حكم تغطية المُحْرِم وَجْهَه
اختلف أهل العلم في حكم تغطية المُحْرِم وجهه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : يَحْرُم على المُحْرِم تغطية وجهه
به قال الحنيفة[86]، وهو قول عند المالكية[87], وعند الحنابلة[88] . وإليه ذهب عمر – رضي الله عنهما – قال :" ما فوق الذَقَن من الرأس، فلا يُخَمِّره المُحْرِم "[89]. والمراد بقول ابن عمر- رضي الله عنهما – " ما فوق الذَقَن " : الذَقَن وما فوقها، كقوله تعـالى : { فاضربوا فوق الأعناق} فإن المراد : الأعناق وما فوقها[90].
أدلة القول الأول :
الدليل الأول : رواية في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - في الرجل الذي وقصته راحلته وفيه { ولا تُخَمِّرُوا[91] رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً }. فقوله –صلى الله عليه وسلم- "ملبياً " نص في أن العلة في النهي هي الإحرام[92].
وقد اعترض على الاستدلال بهذه الرواية التي فيها ذكر الوجه بأربعة اعتراضات.
الاعتراض الأول : أن لفظة " وجهه " زيادة في الحديث غير ثابتة فلا يصح الاستدلال بها، والرواية الصحيحة المحفوظة هي بلفظ " ولا تغطوا رأسه "، وليس فيها ذكر الوجه[93].
وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن رواية " ولا تُخَمِّرُوا وجهه " رواية صحيحة محفوظة ثابتة، فهي صالحة للاحتجاج بها[94].
الاعتراض الثاني : أن هذه الرواية تعارض رواية أخرى وهي أنه –صلى الله عليه وسلم- قال " خَمِّرُوا وجهه ولا تُخَمِّرُوا رأسه " فتتعارض الروايتان، فلا تكون إحداهما حجة على الأخري[95].
ويجاب عنه : بأن هذه الرواية ضعيفة، فلا تصلح لمعارضة الرواية الصحيحة عند مسلم[96].
الاعتراض الثالث : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن تغطية وجه الرجل الذي وقصته راحلته لصيانة رأسه عن التغطية لا لقصد كشف وجهه فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه[97].
وأجيب عنه: بأنه تأويل ليس له مسوغ فلا يصح[98].
الاعتراض الرابع : أن النهي عن تغطية الوجه الوارد في الحديث خاص بالميت ولا يدخل فيه الحي[99].
ويعترض عليه
بأن قول النبي –صلى الله عليه وسلم- " فإنه يبعث ملبياً " صريح في أن العلة الإحرام، والإحرام وصف يصدق على الحي والميت.
الدليل الرابع : عن عطاء قال :" إذا مات المُحْرِم خَمِّرُوا وجهه، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : {خَمِّرُوا وجوههم، ولا تشبهوا بأهل الكتاب }[100].
ويعترض عليه بأن إسناده ضعيف، فهو غير صالح للاحتجاج به
الدليل الخامس : عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : أنه كان يقول " ما فوق الذَقَن من الرأس, فلا يُخَمِّره المُحْرِم[101].
وقد علل ابن عمر – رضي الله عنهما – لتحريم تغطية الوجه : بأنه من الرأس[102]، والرأس مجمع على تحريم تغطيته، فيجب أن يكون الوجه مثله.
وقد اعترض عليه بأنه معارض بما أثر عن عثمان - رضي الله عنه - , وموافقيه من الصحابة[103].
الدليل السادس : قياس الرجل على المرأة في تحريم تغطية الوجه حال الإحرام، فالمرأة حَرَّم عليها الشارع الحكيم تغطية وجهها حال الإحرام، والرجل أولى بذلك من جهتين :
الأولى : أن حال الرجل في ما يَحْرُم بالإحرام أغلظ من حال المرأة ، فوجب أن يَحْرُم عليه كل ما حَرُم على المرأة.
الثانية : إن المرأة عورة يجب سترها وفي كشف وجهها فتنة ومع ذلك حَرَّم عليها الشارع تغطية الوجه، ووجه الرجل ليس عورة وليس في كشفه فتنة، فهو أولى بتحريم التغطية[104].
