معالم فقه الخلاف 1
عبد الوهاب بن محمد الحميقاني
ولم تكن المذاهب الفقهية محصورة في الأئمة الأربعة فحسب، بل كان الأئمة المتبوعون كثيرين منتشرين ومتوزعين في الأمصار، بل ربما كان يوجد في المدينة الواحدة أكثر من إمام متبع في عصر واحد، وفي عهد هؤلاء الأئمة بدأ تدوين العلوم وجمعها وفي آخر عهدهم كثرت الرحلة في طلب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعها ووضعت لذلك أصولاً يتميز بها صحيحها من سقيمها.
وما جمعت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوينها المشهورة إلا والمذاهب الفقهية قد تمايزت، وأصبح لكل إمام تلاميذ وأتباع وإن لم يكونوا وقتها مقلدين لأئمتهم كما هو التقليد عند المتأخرين بل كانوا يبحثون عن الأقوال وأدلتها ويأخذون بقول إمامهم لقوة دليله عندهم وظهور حجته لديهم لا لأجل التقليد المحض " زاهدين في التعصب للرجال واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين صارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر الله انتدبوا له ولا يسألونه عما قال برهاناً، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس" [15].
ومع تطاول العهد بالناس فشا التقليد، واستشرى التعصب، وهجرت النصوص، ونودي بغلق باب الاجتهاد، وأصبح جل علماء المذاهب الفقهية لا جهد لهم إلا التخريج والاستنباط على قواعد أئمتهم وأقوالهم، وشرح وتدريس كتب مذاهبهم واختصارها وحفظها، زاهدين في كتب السنة والآثار.
فعظم التعصب بين أتباع المذاهب، واتسعت دائرة الخلاف فيما بينهم " و(فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 32] وجعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23]، والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب".
حتى وصلت الفرقة بين المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة أنهم ومنذ القرن السادس الهجري إلى عهد قريب، لم يكن يصلي بعضهم خلف بعض في المسجد الحرام، وغيرها من مساجد الحواضر الإسلامية، بل تقام الصلاة في نفس المسجد لأربعة مذاهب و لكل مذهب جماعة بإمام[16].
والحق: أن أئمة المذاهب والمحققين من أهلها براء من ذلك كله، فلم يزل من يقوم بأمر الدين، ويهدي بالكتاب، ويمسك بالسنن، ويرجع الناس إلى الصواب، في كل عصر، ومن كل مصر، وبرز من علماء كل مذهب من نبذ العصبية المذهبية، وإلى تقديم ما تؤيده الحجة الشرعية على آراء وأقوال الرجال، ومثل هذه الدعوات المخلصة أزالت كثيراً من مظاهر الفرقة والاختلاف بين المسلمين، مع أن التباين في الآراء والاختلاف في الاجتهادات ما زال بين العلماء إلى اليوم وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأسباب سنعرض لها لاحقاً في هذا البحث.
ثانياً: أهمية فقه الخلاف:
عندما غاب فقه الخلاف عن كثير من حملة الشريعة ودعاة الإسلام في أيامنا هذه، وجدناهم وموقفهم من الخلاف العلمي طوائف:
- طائفة ضاقت بهذا الخلاف ذرعاً، ونفته البتة، ولم تقبل بأي تباين رأي في أي مسألة بين المسلمين، وأرادت جمع الأمة لزاماً على رأي واحد في كل قضية صغيرة كانت أو كبيرة.
- وطائفة أخرى جعلت من وجود الخلاف دليلاً على مشروعية كل قول وصوابه، وأخذت تتخير من أقوال أهل العلم ما تهواه بحجة أن المسألة فيها خلاف، وما كان فيه خلاف شاع وساغ التخيير فيه والانتقاء.
- وطائفة من المتعالمين -بعضهم ممن يحمل الشهادات الجامعية- جعلت الاجتهادات الفقهية ـ بزعمها ـ تجزئة للدين بآراء شخصية لا تمت إلى الشرع بصلة وزعمت أن الموسوعة الفقهية والعلمية لفقهاء وعلماء المسلمين تعبر فقط عن فهم أصحابها ولا يلزم أحداً من الأمة العمل بها.
ومما ساعد على هذا الفهم الخاطئ وجود طائفة أخرى جعلت من وجود الخلاف ذريعة للتقليد الأعمى والإتباع المطلق للأشخاص والرجال، وأنزلت آراء واجتهادات من قلدتهم من العلماء منزلة النصوص الشرعية التي لا يسع أحداً الخروج عليها ولو إلى اجتهاد آخر لعالم أوسع علماً وأقوى حجة وأظهر دليلاً بحجة أن مقَلَّده أعلم وأفهم، وقد أدى ذلك إلى معارضة نصوص الكتاب والسنة وطرحها وتقديم أقوال الرجال عليها.
