فرضية النقاب بين الدعاة والأدعياء
سيد مبارك أبو بلال
2- ما أخرجه الحاكم (1/454) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام). وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وذكره الألباني في الحجاب (ص /50).
فهذا حديث صحيح يخالف تصرف أسماء ودخولها على النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا دون تغطية وجهها فضلاً عن رؤيته لها بملابس رقاق تصف بشرتها وفي سن تكون فيه المرأة أكثر فتنة وأكمل أنوثة ونضوجاً ومن؟! ذات النطاقين!.. بنت الصديق رضى الله عنه وأخت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وما هو معلوم عنها من حسن الخلق والورع والتقوى.. تدخل هكذا بلا حياء وبملابس تصف بشرتها وعلى من؟ ! رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. اللهم غفراً.. اللهم غفراً.. أن نقول ما لم يثبت ولا يصح.
وعلى كل حال هذا الدليل ضعيف لما ذكرنا من العلل ولا يعول عليه ولله الحمد والمنة.
الدليل الرابع: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير آذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال: (تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم. فقامت امرأة من سطة النساء…)) أي جالسة وسطهن ((.. سفعاء الخدين)) أي فيهما تغير وسواد، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير)) قال: فجعلهن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطتهن وخواتمهن"[أخرجه مسلم في صلاة العيدين (885)،، والبخاري في الجمعة (961)].
من هذا الحديث استدل الفضلاء من العلماء عليهم سحائب الرحمة إباحة كشف الوجه فلولا رؤية جابر للمرأة ما عرف أنها سعفاء الخدين.. ولدحض هذا الدليل نطرح سؤالاً هاماً كمدخل لذلك متى كان ذلك؟ بمعنى هل رؤيته للمرأة في يوم العيد كان قبل فرض الحجاب أم بعده؟ إن تصادف التقاء يوم العيد قبل فرض الحجاب فالأمر منتهى لجواز كشف الوجه في ذلك الوقت وإن كان بعد فرض الحجاب فالسؤال التالي هو.. ما الدليل الذي يثبت هذا من الحديث؟ وعلى فرض إنه رأى المرأة الحجاب سافرة الوجه فما الذي يمنع أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً فكشف وجهها مباح لقوله - تعالى -: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور 60)].
وإن لم تكن من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً فلا بد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رآها عندما سألته وسكوته دليل على أنه قبل الحجاب. فتأمل.
قال الشنقيطي -رحمه الله –[انظر أضواء البيان للشنقيطي (6-597)]: "وأجيب عن حديث جابر هذا بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عن وجهها وأقرها على ذلك. بل غاية ما يفيده الحديث أن جابر رأى وجهها وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصداً وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد فيراه بعض الناس في تلك الحال.. فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - رآها سافرة وأقرها على ذلك ولا سبيل إلى إثبات ذلك".
ثم أن الواقع الزمني يدحض الإدعاء بأنه بعد الحجاب لاحتمال الأمرين لأن آية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاث وقيل خمس حين بنى النبي -صلى الله عليه سلم- بزينب بنت جحش - رضي الله عنها - كما في ترجمتها من الإصابة وكذلك في قصة زواجها في البداية والنهاية لابن كثير(3) من النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما صلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة وبالتالي فقد مرت ثلاث سنوات وذلك قبل فرض الحجاب فكيف السبيل لمعرفة إن هذا حدث بعد الحجاب دون دليل واضح لا لبس فيه ولا غموض. تأمل.. تدرك جيداً إنه دليل يفيد الظن وليس الثبوت.
الدليل الخامس:
ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أردف رسول الله الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته وكان الفضل رجلاً وضيئاً فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس يفتيهم وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عبادة أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: ((نعم))[أخرجه البخاري في الاستئذان (6228)، ومسلم في الحج (1334)].
قال الفضلاء من العلماء ممن يبيحون كشف الوجه أن هذا دليل على جواز كشف الوجه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدل وجه الفضل ولم يأمرها بستره. وقال ابن حزم -رحمه الله- لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوقه، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء".
وفي شرح ابن حجر العسقلاني للحديث قال: قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع… قال: - ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طبائع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -.. إذا لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسل الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل، قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء وأن قوله -تعالى-: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[30) سورة النور].. على الوجوب في غير الوجه.
وعلق " ابن حجر العسقلاني" على حديث ابن بطال -رحمهما الله تعالى- فقال: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة، ولكن العلامة "الألباني"- رحمه الله تعالى - وهو يؤيد عدم فرضية ستر الوجه قال معلقاً على الحافظ ابن حجر ما نصه: "كلا فإنه لا دليل على أنها كانت محرمة بل الظاهر خلافه فقد قدمنا عن الحافظ نفسه أن سؤال الخثعمية للنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان بعد رمي جمرة العقبة أي بعد التحلل فكأن الحافظ نسي ما كان حققه هو بنفسه - رحمه الله تعالى-".
كمارد الألباني - رحمه الله تعالى - على من قال من أهل العلم الفضلاء بأن ليس في الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ما نصه: "إذا لو لم يكن الأمر كذلك فمن أين للراوي أن يعرف أنها امرأة حسناء وضيئه؟ ولو كان الأمر كما قال. فإلى ماذا كان ينظر الفضل ويكرر النظر؟ والحق أن هذا الحديث من أوضح الأدلة وأقواها على أن وجه المرأة ليس بعورة. لأن القصة وقعت في آخر حياته -صلى الله عليه وسلم- وعلى مشهد منه -صلى الله عليه وسلم- مما جعل الحكم ثابتاً محكماً فهو نص مبين لمعنى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) وإنه لا يشمل الوجه فمن حاول أن يفهم الآية دون الاستعانة بالسنة فقد أخطأ"[كتاب حجاب المرأة المسلمة للألباني ص/7].