وقد اعترض ابن حزم على هذا الاستدلال باعتراضين :
الأول - أن قياس الرجل على المرأة في ما يَحْرُم بالإحرام خلاف السنة، فإن السنة فرقت بينهما، فالرجل يَحْرُم عليه لبس الثياب وتغطية الرأس, والمرأة لا يَحْرُم عليها غير القفازين.
الاعتراض الثاني : المرأة لم يَحْرُم عليها تغطية الوجه أثناء الإحرام، بل هو مباح لها، وإنما حرم عليها النقاب فقط[105].
القول الثاني : يكره للمُحْرِم تغطية وجهه.
هو قول عند المالكية[106].
وقد حملوا الأدلة التي وردت في النهي عن تغطية المُحْرِم وجهه على الكراهة لا التحريم.
القول الثالث : يباح للمُحْرِم تغطية وجهه.
هو قول الشافعية[107]، وقول عند الحنابلة[108]، وبه قال ابن حزم قال" ولا بأس ان يغطي الرجل وجهه بما هو ملتحف به, أو بغير ذلك, ولا كراهة في ذلك "[109]، وروي عن عثمان بن عفان, وعبد الرحمن بن عوف, وزيد بن ثابت, وعبد الله بن الزبير, وسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنهم - وروي عن القاسم, وطاوس, والثوري ومروان بن الحكم[110].
وقد نص النووي على أن المقصود بالإباحة ستر الوجه بغير الملبوس المعمول على قدر الوجه فقال: " وأما غير الرأس من الوجه, وباقي البدن فلا يَحْرُم ستره بالإزار والرداء ونحوهما, وإنما يَحْرُم فيه الملبوس والمعمول على قدر البدن, أو قدر عضو منه بحيث يحيط به إما بخياطة, وإما بغير خياطة "[111].
وحدّ بعض أصحاب هذا القول حداً لما يجوز تغطيته من الوجه، فحدّه عطاء، وسفيان، بالحاجبين، فله أن يغطي الحاجبين وما تحتهما لا ما فوقهما، وكان عمر بن عبدالعزيز يرخص للمُحْرِم في أن يغطي شفتيه دون أنفه، وكان عثمان وزيد وابن الزبير – رضي الله عنهم – يغطون وجوههم وهم مُحْرِمون إلى قصاص الشعر، وكان طاوس إذا نام غطى وجهه إلى أطراف شعره[112].
أدلة القول الثاني :
الدليل الأول : عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه – " أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يخمر وجهه وهو محرم "[113].
ويعترض على الاستدلال بالحديث بأنه ضعيف الإسناد لا يصلح للاحتجاج به والصحيح أنه موقوف على عثمان رضي الله عنه.
الدليل الثاني : عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال " إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها ".
ووجه الاستدلال : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- جعل إحرام كل من الرجل والمرأة في محل خاص، ولا خصوص مع الشركة[114].
وقد اعترض عليه باعتراضين :
الاعتراض الأول : " أنه حديث لا أصل له ، فلا يصح للاحتجاج به[115].
الاعتراض الثاني : لا نسلم أن الفارق بين الرجل والمرأة المقصود في الحديث هو في تغطية الوجه، بل هو في تغطية الرأس[116].
الدليل الثالث : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في الرجل الذي وقصته راحلته, فقد جاء في بعض رواياته أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :" خَمِّرُوا وجهه, ولا تُخَمِّرُوا رأسه "[117].
ويعترض عليه : بأنه حديث إسناده غير صالح للاحتجاج به[118].
الدليل الرابع : حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً، وفيه " ولا تنتقب المرأة المُحْرِمة "[119].
ووجه الاستدلال : أن مفهومه يدل على إباحة تغطية الوجه للرجل المُحْرِم ، وإلا لما كان في التقييد بالمرأة فائدة[120].
الدليل الخامس : مفهوم قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي وقصته راحلته " لا تخمٍّروا رأسه "، فإنه يدل على عدم تحريم تخمير الوجه[121].
ويعترض عليه : بأن غاية ما فيه أن حكم تخمير الوجه مسكوت عنه فلا يكون دليلاً على عدم التحريم.
الدليل السادس: أن القول بإباحة تغطية المُحْرِم وجهه مروي عن جمع من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- من أفعالهم ومن أقوالهم، فقد روي أن عثمان بن عفان, وزيد, وجابر بن عبد الله, وابن الزبير – رضي الله عنهم – كانوا يُخَمِّرون وجوههم وهم حُرُم[122] ، وما فعلوه إلا لأنهم يرونه مباحاً[123].
