أدبية الناسك، وشمائل الحاج والسالك
الشيخ حمزة بن فايع الفتحي
قال:
وَلَيْسَ كَالشَّرِيكِ وَالمُعَارِكِ
أي: لا تَسِرْ كسير الشريد الهارب من أناس، أو ذلك المُعارك - بضم الميم - أي: المقاتل الذي يشد على خصمه راكضًا وجسورًا، وهذا هو الأدب الرابع والثلاثون.
تَقُولُ مَا يَقُولُهُ الأَمِينُ مَا جَلَّ أَوْ دَقَّ وَمَا يُبِينُ
أي: تحرص أخي الحاج على تتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولية، والأذكار التي كان يرددها في أماكنها، وهذا جزء من أدب سبق، وهو أخذ المناسك من رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام.
ثم قال:
مَا جَلَّ أَوْ دَقَّ وَمَا يُبِينُ
أي: احرص على الأذكار والأقوال، ما كبر أو صغر، وكل ما أبانه رسول الله، نحو قوله عند الإحرام مكبرًا ومسبحًا وحامدًا؛ ومنها قوله بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ومنها: تكبيره عند رمي الجمار، وهذا هو الأدب الخامس والثلاثون.
مُجْتَنِبًا أَذِيَّةَ الأَنَامِِ بِالدَّفْعِ وَالفُحْشِ وَبِالمَنَامِ
وهنا نبَّه الناظم على الأدب السادس والثلاثين؛ وهو النهي عن أذية الآخرين،ومن ذلك:
- أذية الناس بالدفع أثناء الاختلاط والزحام.
- وأذيتهم بالفحش، وهو المنطق البذيء، وفي الحديث: ((ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش البذيء)).
- وأذيتهم بالمنام في طريقهم، وهذه بلوى ظاهرة، يتجاسر عليها مَن لا يعرف للطريق حقَّه، ولا للمشاة حقوقهم.
- وأذيتهم بالافتراش في الطريق، سواء كان للراحة أو المنام، وذا لا يجوز.
- وأذيتهم بقضاء الحاجة في ممر طريقهم، وهذا فعل محرم، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم": ((اتقوا اللاعنَيْنِ؛ الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلِّهم))، وسماهما ((لاعنين))؛ لأنهما جالبان للعن من الناس عليه، فالحذرَ الحذرَ.
- وأذيتهم بجعل الطريق مجلسَ تفكُّهٍ وانتعاش، وخوض فيما لا ينفع، وفي أمور ضررها أكبر من نفعها، وذلك أيضًا لا يجوز، والله المستعان.
وَغُضَّ ذِي العَيْنَيْنِ فِي الطَّرِيقِ وَلاَ تَكُنْ كَجَالِبِ الحَرِيقِ
وهنا ذكر أدبًا مهمًّا، يدل على صدق التدين، وتمام استقامة الناسك، وهو غض البصر؛ فالحج فيه نساء ومُرْد، ويحصل التداني والاجتماع، وقد قال - تعالى -: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31].
وذا هو الأدب السابع والثلاثون، وهو شامل للجنسين، فإنه يحرم النظر لمواطن الشبهات.
وقال الناظم معللاً ذلك:
..................... وَلاَ تَكُنْ كَجَالِبِ الحَرِيقِ
مَنْ جَاءَ لِلتَّمْحِيصِ وَالمَبْرُورِ فَعَادَ بِالأَوْزَارِ وَالشُّرُورِ
أي إن النظرة المحرمة تحرق صاحبها، وتُذهب صفوه، وهو قد جاء لتمحيص الخطايا، وليحوز بر الحج، وللأسف باء بالأوزار وبالشرور؛ لأن من عواقب النظرة المحرمة أنها ذريعة للفاحشة، وتوهن الإيمان في القلب، وتورث محبة الصور، وتعكر صفو الطاعة والإقبال عليها، وقد صح في الحديث: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس))، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة، قال: ((اصرف نظرك))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لك الأولى، وليست لك الأخرى)).
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الضَّيَاعِ لِلحَالِ وَالجُهْدِ وَلِلمَتَاعِ
لا ارتياب أن مَن أتى ليقلب نظره في المحرمات، أو قارف سيئات - قد أضاع نفسه، وأودعها مستودع التَّبَاب والضياع، وحصلت له صور من الضياع:
- أضاع ماله الذي بذله في الحج.
- وأضاع جهده بفعل المناسك وهو ملطخ بالمعصية.
- وأضاع متاعه الذي تكلف به، ولكن لم تطب الحجة، ولم تحسن الرحلة - والعياذ بالله.
ثم شرع الناظم في إيضاح الأدب الثامن والثلاثين، وهو ما عناه بقوله:
وَإِنْ تَبِعْ فَحَاذِرِ الحَرَامَا وَالغِشَّ وَالتَّدْلِيسَ وَالإِيهَامَا
نبَّه هنا على مسألة مهمة، وهي بيع الحاج وشراؤه في أثناء أداء المناسك، هل يجوز؟
الصواب أنه يجوز بلا خلاف، وكان الصحابة قد تحرَّجوا من ذلك، فسألوا رسول الله، فأنزل الله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]؛ أي: في مواسم الحج، كذا فسَّرها مجاهد، وابن جُبير، وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم، والربيع بن أنس وغيرهم.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال: كانت عُكَاظ ومَجَنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجروا في الموسم؛ فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج[1].
