الموضوع: ذم الخيانة
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-11-2019, 05:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,251
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ذم الخيانة

ذم الخيانة
إيهاب عبد الجليل عباس

أنواع الخيانة
1- خيانة العقيدة: وعقيدتنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير وأنت مسلم خيانة لله، تعطيل فرائض الله أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه وأنت مسلم خيانة لله. أن يكون المسلم مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد أو دليلاً لهم على عوراتها خيانة، قال - تعالى -: ضَرَبَ ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم: 10]. والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة، قال ابن كثير: إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء، قال ابن عباس: " كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء"، وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبيّ، قال - تعالى -: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) [المؤمنون: 101].
2- موالاة أعداء الله خيانة: تروي كتب السيرة أن حاطب بن أبي بلتعة عندما تجهز النبي لفتح مكة أرسل رسالة لقريش مع امرأة يُعِلمهم بسير النبي، وجاء الوحي إلى رسول الله يخبره بالخبر، فنادى رسول الله: ((يا علي))، قال: لبيك يا رسول الله، ((يا زبير))، قال: لبيك يا رسول الله، ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه))، وذهبا كالسهمين مسرعين، ووجدا تلك المرأة تُنيخ راحلتها، فاقترب الزبير وقال: أي أختاه معك رسالة فأخرجيها، قالت: ما معي شيء، قال عليّ: يا امرأة، إنّ الذي أرسلنا ما كذب قطّ، وهو صادق فيما يقول، أخرجي الرسالة، قالت: ما معي شيء، قال: والذي نفسي بيده، إما أن تخرجيها، وإما أن أجردك من ثيابك حتى أراها، صاحت بكل صوتها وهي مشركة: لا، إياك أن تجرّدني، فأنا عربية حرة لا أتجرّد من ثيابي.
يا الله، إن في شوارعنا من يتجرد من ثيابه، لقد تجردوا وتزينوا وتسفهوا، وللخنا باعوا واشتروا، ثم يقولون: هم عرب. قال: سنجردك من ثيابك، قالت: لا بل أخرج الرسالة، قال: أخرجيها، قالت: أديرا وجهيكما، وكشفت وأخرجت الرسالة وسلّمتها، وعاد الشابان إلى الجيش، هنالك فتح الرسول الرسالة وقرأها عليّ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن النبي قد جاءكم بجيش لا قبل لكم به فخذوا حذركم. عقدت محكمة ميدانية، جيء بحاطب، ((يا حاطب ما هذا؟)) بكى حاطب وأشهَد الله أنه لم يفعل ذلك خيانة، إنما له أهل ضعاف، أراد أن لا تقتلهم قريش إذا سمعوا أن الجيش قد جاء، فأرسل الرسالة ليحافظ على أهله، فقال عمر: يا رسول الله، هذا رجل كذاب، دعني أضرب عنقه، قال: ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!)) وفي رواية: ((فقد وجبت لكم الجنة)) متفق عليه. وينادي حاطب وهو ينظر إلى المسلمين: والله ما خنت الله ورسوله، والله ما نويت ذلك ولا خطر لي ذلك.
نحن الآن من أجل أرصدةٍ في بنوك اليهود من أجل جاهٍ نطلبه من الكافرين نخون أمة المسلمين بأجمعها. وأنزل الله - تعالى -براءة لحاطب فقال له: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ ) إلى آخر الآية [الممتحنة: 1]. يا حاطب، إن عدوك هو عدوي، وإن عدوي هو عدوك، أنت مؤمن يا حاطب. من هنا عاد حاطب إلى صفوف المؤمنين، وصار الصف بلا خيانة.
3- خيانة الشريعة: فلا تُطَبّق، بل تعزل عن حياة المسلمين، وهذه الخيانة عمّت وطمّت، أين الشريعة في الدساتير العلمانية؟! أين الشريعة في الاقتصاد الربوي؟! أين الشريعة في الإعلام التحلُّلِي؟! أين الشريعة في السلم والحرب والتعليم والقضاء؟! وما شريعة القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده، وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) [المائدة: 1]، ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة: 7].
4- خيانة الأعراض، ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام، قال - تعالى -: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) [غافر: 19]، قال ابن عباس: " هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء، فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غضَّ بصره"، فكيف بالزنا؟! وقد حرم الله الزنا ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) [الإسراء: 32].
5- خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه، فلا غش ولا خداع ولا كذب، جاء في حديث أن رسول الله مر على صُبْرَة طعام أي: كُومة، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟!)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني)) رواه مسلم.
6- ومن معاني الخيانة أيضًا أن يستغلّ الرجل منصبه الذي عُيِّن فيه لجرّ منفعة إلى شخصه أو قرابته، فإن التشبّع من المال العام جريمة، قال رسول الله: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود. ذكر صاحب الحلية أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قرب ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِرْبة من قِرَب الزيت قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القِرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان، ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ ووجهه حسن فقال: ادّهنت؟ قال: نعم، قال: من أين؟ قال: مما يبقى في هذه القرب، فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوَض، لا والله لا يحاسبني الله على ذلك. ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه، خوفًا من قطرة وقطرتين.
7- ومن الخيانة أن يُسنَد عمل إلى غير أهلِه، قال النبي: ((من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) رواه الحاكم (4/92-93) وصححه، وفي إسناده حسين بن قيس ضعّفه المنذري في الترغيب (3268) وضعَّفه الألباني. فلا يُسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها، انظروا كيف راعى النبي ذلك، فحين قال أبو ذر: يا رسول الله، ألا تستعملني؟! قال: فضرب يده على مَنْكِبي ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم (1825).
8- ومن معاني الخيانة أن يستغل الإنسان ما حباه الله من مواهب خصه بها أو أموال وأولاد رُزقها في معاصيه بدلاً من تسخيرها في قرباته واستخدامها في مرضاته، ولذا عقَّب - سبحانه - نهيه عن الخيانة بقوله: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [الأنفال: 28]، ولذا كان من الخيانة تضييع الزوجة والأولاد، فلا يؤدبهم ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
أين الأمانة ممن ينصب في بيته أجهزة الاستقبال الفضائي التي تفسد الشيوخ فضلاً عن الشباب، والتي تبث من البرامج ما يغضب الله - عز وجل -، ويسعى جاهدًا لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وغرس تقاليد الكفار وعاداتهم ومحاربة الفضائل الشرعية؟! أين هذا من أمانة الأولاد؟! فليتقِ الله من هذا شأنه، ولْينظر إلى حديث رسول الله فيما روى البخاري ومسلم من حديث مَعْقِل بن يَسار أن النبي قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت هو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، وأي غش ـ أيها المسلمون ـ أكبر من نصب الدش في المنزل وجعله متاحًا للقاصرين من الأطفال والنساء والمراهقين؟! يا حسرة على العرب، اليهود يُعدّون أبناءهم للحرب، والعرب يُرَقِّصُون أبناءهم، فبينما يعلن اليهود عن فتح مكاتب في عدد من البلدان استنفارًا لشبابهم لينقلوهم في جسور جوية إلى فلسطين لتدريبهم على القتال إضافة إلى تدريبهم جميع اليهود المحتلين لفلسطين، وهذا لا شك على أنهم يستعدون لحرب شاملة في المنطقة، يَرُدُّ العرب بترقيص بناتهم وأبنائهم في المسارح والمراقص بقيادة المغنين والمغنيات، ونقل ذلك بدون حياء ولا خجل في فضائياتهم الداخلية والخارجية مباشرة أو تسجيلاً.
9- ومن الخيانة أيضًا عدم حفظ العبد جوارحه وحواسه عن معصية الله - تعالى-، وجوارحنا ـ أيها المسلمون ـ أمانة، فلسانك ـ أخي المسلم أختي المسلمة ـ أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش واستعملتَه في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن فعلت ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنّبتَ نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة. وعيناك أمانة عندك، فإن جنبتهما النظر إلى ما حرم الله واستعملتهما فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى. وأذناك أمانة لديك، فجنبهما الاستماع إلى ما يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة، واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه، إذا فعلت ذلك ـ أخي المسلم ـ فقد أديت أمانة أذنيك. ورجلاك أمانة، فلا تمشِ بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء والمنكر، وسِرْ بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى الجهاد في سبيل الله. ويداك أمانة، فلا تمدَّهما إلى ما يغضب الله، واعمل بهما أعمالاً تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة. والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرم الله من المال. والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم، وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس، فقال - تعالى -من سورة المؤمنين: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ) [الممنون: 5-7] أي: المعتدون. والمال أمانة، فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله، وأنفقه على المساكين، وأخرج منه الزكاة. وهكذا ـ أيها المسلمون ـ ما وهبنا الله إياه من جوارح وعقل كلها أمانات، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: فيم فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟)) أخرجه الترمذي وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
10- ومن معاني الخيانة أن لا تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فتدع لسانك يفشي أسرارها وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)). حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها))، فأرم القوم أي: سكتوا وَجِلِيْن، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون)) رواه أحمد (6/456-457) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/294): "وفيه شهر بن حوشب، وحديثه حسن، وفيه ضعف" وله شواهد يتقوى بها، انظر: إرواء الغليل (2011).
