أدبية الناسك، وشمائل الحاج والسالك
الشيخ حمزة بن فايع الفتحي
والأدب العشرون:
وَنَاسِكًا مِنْ غَيْرِ مَا اصْطِخَابِ
أي: انسك المناسك بلا صخبٍ، أو رفعِ صوت؛ سوى تكبيرٍ وتلبية، وإن كان الذِّكر المشروع يرفع دون أذية للآخرين.
ومما يُكرَه أيضًا: رفعُ الصوت بكلمات ليس لها أصل، أو قولهم: "حج يا حاج"، وما شابه ذلك.
ومن الطريف أن بعضهم يزاحم الناس ويؤذيهم، ثم يقول: حج يا حاج، وآخر زحَمَه الناس وضغطوه، فقيل: حج يا حاج، فقال باللهجة المصرية: هو انتو خليتو فيها حج؟! والله المستعان.
وَصَابِرًا فِي غَمْرَةِ الزِّحَامِ وَرَامِيًا مِنْ غَيْرِ مَا إِيلاَمِ
هنا أدبان رفيعان مهمان؛ وهما الواحد والعشرون: وهو الصبر على زحام الناس؛ فمِن حكمة الله وفضله اجتماعُ الناس وتزاحمهم في هذه الأماكن، بطريقة لا شبيه لها، وفي قوله - تعالى - على لسان إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، قيل: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه المسلمون والترك والفرس، فخص ولم يعم، ومع ذلك ترى الزحام المخيف، والكثرة الكاثرة، التي تدل على صدق هذا الدين، وأنه ملاذ البشرية، ومحل هداية الإنسان لو فكر وتأمل، فالآن يجتمع قرابة ثلاثة ملايين يقضون مناسكهم بتوفيق الله وتيسيره، ثم بجهود المخلصين الذين يسهرون على خدمتهم، والإحسان إليهم.
والمندوب للحاج أن يصبر على أذية الزحام، ولا يغضب، أو يتذمر، أو يكافئ السوء بالسوء؛ بل يحتمل كما احتمل الصالحون مثله.
فقد تَلقَى مَن يَسبُّك أو يشتمك، فعامله بتعليم الله لك: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]؛ أي: كلامًا طيبًا لينًا.
والأدب الثاني والعشرون:
وَرَامِيًا مِنْ غَيْرِ مَا إِيلاَمِ
ويقصد الناظم شعيرةَ رميِ الجمار، ولهذه الشعيرة آداب:
- يرميها سبع حصيات نحو حبة الحِمَّص أو الباقلاء.
- ترمى رميًا معتدلاً، دون شدة أو تراخٍِ.
- لا إيلام للناس أو للشاخص؛ لأنه ليس في الشاخص شيطان، كما قد يعتقده كثير من الجهلة، وإنما هو إحياء لما صنعه إبراهيم - عليه السلام - وقد جاء في الحديث: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله)).
- موضع الرمي مجتمع الحصى، لا الشاخص، أو ما سال منه.
فَإِنَّمَا الطَّوَافُ وَالجِمَارُ لِكَيْ يُقَامَ الذِّكْرُ وَالجُؤَارُ
أي: ما جُعلت هذه الشعائر إلا لإقامة ذكر الله، يتحسس الحاج أنه يؤدي عبادة ذات معنى، وليست أفعالاً بلا روح، أو حركات دون إضاءات، والله الموفق.
مُعَظِّمًا لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَطَارِحَ الشَّرِيكِ وَالنَّدِيدِ
وهذا هو الأدب الثالث والعشرون، وهو أن الحج عنوان الوحدانية لله - تعالى - لأنه يقصد ربًّا واحدًا، له يسعى، وله يصلي ويطوف، ومن أجله يحلق وينحر ويرمى، وهو يردد دائمًا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد، ويردِّد: لبيك اللهم لبيك.
فالحاج يعلن توحيده لله، الذي به يبرأ من كل دين، أو صنم، أو طاغوت، أو نجم، أو صورة، ويعلق رجاءه وخوفه بالله - تعالى - قال - تعالى -: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
إذًا فلا يصح حجُّ مَن دعا غير الله، من نبيٍّ، أو ولي، أو صالح، أو ما شابهه؛ لأن الله لم يعد قصدًا الداعي، بل صار القصد لمخلوق لا يضر ولا ينفع، وقد أمر الله رسوله أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21].
