3- عدم الاستعجال، وترك الدعوة؛ بحجة أن الناس لم يستجيبوا؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبلغ الدعاة، وأرحمهم، وأحسنهم خَلْقًا وخُلُقًا، وأحلاهم منطقًا، وأبهجهم منظرًا، وأكرمهم نسبًا وموقعا - يدعو عشر سنين، فلا يجد أحدًا يؤويه، بل إن الرجل ليرْحل إلى ذي رحمه ليحذره منه ومن دعوته، فلم يثنه ذلك - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته حتى استجابتْ له العصبة التي أقامتْ دولة الإسلام.
4- أنَّ طريق الدعوة طريق كثير الأشواك والعقبات، يؤذى صاحبه في جسده وعرضه؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بين القوم، يدعوهم إلى الهدى والنور، وهم يشيرون إليه بالأصابع والأكف، نبزًا، وهمزًا، ولمزًا، واستهزاء، ويطرد في جبال مكة، ويخاف وهو ابن سيد الوادي بلا مُنازع، لكن ذلك لم يُثنه بل زاده عزمًا وإصرارًا؛ لأنَّ الأذية في سبيل هذا الدِّين منحة لا محنة؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
5- أن لهذا الدِّين واجبات ينْبغي القيام بها، ولا يصحُّ الانتساب إليه مع إهمالها: علام نبايعك؟ ((تبايعوني على السَّمْع والطاعة في النَّشاط والكسَل، وعلى النفَقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهْي عن المُنْكر، وعلى أن تَقُولوا في الله، لا تأخذكم فيه لَوْمة لائِم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة)).
6- أنَّ الاستجابة لهذا الدِّين تعني الاستعداد الكامل لنصرته وإعلائه، مهما كلف ذلك من ثمن، "إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
7- أن جزاء نُصرة هذا الدين، وما أعده الله للمجاهدين لإعلائه - جزاء عظيم، ينسي كل العراقيل والمتاعب التي اعترضت وتعرض لأنصاره: يا أسعد بن زرارة، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً، يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنة.
8- أن الداعية الذي يحمل همَّ هذا الدِّين، ويريد أن يبلغه حيث بلغ الليل والنهار، ولا يتسع وقته وزاده لذلك - يتحتم عليه أن يحضر هذا الموسم العظيم، فإنه واجد فيه من كل الأجناس البشرية، من كل أقطار الأرض، فإن هو أفلح في دعوتهم فهم سفراؤه في كل المعمورة، وإلا فسيحضر من بلادهم في العام المقبل مثلهم أو أكثر، فيكون قد بلغ من الجميع ما لا يتسنى له في غير هذا الموسم والموقع، لذا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على حضور هذا الموسم والتطواف بين أهله مبلغًا رسالة ربِّه، ففيمَ العُدُول عن هديه وسنته في ذلك؟! أولا يطمع الداعية أن يكسبَ لدين الله في هذا الموسم رجالاً كرجال الأنصار الذين كسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموسم، فآمنوا بهذا الدين، وحملوه إلى بلدهم، فسار فيه الإيمان سير النور في المصباح، وما هي إلا سنوات قليلة حتى استقبلت المدينة هذا الداعية العظيم، بكل إجلال وتعظيم وابتهاج، كلٌّ يريد أن يكونَ له شرف نزول هذا الداعية في بيته.
والتفَّ الرجال حول هذا الداعية، ينهلون من مَعين الإيمان والتربية الزكيّة، ويدفعون المهج رخيصة بين يديه؛ للدفاع عن هذا الدين، وبدأت حقبة جديدة أعز الله فيها الإسلام وأهله، وأكرم هذا الداعية برؤية ثمار دعوته وجهاده وصبره، وقد صوَّر ذلك أبو قيس بن صرمة الأنصاري في لوحة شعرية رائعة؛ فقال - وهو يصور بُعد ما بين الحقبتين: حقبة الاضطهاد والإيذاء، وحقبة العزة والتمكين -:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكَّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ المَوَاسِمِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهِ النَّوَى وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا
وَأَصْبَحَ لاَ يَخْشَى ظُلاَمَةَ ظَالِمٍ بَعِيدٍ وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا وَأَنْفُسِنَا عِنْدَ الوَغَى وَالتَّآسِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الحِبِيبَ المُصَافِيَا
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَحَ هَادِيَا[22]
عاشرًا: أن الحج مؤتمر سياسيٌّ كبيرٌ، فيه تلتقي كلُّ الفئات المؤمِنة مِنْ كُلِّ الطبَقات المفكرة السياسية الفاعِلة، فلو جعلت من هذا الموسم لقاء قِمم إسلامية فاعلة، يتباحَثُ فيها المجتمعون، كلّ ما مِنْ شَأْنِه أن يرفع الأمة منَ الحضيض الذي تعيشه إلى القمَّة السامقة - لما كانت الأمةُ على ما هي عليه مِن ضعْف وتأخُّر في كثير من الميادين، ولهم في ذلك أُسْوة حسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يلتقي في هذا الموسم بِمَن آمن به، فالتقى فيه بالأنصار ثلاث مرات، حتى كانت بيعة العقبة الكبرى، وما كان فيها مِنْ عُهُود ومواثيق غيرتْ مجْرَى تاريخ البشرية جمعاء، وهُم يومئذ قلَّة؛ كما في حديث جابر المتقدم: ثم بعثنا الله فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلاً منَّا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف؟! فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة.