كما رويت الإباحة في أقوالهم، من قول جابر[124]، وابن عباس[125], وعبد الرحمن بن عوف[126]. – رضي الله عنهم -.
واعترض عليه : بأنه يحتمل أنهم إنما فعلوا ذلك للحاجة لا لأنهم يرون إباحته[127], وإذا ورد على الدليل الاحتمال سقط الاستدلال.
ومما يقوي هذا الاعتراض أن ما روي من تغطية عثمان - رضي الله عنه - لوجهه جاء في بعض رواياته ما يدل على أنه إنما فعله للحاجة، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة : " رأيت عثمان بن عفان مُخَمِّراً وجهه بقطيفة أرْجُوان[128] بالعَرْج[129] في يوم صائف, وهو مُحْرِم"[130].
ويجاب عنه : بأنه يندفع بما روى عنهم من أقوالهم وأفعالهم مما يدل على الإباحة من غير تقييد.
الدليل السادس : الإجماع السكوتي على الإباحة، قال ابن قدامة : " أنه قول عثمان بن عفان وعبد الرحمن وزيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فيكون إجماعاً "[131].
ويعترض عليه: بأن دعوى الإجماع ينقضها ما ورى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من أنه كان يقول " ما فوق الذَقَن من الرأس فلا يخمره المُحْرِم[132]."
الدليل السابع : أن الأصل عدم التحريم ولم يأت دليل على التحريم فالحكم باق على أصله[133].
ويعترض عليه : بأن وجود الدليل على التحريم هو محل الخلاف، ولا يصح الاستدلال بحل الخلاف.
الدليل الثامن : أن وجه المُحْرِم لم تتعلق به سنة التقصير فلم تتعلق به حرمة التخمير[134].
ويعترض عليه : بأنه لا تلازم بين الأمرين حتى يكون عدم وجود أحدهما دليل على عدم وجود الآخر.
وعلل عطاء لجعل الحاجبين حداً لما يباح تغطيته من الوجه؛ بأن ما فوقهما من الرأس[135]، والرأس لا تباح تغطيته.
الترجيـح " سبب الخلاف – في ما يظهر لي – بين أهل العلم في حكم تغطية المُحْرِم وجهه هو اختلافهم في صحة الزيادة التي وردت في بعض روايات حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في الرجل المُحْرِم الذي وقصته راحلته، والتي جاء فيها النص على منع تغطية وجهه، وقد ثبتت هذه الزيادة في رواية مسلم لها، فيجب العمل بمقتضاها وهو تحريم تغطية المُحْرِم وجهه، وهو القول الأول في هذا المطلب وهو القول الراجح – في ما يظهر لي - .
وأما ما جاء من الآثار عن عدد من الصحابة – رضوان الله عليهم – بإباحة تغطية المُحْرِم وجهه فإن الأولى حمله على الحاجة؛ حتى لا يتعارض مع حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – وفي هذه الآثار ما يقوي حملها على الحاجة، كقولهم في حكاية فعل عثمان – رضي الله عنه – أنه غطى وجهه في يوم صائف، وكقول جابر – رضي الله عنه – " المُحْرِم يغطي وجهه من الغبار".
كما أن هذه الآثار الدالة على الإباحة يعارضها الأثر عن ابن عمر – رضي الله عنهما – الدال على التحريم، فلا يكون بعضها حجة على بعض.
وأما باقي الأدلة التي تمسك بها القائلون بالإباحة فهي إما أحاديث مرفوعة لم تثبت، وإما أقيسه معارضة للحديث الصحيح في مسلم، وكل ذلك لا يستقيم الاستدلال به.
والراجح – في ما يظهر لي – أن تحريم التغطية عام في كل ما يغطي به الوجه، سواء كان لباساً معمولاً على قدر الوجه لتغطيته، أو لباساً معمولاً لغير الوجه كالعِمامة يغطي بها وجهه؛ وذلك لعموم الأدلة فإنها دلت على تحريم التغطية، ولم تخص التحريم بطريقة دون أخرى.
المبحث الثاني :
أنواع اللباس المختلف في تحريمه على المُحْرِم
وفيه خمسة مطالب .