ولو أنهم جميعاً أمعنوا النظر في مواطن النزاع بين الفقهاء، ودرسوا بواعث وأسباب الخلاف بين العلماء، وتفحصوا ما صدر عنهم من اجتهادات فقهية اختلفوا فيها، لعلموا أن لكل منهم أدلته وأصوله الشرعية وقد استفرغ وسعه في بيان أحكام الكتاب والسنة، وكان لاختلاف اجتهاداتهم أسباب ومبررات شرعية من تأملها أدرك ما أدركه كثير من أهل الحق الذين ميزوا بين الأحكام الفقهية التي صدرت عن أولئك العلماء وهي محل اتفاق بينهم لا ينازع فيها إلا أهل الشذوذ والفرقة، وبين الاجتهادات التي اختلفوا فيها والتي لم تصدر منهم بالهوى والتشهي، وإنما بذلوا فيها جهدهم واستفرغوا لها وسعهم، قاصدين مراد الشارع، راغبين بثوابه، متمرجحين بين أجر المخطئ وأجري المصيب، وخطأ بعضهم في إصابة الحق لا يقدح في علم الشريعة ولا يغمط العالم المخطئ قدره علمه.
فكما أن العالم في فرع من فروع العلوم التطبيقية -على سبيل المثال- قد يخطئ في استخراج قانون أو استنباط قاعدة علمية، ويكون ذلك الخطأ غير قادح في ذلك العلم، بل يرجع إلى العالم المستنبط لذلك القانون، فكذلك الحال بالنسبة للعالم في العلوم الشرعية، فإنه يتعامل مع علم الشريعة المضبوط بالأصول والقواعد والأدلة، لكنه قد يخطئ عند استنباطه للحكم، وحتى في هذه الحالة فإن خطأ العالم الشرعي وإن كان لا يقبل منه- فإنه لا يقع منه عمداً ولا عبثاً، وإنما لا يكون لقصور أدواته العلمية أو إمكاناته الذاتية، ومع ذلك فيرد عليه إلا أنه يعذر فيه، بل يكون مأجوراً على اجتهاده في معرفة الحكم الشرعي، متى كان مستوفياً لشروط الاجتهاد.
والمنصف من تعامل مع الخلاف تعامل تكامل لا تآكل، تعاملاً يجعل منه خلافاً لا يضر بجماعة المسلمين ولا يؤدي إلى فرقة وشقاق بينهم، وإنما نافعاً لهم، ومقدماً لهم موسوعة فقهية لا نظير لها، عبرت عن بيان وتفسير علماء المسلمين لدلالات النصوص الشرعية، والذي بنوه على أسس علمية، وقواعد شرعية، وأصول صحيحة في الاستدلال والترجيح ودفع التعارض، ومثل " هذا الاختلاف لا يمكن أن لا يكون؛ لأن النصوص الأصلية كثيراً ما تحتمل أكثر من معنى، كما أن النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير محدودة، فلا بد من اللجوء إلى القياس والنظر إلى علل الأحكام وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة وتحكيمها في الوقائع والنوازل المستجدة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد، وكل منهم يقصد الحق ويبحث عنه... ولا توجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده، ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي" [17].
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: " وإذا كان الصحابة الكرام وهذا شأنهم وعلو مكانتهم اختلفوا في المسائل الاجتهادية الفقهية، فغيرهم أولى بالوقوع في الاختلاف، ونحن لا تضيق صدورنا باختلاف المجتهدين، ولا نحسبه تجزئة للدين، وإنما نراه من مظاهر نشاط فقهاء المسلمين... إلا أننا تضيق صدورنا بما يرتبه بعض الجهال على اختلاف أولئك الفقهاء من تعصب ذميم وخلاف ذميم، ومن تنزيلهم لأولئك الفقهاء العظام منزلة التقديس والتنـزيه عن الخطأ، وجعل أقوالهم حاكمة على القرآن والسنة، إلى غير ذلك مما يقع فيه المتعصبون الجاهلون... كما تضيق صدورنا بأولئك الذين يدعون عدم التقليد ويسوغون لأنفسهم الاجتهاد مع جهلهم بفهم آية من كتاب الله، ويسوغون لأنفسهم الطعن بالأئمة المجتهدين بحجة اتباعهم للكتاب والسنة" [18].
وسبب ذلك كله عدم فقه الخلاف ودراسة أسبابه والقواعد الشرعية التي تحكمه، وعدم الاطلاع على أقوال الفقهاء في المسائل ومسالكهم في الاستدلال، ولو عُلم ذلك لعاد فقه الخلاف علينا بعظيم الفوائد التي تتلخص في أمور ثلاثة:
أولاً: سنعرف كيف نتعامل مع الخلاف بما يخرجنا من ذم المختلفين، ويعصمنا من الفرقة والشقاق؛ إذ معرفة فقه الخلاف تحصر الخلاف وتضيقه قدر الإمكان، وتحدد الطريق والسبيل إلى الائتلاف.