وهذا الدليل من أصح الأدلة وأوضحها للعلماء الأفاضل المبيحين لكشف الوجه للأسباب التالية:
1- إن المرأة الخثعمية كانت سافرة الوجه بعد الإحرام وأمام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمرها بالاستتار وإنما أخذ بوجه الفضل حتى لا يفتتن بها.
2- إن القصة حدثت في أواخر حياته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع أي بعد نزول آية الحجاب بلا ذرة شك واحدة.
3- إن المرأة كانت حسناء جميلة فينفي أنها كانت من القواعد اللواتي يرخص لهن بكشف الوجه للمشقة.
فهذا الدليل حقاً متين ولهذا اختلف العلماء الأفاضل في توضيح سبب كشف وجهها بعد الحجاب فمن قال إنه كانت محرمة كالحافظ "ابن حجر" كما تقدم وكذلك" [ابن العثيمين" في رسالة الحجاب (ص 30)] ومن قال إن المرأة كشفت وجهها رغبة في أن ينكحها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو الرأي القوى الذي أميل إليه من وجهة نظري وهو ما سوف اشرحه بالتفصيل لإزالة الالتباس لأن الحديث كما ذكرنا متين ولكن القصة كانت واقعة حال لا عموم لها أي يتطرق إليها عشرات الاحتمالات فيجب بيانها بما لا يخالف الأصول الثابتة لعموم الأدلة بحرمة كشف الوجه وضعف أدلــة كشفه كما أثبتنا.
ونبدأ توضيحنا بتوفيق الله -تعالى- ونستعير العبارة الأخيرة للعلامة ناصر السنة وعمدة المحدثين في عصره الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى - التي ذكرناها أنفا.
" فمن حاول أن يفهم الآية دون الاستعانة بالسنة فقد اخطأ ".. قلت نعم هذا حق وفي الكتاب والسنة ما يؤيد السبب الذي جعل المرأة الخثعمية تكشف عن وجهها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كاد الفضل أن يفتتن بها وهو كما ذكرنا أنفا رغبتها في الزواج من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي رخص بالنظر للمرأة لنية الزواج كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة من ذلك:
ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله: (أنظرت إليها؟ قال: لا.. قال: "فاذهب فانظر إلها فإن في أعين الأنصار شيئاً)) [أخرجه مسلم في النكاح(1424) باب ندب النظر إلي وجه المرأة].
ولا يغيب على القارئ الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "إن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي. فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست... وذكر الحديث ونهايته أن رجلاً تزوجها من الصحابة بسورتين مــن القرآن مهرا لها بعدما أعرض عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -).
والحاصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح كشف الوجه والنظر إليه عند التزوج وحرمه لغير ذلك كما جاء في حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- عندما أمره بصرف بصره وقد ذكرناه سلفاً.
وهذا هو الراجح والله أعلم والذي يفسر كشف المرأة الخثعمية لوجهها أمامه -صلى الله عليه وسلم- حتى كاد أن يفتتن بها الفضل، ولذلك لم ينكر عليها النبي كشف وجهها وإنما أخذ بوجه الفضل لأنه لا يحل له النظر إليها.
ويزيد الأمر توضيحاً وتفسيراً ما عزاه الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في نفس سياق القصة برواية أخري قال: روى أبو يعلي بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعرابي معه بنت حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يتزوجها وجعلت التفت إليها ويأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة).. ومن هذا الحديث استدل "الحافظ ابن حجر" ما نحاول إثباته الآن فقال - رحمه الله -: "فعلى قول الشابة إن أبي، لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع منها كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها" [انظر شرح فتح الباري - كتاب جزاء الصيد- باب حج المرأة عن الرجل].
.. وهكذا تضح معالم القصة فهي كانت كاشفة وجهها.. نعم وكانت بعد الإحرام..
نعم، ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستتار.. نعم ولكن ليس في الحديث ما يخالف الأدلة الثابتة بحرمة كشف الوجه فضلاً عن أن هذه القصة كما ذكرنا واقعة حال تتشعب فيها الاحتمالات ولذلك لا يصح اتخاذها دليلاً وإنما يفسرها الأحاديث الأخرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من إباحة كشف الوجه للزواج وكما قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "فمن حاول أن يفهم الآية دون الاستعانة بالسنة فقد أخطأ ولكن مع اختلاف التفسير".
وبعد إنما أطلت في توضيح وبيان هذا الدليل لرفع الإشكال وإزالة الالتباس، وبهذا نكون بفضل الله وتوفيقه قد طرحنا أقوي أدلة العلماء الأفاضل الذين يبيحون كشف الوجه وادحضناها بالقرآن والسنة وتفسير العلماء الثقات، ونكرر بأن العلماء الذين أباحوا كشف الوجه كانوا أشد ورعاً وتقوى وغيرة على الدين فلم يقل أحد منهم إن النقاب وستر المرأة وجهها بدعة!.
وإنما الأفضل ستره عند الفتنة والسؤال الذي يطرح نفسه هل نحن في زمن مأمون فيه الوقوع في الفتنة؟ الجواب واضح ولا يحتاج إلى تعليق لأننا نعيش الفتن ونراها رؤية العين نسأل الله - تعالى -أن يصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يهدي نسائنا وبناتنا إلى الحق وهو الهادي إلى صراطه المستقيم إنه نعم المولى ونعم النصير.
ًوالله من وراء القصد وهو يهدي السبيل