) أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة، ح / 1931، وأحمد بن حنبل، 6 / 449، عن أبي الدرداء، وصححه الألباني، انظر : صحيح سنن الترمذي، ح / 1575 .
(43) أخرجه البخاري، ك / المظالم، ب / 4، ومسلم، عن أنس بن مالك .
(44) أخرجه البخاري، ك / المظالم، ب / 3، ومسلم .
(45) أخرجه الإمام أحمد، 5 / 419، 416، وصححه حمزة أحمد الزين، ح / 23450 .
(46) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، ك / الجنائز، ب / 1 .
(47) أخرجه مسلم، ك / الجنائز، ب / 3 .
(48) أخرجه مسلم، ك / الجنائز، ب / 22، والبخاري، ك / مناقب الأنصار، ب / 38 .
(49) أخرجه مسلم، ك / السلام، ب / 3، والبخاري، ك / الجنائز، ب / 2 .
(50) أخرجه الترمذي عن ابن عمر، ك / الجنائز، ح / 1046، وابن ماجة، ك / الجنائز، ح / 1550، وأحمد، وصححه الألباني في إرواء الغليل، ح / 747 .
(51) أخرجه أبو داود، ك / الوصايا، ح / 5782، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، ح / 690 .
(52) للاستدلال على ذلك انظر : أحكام الجنائز للألباني، ص / 172، م / 88 .
(53) أخرجه أبو داود، ك / الجنائز، ح / 3221، وصححه الألباني، انظر : صحيح سنن أبي داود، ح / 2758 .
(54) أخرجه مسلم، ك / الجنائز، ب / 35، وفي رواية زهير بن حرب، ح / 975 .
(55) أخرجه الطبراني في الكبير، ح / 326، وابن ماجة، ك / الجنائز، ح / 1573، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح / 18 .
(56) أخرجه الترمذي، أبواب الزهد، ح / 2386، وأبو داود، ك / الأدب، ح / 5127، وصححه الألباني، انظر : صحيح سنن الترمذي، ح / 1944 .