المطلب الأول
القَـــــــــــبَـاء
يُلبس القَبَاء على إحدى صفتين :
الصفة الأولى : أن يضعه الرجل على كتفه, ويدخل يديه في كميه.
ولبسه على هذه الصفة لا يجوز للمُحْرِم[136].
الصفة الثانية : أن يضعه على كتفه ولا يدخل يديه في كميه.
ولبسه على هذه الصفة للمُحْرِم محل خلاف على قولين:
القول الأول : يَحْرُم على المُحْرِم لبس القَبَاء، ولو لم يدخل يديه في كميه.
به قال زفر من الحنفية[137], وهو قول المالكية[138], والشافعية[139], وقول عند الحنابلة[140]، ومروي عن عطاء، ومجاهد, والحسن[141].
أدلة القول الأول :
الدليل الأول : عن ابن عمر - رضي الله عنهما – "أن رجلاً أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال : يارسول الله ما يلبس المُحْرِم من الثياب؟ قال : لا يلبس القميص, ولا العِمـامة, ولا البُرْنُس, ولا السراويل, ولا القَبَاء, ولا ثوباً مسه ورس, أو زعفران[142]". والنهي عن لبس القَبَاء عام يشمل كل هيئة وصورة.
وقد اعترض على الاستدلال به : بأنه محمول على لبس القَبَاء مع إدخال يديه في كميه[143].
الدليل الثاني : أن القَبَاء مخيط, فإذا أدخل فيه منكبيه صار لابساً للمخيط, فإن القَبَاء يلبس عادة بهذه الصفة[144].
واستدل المالكية على قولهم بأنه إذا لبسه منكساً لم يَحْرُم، بأنه لا يكون مُحِيْطاً بالبدن في هذه الحال فلا يَحْرُم[145].
القول الثاني : يباح للمُحْرِم أن يضع القَبَاء على كتفيه من غير أن يدخل يديه في الكمين.
هو قول أبي حنيفة وصاحبيه[146]، قال بعض الحنفية : مع الكراهة[147]، وهو قول عند الحنابلة[148].
أدلة القول الثاني :
الدليل الأول : أن المُحْرِم إذا وضع القَبَاء على كتفيه, ولم يدخل يديه في الكمين, فهو لم يلبس القَبَاء, وإنما وضعه على كتفيه كما لو التحف بالقميص لا يقال أنه لبس القميص[149].
واعترض عليه بأن الالتحاف بالقميص لا يسمى لبساً وأما الالتحاف بالقَبَاء فإنه يسمى لبساً[150].
الدليل الثاني : أن القباء لا يحيط بالبدن فلا يَحْرُم على المُحْرِم[151].
ويعترض عليه : بأنه إذا أدخل فيه كتفيه فقد أحاط بالبدن.
الدليل الثالث : أن العلة في تحريم المخيط على الرجل حال احرامه هي منعه من الترفه بما يترفه به غير المُحْرِم, وهذا لا يتحقق في وضع القَبَاء على الكتفين, فإنه يحتاج في حفظه على نفسه إلى تكلف, فأشبه الارتداء والاتزار[152].
الترجيح : الخلاف قائم في هذه المسألة مع وجود النص وهو حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – في النهي عن القَبَاء للمُحْرِم.
وسبب الخلاف هو اختلافهم في وضع القَبَاء على الكتفين من غير إدخال اليدين في الكمين هل يُعد لبساً له أم لا؟ فمن عدَّه لبساً أدخله في النهي في الحديث فذهب إلى التحريم، ومن لم يعده لبساً لم يدخله في النهي فذهب إلى الإباحة.
وبالنظر في أحوال الناس في لبس القَبَاء نجدهم يلبسونه تارة بإدخال اليدين في الكمين، ويكتفون تاره بوضعه على الكتفين من غير إدخال اليدين في الكمين، فهو استعمال معهود عندهم في اللبس.
فالراجح – في ما يظهر لي – هو القول بتحريم القَبَاء على المُحْرِم ، سواء لبسه بإدخال يديه في الكمين أو لم يدخلهما وهو القول الثاني في هذا المطلب؛ إلا أنه لا يعد لابساً للقَبَاء إلا إذا أدخل فيه الكتفين، وأما إذا اكتفى بوضع القَبَاء على عاتقه ولم يدخل فيه الكتفين فإن هذا لا يعد لبساً له, وإنما هو كوضع القميص على كتفيه.