مُنْكَسِرًا فِي جَمْعٍ اوْ عَرَفَاتِ وَتَائِبًا بِالصِّدْقِ وَالعَبَرَاتِ
والأدب الرابع والعشرون: أن تكون هيئته حالَ الدعاء منكسرًا لله، منطرحًا بين يديه باكيًا، يرجو فضله، ويسأله محو ذنوبه.
وقال الناظم:
وهذان موضعان عظيمان من وقفات الدعاء الثابتة، وجَمْع هي مزدلفة؛ وسميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وعرفات هو المكان المعروف الذي يجتمع فيه النساك اليوم التاسع، ووقفته أفضل وقفات الدعاء واللجوء إلى الله - تعالى.
ثم قال:
وَتَائِبًا بِالصِّدْقِ وَالعَبَرَاتِ
وذا أدب آخر: أن يكون من صفات الحاج إعلان التوبة لله - تعالى - في تلك المشاعر؛ لاتساع الرحمات، وكثرة البركات، وانكسار النفوس، ولذا كثيرًا ما نسمع بتوبة إخوةٍ لنا في الحج؛ لعظمة ما يرون، ولخير ما يدركون: مغنٍّ يهجر الغناء، ومدخن يكف، ومرابٍ يقلع عن الربا؛ خوفًا من بناء جسده وإنباته من الحرام، وهلم جرًّا.
والمخيمات الزاخرة بالدروس والمواعظ محل توبة كثير من الحجاج، نسأل الله من فضله ورحمته.
غَيْرَ مُضَيِّعٍ لِذَا الزَّمَانِ وَقَارِئًا لِلعِلْمِ وَالقُرَانِ
وهذا البيت احتوى على الأدبين السادس والعشرين والسابع والعشرين.
أما الأول: فهو ما قرره بقوله:
غَيْرَ مُضَيِّعٍ لِذَا الزَّمَانِ
والمراد: حفظ الأوقات، ومراعاة شرف الزمان، قال - تعالى -: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]، وفي "صحيح البخاري": ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)).
ومن آفات الحجاج في المناسك: إضاعة الأوقات، وقضاؤها في الضحك وأحاديث الناس، أو كثرة المنام والاستغفال.
ثم قال:
وَقَارِئًا لِلعِلْمِ وَالقُرَانِ
وذا هو الأدب الآخر، أن يحرص على اغتنام الزمان بالقراءة في القرآن وكتب العلم، ومن ذلك مطالعة كتب المناسك، ومن أحسنها: "التحقيق والإيضاح" لابن باز، و"المنهج" لابن عثيمين، و"حجة النبي" و"المناسك" للألباني - رحم الله الجميع.
وكذلك يتردد على دورس المشايخ الفقهاء، الذين تزدان المشاعر بعلومهم ومعارفهم.
تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَالمَحَاسِنِ وَنَاكِرًا لِلسُّوءِ وَالمَحَازِنِ
ومن آداب الحاج المهمة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا هو الثامن والعشرون، قال - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
فحج مئات الآلاف من الناس وإيمانهم متفاوت، استقامتهم متباينة، وفيهم من يقصر ويسيء، فالواجب نصحه وتذكيره بالكلمة الرقيقة، والأسلوب اللين، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رأى منكم منكرًا فلْيغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
ترى حاجًّا يشتم ويسب، وآخر يستمع الغناء، وآخر يدخن، وما أكثرهم! وآخر يؤذي الناس! فمَن لهؤلاء إلا النَّصَحة المشفقون، والدعاة اللينون؟
ومعنى: "للسوء والمحازن"؛ أي: المنكرات السيئة، التي تُحزن أهلَ الإيمان رؤيتُها.