فإذا ما جاز للحاج البيعُ وابتغاء فضل الله، فليحذر بيعَ المحرمات، أو التلبيس بصورة محرمة؛ كالغش، أو التدليس، أو إيهام سلامة السلعة وهي تالفة، وما شابه ذلك، وهنا الأدب التاسع والثلاثون.
تُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَالجَلِيلِ وَسَائِلاً لِلعَالِمِ النَّبِيلِ
وهذا الأدب الأربعون، وفحواه: وجوب طاعة أمير الحج أو الرفقة، وعدم المشاقَّة والمخالفة في السير، والكلام، والصلاة، وترتيب الأعمال.
قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وفي الحديث قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني))؛ أخرجاه عن أبي هريرة.
أما أمير الحج والرفقة، فيتعيَّن طاعته والسماع له، وأما الجليل، فيطاع؛ لشرفه، أو علمه وكبر سنة.
ثم قال الناظم:
وَسَائِلاً لِلعَالِمِ النَّبِيلِ
وهذا هو الأدب الواحد والأربعون: أن السؤال والاستفهام مخصوص بالعالم المتفقه الكبير، الذي نبُل بعلمه، ونبُل بحسن فهمه وحِذْقه، وليس كل مَن تكلم أو ارتدى شارة العلماء، جاز له الفتيا، وصدق أنه ضليع متقن، فقد قال أبو الحسن الفالي - رحمه الله -:
تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوَّسِ جَهُولٍ تَسَمَّى بِالفَقِيهِ المُدَرِّسِ
فَحُقَّ لأَهْلِ العِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ مَجْلِسِ
لَقَدْ هُزِلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا كُلاَهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ
وما أكثرَ المفاليسَ علمًا وفهمًا في هذا الزمان! وقد تقلدوا ما لا يسوغ لهم، والله المستعان.
ثم قال الناظم:
مُعْتَنِيًا بِصِحَّةِ الأَجْسَامِ فِي عَالَمٍ يَمُوجُ بِالأَنَامِ
وهذا أدب صحي حضاري؛ إذ إن سلامة الحاج طريقٌ لإتمامه مناسكه، وتنقله بارتياح، وفي ظل الزحمة الشديدة تكثر أمراض ضربات الشمس، والإنفلونزا الحادة، والأوبئة المختلفة؛ فيجب على الحاج التوقي باستعمال الحقن والعقاقير، ومراجعة الأطباء، وتطبيق وصايا وزارة الصحة والحج في هذا السياق؛ لتسلم له صحتُه، وتتم له حجته، وهذا هو الأدب الثاني والأربعون.
وَمَشْهَدُ الإِحْرَامِ وَالعَرَفَاتِ مُذَكِّرٌ بِالمَوْتِ وَالعَرَصَاتِ
وهنا ختم الناظم الآداب بأدب جليل؛ وهو تذكُّر الموت والآخرة؛ لأن في إكمال المناسك ما يُذكر بذلك:
فأولاً تجرُّده من المخيط عند الإحرام، وفيه تشبه بالميت، وعشية عرفات وما فيها من مهابةٍ، وجلالةٍ، وتزاحم، تُذكِّر بساعة القيامة.
فمثل هذه المشاهد كافية في التذكير باليوم الآخر، الذي نعته الله بالأوصاف الشديدة في القرآن، قال - تعالى -: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، وقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9], وقال: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7].
وبهذا الأدب تكتمل الآداب إلى ثلاثة وأربعين أدبًا.
ثم قال الناظم:
فَهَذِهِ الآدَابُ لِلحَجِيجِ فَخُذْهَا بِالتَّأَمُّلِ البَهِيجِ
أي: وقد علمتَ الآداب والخصال التي يتعيَّن على الحاج حملُها والتحلي بها، فخذها وتعلمها بالتطابق البهيج؛ أي: بالعمل والتفاعل المبهج، الذي يدل على حفظها ووعيها، ومحبتها ونشرها في الناس، والله تعالى أعلم.
وَحَيْثُ قَدْ عَرَفْتَ فَالإِسْرَاعُ وَالجِدُّ وَالبَلاَغُ وَالإِقْنَاعُ
نعم، كلُّ من علم خيرًا، عليه البدار والإسراع إليه، جدًّا وعملاً وتطبيقًا، سواء كان أحكامًا أو شمائلَ، وعليه كذلك أن يبلغه وينشره في الأصحاب والناس، ومتى ما وجد كسولاً أو معارضًا، حاوَرَه وسلك معه مسلك الإقناع بالحجج الصحيحة، والمعاني الرجيحة؛ ليعكس للناس صورةَ الإسلام المشرقة الحضارية الراقية، التي تزهو بمحاسن الأخلاق، وروائع الشمائل والآداب.
فهذه ثلاثة وأربعون أدبًا، نظمتُها وعلقتُ عليها بما يُوضحها ويكشف أسرارها في أيام معدودات، تشبه التشريق عدًّا لا معنًى، وتزيد عليها فضلاً وقدرًا وشرفًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كان الفراغ منه ليلة الجمعة الثاني من ذي الحجة 1425هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) تفسير ابن كثر ص 323.