المطلب الثاني
الخـــــــــــــــاتم[153]
اختلف أهل العلم في الخاتم هل يَحْرُم لبسه على المُحْرِم أم لا؟ على قولين :
القول الأول : يَحْرُم على المُحْرِم لبس الخاتم.
به قال المالكية[154].
واستدلوا على التحريم، بأن الخاتم مُحِيْط بعضو من البدن[155]، وهذا هو ضابط اللباس المُحَرَّم على المُحْرِم.
القول الثاني : يباح للمُحْرِم لبس الخاتم
به قال الحنفية[156]، والشافعية[157]، والحنابلة[158].
واستدلوا على الإباحة، بأن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رخص للرجل المُحْرِم في لبس الخاتم[159].
الترجيح : سبب اختلاف أهل العلم في الخَاتَم للمُحْرِم هو اختلافهم فيه هل فيه صفة الإحاطة بجزء من البدن أم لا؟
وبالتأمل في الخَاتَم يتبين أن فيه إحاطة بجزء من البدن هو الإصبع؛ لكنه لا يبلغ أن يكون في إحاطته مثل الألبسة المنصوص على تحريمها على المُحْرِم، كالقميص، والعمامة، والبُرَنُس، والسراويل، والخفين، والأدنى لا يقاس على الأعلى في النهي، فلا يكون الخاتم مثلها في التحريم. ويتقوى هذا النظر بالأثر الصحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في الرخصة للمُحْرِم بلبس الخَاتَم .
فالراجح – في ما يظهر لي – هو القول بإباحة لبس الخَاتَم للمُحْرِم، وهو القول الثاني في هذا المطلب.
المطلب الثالث
الهِمْيان[160] والمِنطقة[161]
المقصود الأول من لبس الهِمْيان, والمِنطقة هو حفظ النفقة، فأهل العلم يذكرونهما بهذا الاعتبار، وبعضهم يذكرهما معاً، وبعضهم يقتصر على ذكر أحدهما، ولا يفرقون بينهما في الحكم, فما يسري على أحدهما يسري على الآخر، لاشتراكهما في الهيئة, وفي المقصد، إلا إذا كان المقصد من لبس المِنطقة شد الظهر؛ فحينئذ تفارق الهِمْيان في الحكم[162].
وقد اختلف أهل العلم في حكم لبس الهِمْيان والمِنطقة على قولين :
القول الأول : يكره للمُحْرِم لبس الهِمْيان والمِنطقة.
هو أحد القولين عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما[163] – ، قال النووي " وبه – أي الجواز – قال العلماء كافة, إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما، وبه قال نافع مولاه[164]". وقال ابن حزم: " كرهه آخرون " بعد أن سمى من أباح لبس الهِمْيان والمِنطقة للمُحْرِم من السلف[165].
دليل هذا القول: الأثر عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - ، فقد روي عنه أنه كان يكره لبس الهِمْيان[166], والمِنطقة[167] للمُحْرِم.
وقد اعترض على الاستدلال بهذا الأثر بأربعة اعتراضات :
الاعتراض الأول : أنه مرسل لا حجة فيه[168].
الاعتراض الثاني : أنه معارض بما روى عنه, وعن غيره من الصحابة من إباحة الهِمْيان للمُحْرِم؛ لحفظ النفقة[169].
الاعتراض الثالث : يحتمل أنه أراد بالكراهة كراهة لبس المِنطقة, لغير حاجة إليها؛ لأن المِنطقة مما تستعمل وتشد على الجسد ليترفه بلبسها[170].
الاعتراض الرابع : أن قوله بالكراهة محمول على ما ليس فيه نفقة؛ لأنه نقل عنه الرخصة فيما فيه النفقة، قال ابن قدامة : " وعن ابن عمر أنه كره المِنطقة للمُحْرِم، وأنه أباح شد الهِمْيان إذا كانت فيه النفقة، والفرق بينهما أن الهِمْيان تكون فيه النفقة, والمِنطقة لا نفقة فيها، فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها، ولم يبح شد ما سوى ذلك، فإن كانت فيهما نفقة أو لم يكن فيهما نفقة, فهما سواء"[171].
القول الثاني : يباح للمُحْرِم لبس الهِمْيان والمِنطقة لحفظ النفقة.