وَمُرْشِدًا لِلضَّالِ وَالجُهَّالِ وَنَاصِحًا مِنْ غَيْرِ مَا إِمْلاَلِ
في الحج يكثر الضوالُّ والجهال، أحدهما يضل الطريق، والآخر يضل السُّنة والهدي، فالواجب نصحهما وإفادتهما، لاسيما من يعرف الأمكنة والمشاعر، ومن يفقه الأحكام والأدلة، وذا هو الأدب التاسع والعشرون.
وأما الثلاثون: فالنصح بدون إملال، ذكِّر بقصد، وانْصَح باعتدال، أو تخوَّل الناس؛ لئلا تملهم أو تضجرهم.
وهنا ننبه على أن بعض أصحاب المخيمات - مِن حرصهم على الخير - يُكثرون الكلمات والمواعظ، دون إجمام أو ترويح، لدرجة حرمان الحجاج من النوم والارتياح، وذا مسلك ليس بجيد، فليتنبه.
وَتُطْعِمُ الفَقِيرَ وَالمِسْكِينَا وَتَرْحَمُ المُسِنَّ وَالمَهِينَا
هذا البيت اشتمل على أدبين آخرين مهمين:
الأول: يستطيعه الموسر المقتدر، وهو إطعام الفقراء والمساكين.
والثاني: يفعله كلُّ ناسك قذف الله في قلبه الرحمة، وهو رحمة المسنين والمهينين؛ أي: الشيوخ الكبار، والأشخاص الممتهنين ممن يمتهنهم الناس؛ لحرفهم، أو لفقرهم، أو لأحوالهم، وما أكثر هذين الصنفين في الحج! إذ المناسك تكتظ بفقراء بلا مأوى وبلا مطعم، وتغص بكبار عجزة، وبأقوام يحتقرهم الناس، فمَن لهؤلاء إلا أصحابُ الأيادي الندية، والقلوب الرقيقة، الذين يحتسبون فيهم الأجر والثواب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من لا يرَحم لا يُرحم))، ورُوِّينا في الحديث المسلسل بالأولية: ((ارحموا مَن في الأرض، يرحمكم من في السماء)).
وهذان هما الأدبان الواحد والثلاثون والثاني والثلاثون.
ثم قال الناظم بعد ذلك:
تَسِيرُ فِي تَوَاضُعٍ كَبِيرِ وَلَيْسَ فِي تَبَخْتُرٍ مُثِيرِ
وهنا نبه على أدب مهم، يحمله المسلم على كل حال، وفي الحج تشتد الحاجة إليه؛ لأن الموضع موضع سكينة وأدب، وليس عجلة وترفع، وهو خلق التواضع، فإذا مشى تواضع وعليه السكينة، ولا يمشى مِشْية المتكبرين المتبخترين.
قال:
تَسِيرُ فِي تَوَاضُعٍ كَبِيرِ
أي: التواضع - مع هدوئه ولطافته - يعليك ويجعلك كبيرًا إذا صدقت الله، وفي الحديث: ((وما تواضع عبدٌ لله إلا رفعه الله)).
ثم قال:
وَلَيْسَ فِي تَبَخْتُرٍ مُثِيرِ
لما كان اجتماع الناس باختلاف أجناسهم ومراتبهم، مدعاةً ليتعالى بعضهم، أو يتجبر آخرون، نبَّه على قبح السير بتبختر وتكبر؛ لأنه ليس من أخلاق الأنبياء ولا أتباعهم، قال الرحمن في وصفه لعباده: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
ثم وَصَف ذلك التبختر بأنه مثير، يُلفت انتباهَ الناس، لا سيما الفقراء والضعفة، وسبب إثارته تعود إلى غرابته، واستنكار الناس له، ولأنه ليس على طبيعة الناس المعروفة، وغالبًا مَن يُبتلى به ذوو الولايات وأصحاب الثراء، والله المستعان، وهنا اكتمل الأدب الثالث والثلاثون.
مُذَلَّلاً لِلَّهِ فِي المَنَاسِكِ وَلَيْسَ كَالشَّرِيكِ وَالمُعَارِكِ
وهنا يبين الناظم ما ينبغي على الحاج أثناء تنقله بين المناسك وأدائه للطاعة؛ بأنه يكون متذللاً لله، خاضعًا له أثناء سيره وعمله.
يتبع