وإذا كان هؤلاء - على قلَّتهم - قد حملوا أمْر الدَّعْوة، وأعْلَوا مِن شأنها، وغيَّروا بها مجرى تاريخ البشريَّة جمعاء في فترة وجيزةٍ، فكيف بهذه الملايين لو وجدت من يدعوها دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسوسها بسياسته، ويذكي في نفوسها حرارة الإيمان وعزته، ويُبين لها أنها حلقة من تاريخ مجيد؟!
ولقد كان الحج في عهد الخلفاء وأيام وحدة الأمة موسمًا يلتقي فيه الخلفاء بأمراء الأمصار، وقادة الجيوش، فترفع التقارير إلى الخلفاء وذوي الرأي والمشورة؛ ليتخذوا فيها القرارات المناسبة؛ فظلت الأمة مرهوبة الجانب، وظل الحج مصدر خوف وقلق لأعداء الأمة؛ لما يمثله للأمة من وحدة يرهبها الأعداء ويهابونها.
يقول لوثر ستودارد: "وقد غلب على رأي كثيرين مِن رجال الغرْب وَهْمٌ في هذا الموضوع، فهم ما برحوا يخالون الخلافة لا الحج العامل الأكبر والأشد، الذي بسببه يتشارك المسلمون ميولاً وعواطف تشاركًا مؤدِّيًا إلى الاعتزار بالوحدة، وازدياد منعتها، وامتدادها وانتشارها".
إن هذا لمن الوَهْم الصِّرف، فالأمر على الضد من ذلك، إن محمدًا - في زعمه وليس الله - قد فرض الحج على مَن استطاعه فرضًا مقدَّسًا؛ لذلك ما زالتْ مكة المكرمة حتى اليوم مجتمعًا يجتمع فيه كل عام أكثر من مائة ألف حاج[23]، وافدين من كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، وهناك وأمام الكعبة المقدَّسة في مكة المكرمة يتعارَف المسلمون على اختلاف الألسنة والأجناس ويتبادلون العواطف الدِّينية، ويتباحثون في الشؤون الإسلامية[24]، إن الأغراض الإسلامية التي ينالُها المسلمون منَ الحج الممهد لها السبيل معلومة، لا تحتاج إلى كبير إيضاح، بل يكفي أن نقول: إن الحج هو المؤتمر الإسلامي السنوي العام الذي فيه يتباحث النواب المسلمون الطارئون من أقطار المعمور الإسلامي كافة في مصالح الإسلام، وفيه يقوم هؤلاء بوضْع الخطط، ورسم الطرائق؛ للدفاع عن بيضة الإسلام، والذب عن حياض المسلمين، ونشر الدعوة في سبيل الرسالة".
هكذا يرى هذا المستشرق صورة الحج، وهي كما رأى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله عنهم - وكل الغيورين على هذه الأمة، ونرجو منَ الله - عز وجل - أن تعود كذلك أنصع وأشرَق.
الحادي عشر: أن الحج مؤتمر اجتماعي فريد، يُرَبِّي في النفوس كل المعاني الاجتماعية التربوية؛ ففيه ترى التعاوُن والمواساة، وحنو الغني على الفقير، ورحمة القوي بالضعيف، والكبير بالصغير، والتجرُّد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيويَّة، فالكلُّ في صعيدٍ واحد متَّجه إلى الله - عز وجل - بكلِّ ذُل وفقر وحاجة، قد خلع الجاه والأَوْسِمة والمناصب الدنيوية؛ فتذوب تلك الفوارق ولو إلى حين، فيستفيد المسلمون مِن دُرُوسها العِبَر والتوجيهات التربوية الفريدة.