11- ومن الخيانة خيانة العالم لعلمه، فالعلم أمانة في عنق العلماء، إن بيَّنوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس أمانة، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة، ( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187].
12- ومن معاني الخيانة خيانة الودائع التي وصى الله بها من فوق سبع سماوات: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، ويدخل في ذلك أداء الديون، فالمماطلة بها خيانة. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليُسَلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده، مع أنهم آذوه واضطروه إلى ترك أرضه، والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الآثار: (( لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه)).
موقف المسلم من الخيانة والخونة:
وأما موقف المسلم من الخيانة فأن تُربى القلوب على مخافة الله وخشيته، مر عمر يتفقد رعيته ليلاً وإذا به يسمع امرأة تقول لابنة لها: اخلطي الماء باللبن، فقالت البنت: لقد نهانا عمر عن ذلك، فقالت أمها: وما يدري عمر؟! قالت البنت: إن كان عمر غائبًا فإن ربه حاضر. تقع هذه الكلمة في قلبه، فيجمع وُلدَه ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة، فيتزوجها ولده عاصم، فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلاً.
أما موقف المسلم الخونة فهو جهادهم، قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[التوبة: 73]، وقد قدَّمت أن الخائن منافق. ويدخل في ذلك دخولاً أوليًا عدم ممالأة الخونة أو الدفاع عنهم، ( وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105]. ومن لوازم النصر عليهم إصلاح نفوسنا، ففي سورة الإسراء بعد أن ذكر الله - سبحانه - قصة الإفسادَين لبني إسرائيل عقَّب - سبحانه - قائلاً: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )[الإسراء: 9]، ويتساءل المفسرون عن العلاقة بين الإفسادين والقرآن هنا، ويجيب بعضهم: إنه لكي تنتصر الأمة الإسلامية على اليهود لا بد أن تعود إلى القرآن، تقرؤه وتتعلمه وتفهمه وتتدبره وتعمل بما فيه وتتخذه منهاجًا يحكم حياتها، فيفتح القرآن كنوزه لهذه الأمة، فتُهدَى للتي هي أقوم، وتكون جديرة بنصر الله.
فعلينا أولاً: العودة للقرآن الكريم، بأن نحافظ على الورد اليومي للقرآن الكريم، ونحضَّ أزواجنا وأولادنا على ذلك، ونحرص على تحفيظ الأولاد القرآن الكريم، فيخرج جيل قرآني رباني جديد، ونحرص على إحياء مجالس القرآن الكريم في المساجد وتعليمه للناس، والعمل المستمر من أجل أن يُحكَّم فينا هذا القرآن.
وثانيًا: مجاهدة النفس وحملها على الاستقامة، فمعادلة النصر في القرآن هي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، ففي هذه الآية معركتان: المعركة الثانية: يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ، هي معركة يدبرها الله ويديرها ويخرج نتائجها، ونتيجتها النصر والتمكين. أما المعركة الأولى: ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ ) فميدانها النفس البشرية، والذي يدير هذه المعركة هو الفرد نفسه، ويخرج نتائجها بنفسه، والنتيجة هي الاستقامة، فلا نصر ولا تمكين إلا بعد الاستقامة، فعلينا أن نجاهد أنفسَنا ونحملها على الاستقامة ونبعدها عن مواطن المعصية التي تؤخر نصر الله.
