عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-11-2019, 07:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقامة المغتربين

فلما سمعت صوته الشاكي، ورأيت طرفه الباكي، وجدتُ لوجده، ورثيت لبؤسه وبُعده. وبينا نحن في بساط الشكوى، وحديث البلوى، إذ أطلّ علينا رجل كان يحاذي مجلسنا، فقال: هل تأذنون لي بالجلوس، ومنادمة الكرام الجلوس؟ فقلنا: على الرُحْب والسَّعة نزلت، وعلى محبتنا وتوقيرنا حللت، فقال: نعمَ القوم أنتم، وحبذا الحديث الذي تحدثتم، أما أنا فإن لي رأيًا يباين زميل الاغتراب، ورفيق البين للأحباب؛ فأنا في كنف الغربة منذ سنين، وفي خيرات هذا البلد الأمين، أعيش بين إخواني سعيدا، وإن كنت عن أهلي بعيدا، وأذوق هنا طعم الراحة والطمأنينة، وترفل نفسي تحت ظلال السكينة، وأجد من الأفراح أكثر من الأتراح، ومن الرخاء والهناء، أعظم من الشدة والعناء، وقد ألفيت في غربتي غنًى بعد فقر، وجبراً بعد كسر، وغادرتني كتائب الهموم والأحزان، ودخلت تحت سلطان الراحة والاطمئنان، فأنا اليوم مشرق الروح والبدن، رخيُ البال في الأهل والوطن، موفور العيش من غير حاجة لأحد، هادئ النفس من مخالطة كمد، أهلي وولدي في عافية وسعة، وأحوالٍ مجتمعة، وكفّي بالإحسان ممدودة، وصدقاتي للأقارب والأباعد غير معدودة، وقد كنت قبل اغترابي في ضيق حال، وكسوف بال، حتى ملتني الزوجة والعيال، ولم يحتفل بي جيران ولا آل، والديون تلازمني، والهموم تضاجعني، فأستيقظ ومؤجرُ البيت على الباب يطالب بحقه، ولم يكن لي بدٌ من كذبه بدل صدقه، فأحيله على مليء المواعيد، من شهر إلى شهر ومن عيد إلى عيد، حتى مرت الأيام بمُرّها، وجاء ما يزيل شدةَ ضرها، فتسامع جميع من ذكرتُ باقتراب سفري، ومفارقة حضري، ففرحوا بذلك أيما فرح، فهنأ من هنأ ومدحَ مَن مدح، ومازالوا على فرحهم بي ما دمت في هذه البلاد الكريمة، وسحابة الخير فوق رؤوسهم عميمة، فكيف لا أحمد الله على نعمة الاغتراب، وتجاوزي لتلك المشكلات الصعاب، ثم أسمعنا قريض جُمَله، ومنظومَ جَذَله فقال:

ولقد لبستُ من التنعم حُلَّة

منسوجةً بسعادتي وهنائي



وخلعتُ يوم البين ثوبَ شقاوتي

ودفنتُ خلفي كربتي وعنائي



ووُلِدتُ للعيش الكريم بُعيدَ ما

أشرفتُ قبلُ على شفير فَنائي



فلربيَ الحمدُ الجزيل فإنما

بعطائه ولَّى ظلامُ مسائي



فأويتُ بعدُ إلى صباح مسرَّتي

فوجدتُ من داء الشقاء دوائي





وحينما خلبَ هذا المتغرب قلبي بحديثه، وبقرَ لي شأنَه بنثيثه، احترتُ في الحُكم على الغربة، أهي راحة أم كربة! وبينما أنا أتداول بين الأمرين، وأتردد في حال المغتربين، إذ هلَّ علينا شيخ مهيب الطلعة، بهيُّ النَّزعة، فقرأتُ على وجهه سيما الحكمة والخبرة، وحدثني مرآه عما يكتنز من العبرة، فعرضت عليه حديث صاحبيَّ المختلف؛ لعلي أن أجد لديه ما به يأتلف.

فقال: اسمعوا يا أبنائي قولي؛ فإنه ليس بحولي ولا طولي، ولكنها أمانة المشورة، وزكاة الحِكم المأثورة، والتجربة المستقاة، من مرور الزمان ولُقياه. إن الإنسان في هذه الحياة القصيرة، والمدة اليسيرة، يتقلب بين أحضان الأحوال؛ من فقر إلى مال، ومن سعة إلى إقلال، ومن حزن إلى سلوان، ومن راحة إلى أحزان، فليس يعدم المرءُ في هذه الدنيا من كدرٍ في نعمائه، ومن ألطاف في بلوائه، فالحياة مشوبة بالحال وضدها، ولا يملك أحد شيئًا لردها، فالغربة وإن كان فيها أحزان ومنغصات، وذكريات تستدر الدمعات، إلا أن فيها مصالح عظيمة، ودفعًا لمضرات جسيمة، والإقامة مع الزوجة والعيال، والأقارب والآل، وترك الغربة - إيثاراً لهذه المنافع، وحرصًا على الأوطان والمرابع -؛ إلا أنها على بعض الناس فقر وإقلال، وهمٌّ وإملال. فلا أحسن من الرضا بما عليه الإنسان من الحال، وتكييف نفسه على ما قُدِّر لها من الأحوال، ومدافعة ما ينغص على المرء هناه، ويكدر عليه صفو الحياة، فمن رأى أن الغربة خير له فليصبر على آلام فراق الزوجة والبنين، وتطاول الشهور والسنين، وعلى أوجاع التعزب والحنين، ومن رأى أن الإقامة أفضل له من الظعن، وهجر الأهل والسكن، فليصبر على ما قد ينزل به من غموم القلة، ولفحات الحاجة والعيلة، ثم أنشأ يقول:


إذا ما شئت أن تحيا سعيدا

قليل الهم مرتاح الفؤادِ



طليقَ البال من قيد المآسي

فلا تسخط شؤونك في الرشادِ




وعانِقْ بالرضا المقدورَ واقطع

شَعاعَ القلبِ من وادٍ لوادِ



فما أحلى الحياة وحالتَيْها

لراضٍ – ظلَّ - عن ربِّ العبادّ






وهنا هطل على القلوب نثرُ الشيخ ونظمه، وقضى فيما جرى حُكمُه وعِلمه، فسمعنا ووعينا، ودعونا وشكرنا، فلما انفضّ المجلس عرفت من حديث الشيخ شخصه، ولم أحتج بعد دُرر حكمته فحصه، فإذا هو شيخنا الحارث بن همام، وإن أخفته عنا الأعوام تلو الأعوام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.16%)]