وفي الحج يجتمع هذا الحشدُ الهائل من كل طبقات الناس وأجناسهم، فتزدحم بهم الطرقات، وتغص بهم الأماكن العامة والخاصة، ومع ذلك فلا شجار، ولا جدال، ولا رفث، ولا فسوق، ولا تنافر، فالكل مبتَسم لأخيه، فرح بوجوده إلى جانبه في هذه العبادة العظيمة، فلا تسمع إلا قول قائلهم عن هذا البيت المزدَحم بالناس: "زاده الله شرَفًا".
وفي هذا الجو المفعم بروح الأخوة والتلاحُم والإيثار، يراجع المرءُ نفسه، ويتخذ من خلقه فيه خلقًا دائمًا مع إخوان له، طالما ضاقَ بهم في أماكن أقل ازدحامًا وتعبًا، وفقراء طالما ضنَّ عليهم بأقل مما أنفقه هنا.
تلك هي أهم المنافع التي سنح الخاطر المكدود بتسجيلها، ويبقى التعبير القرآني أشمل وأوسع، وتبقى المنافع الدنيوية والأخروية أعم؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وقد يدرك المرء في ذلك من المنافع الفردية ما لا يدركه غيره من توفيق لذكر الله في تلك الأماكن الفاضلة أكثر من غيره، أو توفيق لدعاء يسمع ويُستجاب، أو إغاثة لملْهوف، أو إعانة ضعيف، أو إطعام جائع، أو إرشاد ضال، أو تعليم جاهل، إلى غير ذلك من المنافع العظيمة، التي جعلها الله - عز وجل - في هذه العبادة العظيمة، ومن هنا يمكننا أن ندرك معنى ما رُوي عن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله - من أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلمَّا حج، فضَّل الحجَّ على العبادات كلها؛ لما شاهده من تلك الخصائص والمنافع.
وفي الختام يجدر بنا التنبيه إلى أن كل دعائم الإسلام وواجباته مليئة بالتيسير والمنافع كما في الحج؛ مما جعل هذه الدعائم والواجبات منحة ومنة لا تكليفًا ومشقة.
اللهم لك الحمد على أن هديتنا للإسلام، وجعلتنا من أتباع سيد الأنام محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا: أنِ الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري ج 8.
[2] هذا الرجل هو الأقرع بن حابس، كما جاء مصرحًا به عند أبي داود، وفي حديثه عند أبي داود التصريح بأنَّ فرض الحج مرة، وما زاد فهو تطوُّع؛ انظر: "سنن أبي داود" (12/139ح 1721).
[3] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 100 - 101.
[4] انظر تفسير ابن كثير 3/226.
[5] انظر: "جامع البيان"؛ للطبري 17/147، و"تفسير ابن كثير" 3/226.
[6] "جامع البيان"؛ للطبري 17/147.
[7] "الكشاف"؛ للزمخشري 3/152 - 153.
[8] انظر: "جامع البيان"؛ للطبري 2/ 302 - 312.
[9] "صحيح البخاري" ح رقم 1521.
[10] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 9/118 - 119.
[11] "سنن الترمذي" 3/176ح 811.
[12] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 9/117.
[13] "موطأ الإمام مالك" 1/422، وهذا مرسل، وقد وصله البيهقي في الشعب (1/115)، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - بعد أن أخرجه من طريق مالك مرسلاً، وحسنة ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/91).
[14] "التمهيد"؛ لابن عبد البر 1/91.
[15] أخرجه التِّرمذي في "السُّنَن" (3/ 175 ح810)، وقال: حديثٌ حسن صحيح، وأخرجه النَّسائي في "السنن" (5/ 115 - 116).
[16] "صحيح البخاري" ح 4519.
[17] "سنن أبي داود" ح 1743.
[18] "سنن أبي داود" ح 1733.
[19] متَّفق من حديث صفة تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - (صحيح البخاري ح 1549، و"صحيح مسلم مع شرح النووي" 8: 87 - 88.
[20] شرطة العباس: يعني المواثيق التي أخذها العباس عليهم بالوفاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.
[21] أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/322 - 323، 3/339 - 340)، و"صححه مُحَقِّقوا المسند": شعيب الأرناؤوط ورفاقه، وأخرجه مختصرًا أبو داود في السنن (ح 4734)، والترمذي في "السنن" (ح 2925)، وصحَّحه.
[22] انظر: "سيرة ابن هشام" 1/512، و"زاد المعاد"؛ لابن القيم 3/ 59 - 60.
[23] كان ذلك في عصر هذا المستشرق ويوم كانت وسائل النقل محدودة، وأما الآن فهم بالملايين - والحمد لله.
[24] هكذا كان الأمر في الصدر الأول، وهكذا ينبغي أن يكونَ الأمر في حس كل عاقل غيور، وهكذا سيكون يوم تتوحَّد الأمة - بإذن الله.