قال ابن عبد البر" أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم"[172]. وقال النووي " وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه "[173].
وبه قال الحنفية[174]، والمالكية[175]، والشافعية[176]، والحنابلة[177]، وابن حزم[178]. وهو قول عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن الزبير- رضي الله عنهم أجمعين –, وقول سعيد بن المسيب, وعطاء, ومجاهد, وطاوس, والقاسم, والنخعي, واسحاق, وأبي ثور[179]، وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر – رضي الله عنهما -[180].
وقيد بعض أصحاب هذا القول الإباحة بشروط.
فأبو يوسف من الحنفية ذهب إلى أنه يكره لبس الهِمْيان إذا شده بالإِبريسَم[181] ولا يكره إذا شده بالسيور، وعند غيره من الحنفية لا يكره ولو شده بالإِبريسَم[182].
والمالكية أجازوا لبس المِنطقة بخمسة شروط[183] :
الشرط الأول : أن يكون فيها نفقة, فإن كانت فارغة لم يجز له لبسها.
الشرط الثاني : أن تكون النفقة الموجودة في المِنطقة له لا لغيره. فإن كانت لغيره لا يجوز له أن يشد المِنطقة على وسطه، وإذا كان فيها عند ابتداء شدها نفقته ثم أضاف إليها نفقة غيره جاز، وإذا كان فيها عند ابتداء شدها نفقة غيره, ثم أضاف إليها نفقته لم يجز.
الشرط الثالث : أن تكون النفقة للحج لا للتجارة.
الشرط الرابع : أن يشد المِنطقة فوق جلده لا فوق مــئـزره.
الشرط الخامس : أن يشدها شداً ولا يعقدها، والمقصود بشدها إدخال خيوطها في أثقابها أو في الكُلاَّب.
والحنابلة : أباحوا لبس الهِمْيان والمِنطقة للمُحْرِم بشرطين:
الشرط الأول : أن يكون فيها نفقة, فإن لم يكن فيها نفقة فلا يجوز لبسها[184].
الشرط الثاني : أن يشده على وسطه, ولا يعقده إلا إذا كان لا يثبت إلا بالعقد فيباح عقده[185]. والشد هو : أن يدخل السيور بعضها في بعض[186].
وأما المِنطقة فقد سُئل الإمام أحمد : أيلبسها المُحْرِم من وجع الظهر أو حاجة إليها. قال : يفتدي، فقيل له : أفلا تكون مثل الهِمْيان؟ قال : لا. قال ابن قدامة: " والفرق بينهما أن الهِمْيان تكون فيه النفقة, والمِنطقة لا نفقة فيها، فإن كانت فيهما نفقة, أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء"[187]. فالمِنطقة إذا كان فيها نفقة فحكمها حكم الهِمْيان[188].
ونقل عن جماعة من السلف تقييد إباحة الهِمْيان والمِنطقة.
فنقل عن إسحاق, وسعيد بن المسيب : أنهما أباحا شد الهِمْيان من غير عقد، وإنما يلفه لفا[189]، ونقل عن سعيد بن جبير: أنه أباح للمُحْرِم تكون معه الدراهم أن يشدها على حقويه، ولا يشدها على الإزار[190].
وأما جمهور الحنفية، والشافعية ، وابن حزم فلم يقيدوا الإباحة بشئ من تلك الشروط، فقد نص جمهور الحنفية على : أنه لا بأس بالهِمْيان للمُحْرِم سواء كانت فيه نفقته أو نفقة غيره، وسواء شده فوق الإزار أو تحته، ولا فرق بين شده بالإِبريسَم أو بالسيور، إلا ما نقل عن أبي يوسف من عدم جواز لبس الهِمْيان إذا شده بالإِبريسَم[191]، وقال الرملي من الشافعية " وله بلا حاجة تقليد نحو سيف, وشد نحو هِمْيان ومِنطقة[192]. وقال الشافعي :
" يلبس المُحْرِم المِنطقة، ولو جعل في طرفها سيوراً، فعقد بعضها على بعض لم يضره[193].
وقال : " ويلبس الرجل ، والمرأة المِنطقة للدراهم، والدنانير فوق الثياب وتحتها"[194]. وقال ابن حزم :" وللمُحْرِم أن يشد المِنطقة على إزاره إن شاء, أو على جلده"[195].
يتبع