بينما غيابها يجعل من الخلاف العلمي بين المسلمين صراعاً يبدد الجهود والطاقات، ويجلب الفشل، ويتسبب في ذهاب الريح وتسلط الأعداء، إلى غير ذلك من الآثار المشؤومة للفرقة والاختلاف.
ثانياً: تنمية الدربة الفقهية والملكة الاستنباطية عند العلماء وطلاب العلم حيث يحصل به -إن شاء الله " التمرن على تحرير الأدلة وتهذيبها والتبين لمأخذ تضعيفها وتصويبها ويتهيأ لأكثر المستعدين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب وغاية الطلب" [19] والتي لا تتأتى إلا بالاطلاع على أقوال العلماء وأدلتهم واستدلالاتهم واختلافهم في ذلك.
يقول ابن خلدون عن فقه الخلاف: " وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه" [20].
لأن من اقتصر على قول واحد ظن أن الحق ما علمه فيفوته علم كثير وخير وافر أصح وأثبت مما في يديه؛ فيقصر باعه في الفقه وتقل بضاعته في العلم.
قال سلمان بن فهد العودة: " ذلك لأن الجهل بالخلاف قد يؤدي إلى رد بعض الحق الذي لا يعلمه؛ إذ الحق غير منحصر في قول فرد من العلماء كائناً من كان... وجهل المرء بالخلاف يجرئه على ترجيح ما ليس براجح، واستسهال أمر الفتيا والتحليل بمجرد أن يطلع على نص في الموضوع دون أن يبحث هل ثمة نصوص أخرى تخصصه أو تنسخه أو تقيده، وهذا مدعاة إلى الفوضى التي لا نهاية لها، وإلى إثارة الفتنة في صفوف الناس" [21].
ثالثاً: من فوائد هذا الفقه أن يُعرف للأئمة قدرهم وللفقهاء فضلهم ويُعذروا فيما أخطأوا فيه؛ فبفقه الخلاف نعلم أنهم ما قصدوا الخلاف ولا تعمدوه، وأن قول كل منهم جاء معضوداً بالدليل والحجة وإن تباينت الأدلة والحجج في القوة والضعف وتفاوتت العلوم والفهوم في القلة والوفرة.
ـــــــــــــــ ـــــــــ
[1] أحمد بن حنبل الشيباني في المسند، مؤسسة قرطبة- القاهرة: (4/26) و ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت: (1/16) برقم (43).
[2] انظر: ابن القيم، محمد بن أبي بكر أيوب، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م: (1/6، 7).
[3] انظر: تفسير قوله - تعالى -: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا)[الروم: 32]، في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1416هـ/1996م.
[4] أخرجه أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين، دار الفكر: (1/145) برقم (334) وأحمد في المسند: (4/203) برقم (17845)، والدارقطني، علي بن عمر، سنن الدارقطني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ/1966م: (1/78) برقم (12).
[5] أخرجه أبو داود في سننه: (1/146) برقم (338) والدارقطني في سننه: (1/188) والحاكم، محمد بن عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/1990م: (1/286) برقم (632) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
[6] انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، ط2، 1415هـ، دار الكتب العلمية، بيروت: (1/369).
[7] أخرجه الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، سنن الدارمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ: (1/52) برقم (83).
[8] الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم، الإنصاف في بيان أسباب الخلاف، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، دار النفائس، بيروت، ط2، 1404هـ: (ص22، 23).
[9] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، 1407هـ: (2/507) برقم (1335).
[10] انظر: البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي، سنن البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ/1994م: (6/251).
[11] ابن القيم، إعلام الموقعين: (1/3).
[12] البخاري في صحيحه: (2/421) برقم (1942) ومسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت: (4/1939) برقم (2492).
[13] البخاري في صحيحه: (2/727) برقم (1956) وأبو داود في سننه: (2/767) برقم (5182).
[14] ابن حزم، علي بن أحمد الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، ط1، 1404هـ: (2/245-249).
[15] ابن القيم، إعلام الموقعين: (1/6، 7).
[16] انظر: (ص 196).
[17] قرار المجمع الفقهي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في عام1408هـ/1987م.
[18] الوجيز في أصول الفقه، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت ـ لبنان ط1، 1427هـ / 2006 م:
(ص345 ـ 346).
[19] الأسنوي، عبد الرحيم بن الحسن، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1400هـ: (ص47).
[20] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون: (1/573).
[21] انظر:العودة، سلمان بن فهد، ضوابط للدراسات الفقهية، دار الوطن، الرياض، ط1، 1412هـ: (ص80)