ثالثًا: إحياء نفسية المقاومة والجهاد، فينبغي على الأمة لتقوم بواجب النُّصرة أن تكسر تلك القيود النفسية والمادية التي كُبلت بها، وتحطم تلك الأغلال التي تمسك بخناقها وتجعلها أسيرة الذل والهوان السرمدي وتحول بينها وبين سبيل الخلاص، وهذا هو الجهاد، تلك الكلمة التي تنخلع عند سماعها قلوب الأعداء، حينئذ فقط تلوح بوارق النصر، وتهب نسمات الجنة، ويغدو الخروج من تيه الذل والاستعباد رمية حجر، ونعرف معنى الحياة العزيزة التي حُرمنا منها منذ عقود طويلة، حتى غدت حلمًا بعيد المنال وضرباً من ضروب المحُال، وندرك ثاراتنا الجاثمة على قلوبنا جثوم الجبال الرواسي، ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) [التوبة: 14، 15]. وأما غير ذلك فصيحات تتبخّر، وصرخات تتبعثر، لم تكن بالأُولى، ولن تكون الأخيرة، وما هي إلا همهماتُ محموم ونفثات مصدور، سرعان ما يعودُ سيرتَه الأولى، فلا كان ولا صار. نماذج خالدة للثبات والوفاء ولئن كان في الأمة صور كئيبة من خيانات الخائنين إلا أن في الأمة خيرا كثيرا وصفحات مشرقة يفخر المسلم بها ويفاخر، وهي كثيرة ولله الحمد، ولكن أكتفي بذكر صورتين منها:
1- الصورة الأولى والمشهد الرائع في مواجهة الخيانة هو مشهد الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولم يجد عذرًا يعتذر به عن تخلفه عن الغزو أمام رسول الله، وقد نهى الرسول المسلمين عن الكلام مع كعب ومرارة بين الربيع وهلال بن أمية، ولبث كعب خمسين يومًا على هذا الحال حتى قال: تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي الأرض التي كنت أعرف، ثم يقول بعد تلك الأيام وما أشدها على النفس المؤمنة حين يذكر أنه كان يأتي رسول الله فأسلم ويقول في نفسه: أحرَّك رسول الله شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟ حتى جاء يوم فتسور حائط أبي قتادة ابن عمه وأحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه، فقلت له: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وأخذ يكررها مرتين وأبو قتادة ساكت حتى تركه وعينه تفيض من الدمع، وبينما هو على هذا الحال وهو يمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى جاء كعب، فدفع إليه كتابًا من ملك غسان، وكان كعب يجيد القراءة، فوجد في الكتاب: "أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسِك". قال كعب حين قرأه: وهذا أيضًا من البلاء. وقال: فتيممت التنور فسجرته به. ثم لما أتم أربعين ليلة من الخمسين جاءه أمر رسول من رسول الله أن يعتزل امرأته، وكان الأمر يشمل أيضًا الصحابيين الآخرين، فلما أتم الخمسين ليلة جاءه البشير بالفرج من الله والتوبة. وفي كعب وصاحبيه نزل قول الله - تعالى -: ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118].
إن قصة كعب مثلٌ عظيم لمن تتزلزل قلوبهم في المحن ويخونون الصف المسلم طمعًا في متاع الدنيا الزائل، وقد كثر هؤلاء لكثرة المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية.
2- الصورة المشرفة الثانية هي للسلطان عبد الحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية المسلمة. فقد شهدت أيامه محنًا واضطرابات وضعفًا وديونًا في غمرة أحداث كثيرة كانت تصب في ضعف الخلافة حتى سميت بـ(الرجل المريض). قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثري اليهودي (قرّه صو)، وفي المقابلة قال (قره صو) للسلطان: "إني قادم مندوبًا عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين". فما أن أتم (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب، وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فارتمى المرافق على قدمي السلطان مقسمًا بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى (قره صو) وقال له: "اخرج من وجهي يا سافل"، فأرسل إليه (قره صو) برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك ممتلكاتك أنت شخصيًا. لم يهتز السلطان عبد الحميد، ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق (هرتزل) اليهودي الذي حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود في فلسطين، فرفض السلطان في إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها في هذا الزمان، ولقد كتب (هرتزل) الموقف في مذكراته فقال: "ونصحني السلطان عبد الحميد أن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له؛ بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون". ولقد حاول اليهود مرة أخرى عن طريق حزب الاتحاد والترقي (يهود الدونمة)، وقد ذكر السلطان تلك المحاولة في رسالة هامة لشيخه في مذكرات نسردها للعظة والتأمل والاستفادة التاريخية. يقول السلطان: "إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليَّ بأن أصادق على وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا؛ فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين؛ لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أبدًا، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا، وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل أن ألطِّخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين" انتهى كلام السلطان عبد الحميد بصورة مشرقة عظيمة للصمود أمام الخيانة مهما كانت التضحيات.إنه مثال واقعي للامتثال لأمر الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]