اتساع المعاني المختزلة في تركيب الأداة لكن
تطبيق بلاغي:
َلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251)
أين التذوق الجمالي في الآية الكريمة؟
الفكرة الرئيسية للآية: دفع الناس بعضهم بعضا، أي: دفاع الناس عن انفسهم، وبالتالي دفع أعدائهم وصدهم، فهو دفع للضيم ومقاومة للظلم، فيدفع أهل الباطل بأهل الحق. واذا علمنا أن أصل معنى الدفع: الإزالة بقوة(6)، وعلى أقل تقدير لفعل الدفع هو الإقصاء عن المرام(7) أدركنا أهمية دفع الناس بعضهم بعضا وإلا فالنتيجة كما تقررها الآية الكريمة افساد الارض بغلبة الكفر، وتمكُّن الطغيان، وأهل المعاصي. قال الرازي-رحمه الله: أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمى فساداً، وذلك الفهم نشأ بدخول لام التعليل على لفظ فسدت وهي بمعنى كي. {والله لا يحب الفساد }(البقرة:205).
انتهت فكرة الآية! ...
ولكن...
جاءت لتكمل الصورة الصحيحة التي ينبغي للانسان ان يؤمن بها ويعيها -فتامل معي ما يلي:
أولاً: سينشأ عن هذا الكلام توهم ( هذا الحكم )- بخلاف الحقيقة- وحاصله ان الغلبة للاقوى!(8) فلزم أن يُثبّت ما هو ضد ونقيض لتلك الفرية، وقد جاء الاسلوب القرآني في غاية البلاغة اذ بين ذلك في محورين:
- باستعمال مصدر نائب عن الفعل والمصدر اسم يدل على حدث مجرد من الزمن أي: انّ غَرْسَ هذا الدفع (المقاومة) في الانسان لم ياتِ فور وقوع الظلم بل وضعه الله في الانسان؛ لذلك أسند المصدر إلى الله.
والقصة -المضروبة مثلا- في هذه الآية قصة داوود وجالوت فقد استبد جالوت دهرا من الزمن وقهر بني اسرائيل إلا ان الله -عز وجل- دفع ذلك بداوود عليه السلام وتمكن منه وقتله(9)،والدفع يتبين:
<ul> الدفع العام المطلق في النفس البشرية:
<ul> قال ابن عاشور-رحمه الله-: ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضاً قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلُّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلُّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها(10)
</ul> الدفع المادي بالاستعداد للاعداء
قال الله تعالى : وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة
<ul> قال الشنقيطي -رحمه الله-: وقد بين في مواضع أخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ (الأنبياء:80)}، وقوله تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد (سبأ : 10-11) }.
</ul> الدفع المعنوي
<ul> اختيار الآخرة والتخلي عن الدنيا { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}
الدعاء {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
</ul> </ul>
- استعمال (لولا) فلولا حرف امتناع لوجود . أي : امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض.
هل تاملت ذلك؟ أليس هذا فضل من الله على العالمين
اذن: الاستدراك هنا بـ لكن بمثابة: رفع توهم تولد من كلام سابق، ونقص معنوي ينشأ عن قصر في الفهم والادراك ونفي ما قد يثبت لدى المتلقي. وهذا-لا شك- يدخل في حيز أسلوب التوكيد، والتوكيد هنا تنسيب حكما جديدا يناقض ما قد يتوهم او ما قد يفوت بالنقص الادراكي.
الحكم المنسّـب يتجلى في الحجة على خلقه، قال ابن كثير -رحمه الله - في تفسيره
وقوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي: مَنٌّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله).
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (النساء:166)
فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يُتوهَّم ثبوتُه أو نفيُه . والمعنى : لم يشهد أهلُ الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم من قوله :{يسألك أهل الكتاب}(النساء:153 ).
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (الانعام:33)
قوله : { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } استدراك لدفع أن يتوهّم من قوله : { لا يكذبونك } أنّهم صدّقوا أو أنّهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أنّ الواقع خلاف ذلك، فاستدرك بأنّهم يجحدون بآيات الله.
والجحد والجحود ، الإنكار للأمر المعروف ، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر ، فهو نفي ما يَعلم النافي ثبوته ، فهو إنكار مكابرة .
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (النساء:158)
قوله تعالى: ولكن شبه لهم : تنسيب حكم جديد( شبه لهم الصلب ) ونفي حكم قد يتبادر الى الذهن في عملية الصلب من عدمها، أو بمعنى آخر: ليس المقتول و المصلوب هو المسيح و لكن شُبّه لهم أنه المقتول و المصلوب. قال الشوكاني في "فتح القدير": "وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه، وقتلوا الذين قتلوه، وهم شاكون فيه
الاستدراك بالمفهوم الاوسع وعلاقته بالشريعة
كون الاستدراك -بالمفهوم العام- نفي واثبات فان ذلك يقتضي الانتباه الى عدم زج عبادات فيما شرع الله، فالعبادات توقيفية، جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من لدن عليم حكيم، لذلك فان أي زيادة في الدين ستكون قبيحة لأنها تعديل وتجهيل ونقض لصريح قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، فالدين قد كمل والنعمة تمت، فصارت الزيادة في دين الله كالنقص منه. وإنها تشريع يضاهى به شرع الله .
فإذا كان الله أكمل الدين وأتم النعمة (أكملت) و (أتممت) فما نحن لنزيد ونعدل، ان هذه من خصائص الله وحده - جل وعلا- كما انه ليست كل زيادة على الخير تكون خيراً، وكثير ما قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتعليمنا العبادات وأردف ذلك: فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم وتعدى، واكد ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- إن شر الأمور محدثاتها ، ونهانا عنها بقوله: إياكم ومحدثات الأمور، وتعليل النهى جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم : فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة(12) " وفي رواية: " وكل ضلالة في النار . أليس هذا استدراك على الله فيما حرم وتجهيل له فيما شرع وقد أكمل الله لنا الدين
وقد شهد الله -جل وعلا- لنبيه انه بلغ الرسالة وادى الامانة بقوله:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الانعام:115)
فمن دواعي التمام تضمين دلالة الالتزام بعدم وجود نقص، بل ان ذلك تم بكماله؛ وجاء تاكيد ذلك بقوله (أكملت)
قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة:3 )
وقد شهد الرسول نفسه بذلك
ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه )(11)
وقال -صلى الله عليه وسلم- « إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ، ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها » (13) .
والله أعلم
هذا ما عندي في المسألة سائلا ربي أن ينفع بها
والحمد لله رب العالمين
ومتأسيا بالصحابي الجليل عبدالله بن مسعود بقوله:
إن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان
والله أسأل أن يعفو عني ، ويغفر لي ذنبي
زياد أبو رجائي
(1) إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف:2)
(2) وهناك خصائص كثيرة للغة العربية منها مرونة تعبيراتها و سعتها من حيث الاشتقاق الصرفي ، و الايجاز .... ولعلنا سنفرد له حلقة خاصة في القريب ان شاء الله
(3) ومما يدلّ على أن النون في لكن بمنزلة إن خفيفةً أو ثقيلة، أنك إذا ثقّلت النون نصبتَ بها وإذا خففتها رفعتَ بها(ينظر:الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس)
(4) ورد هذا القول امام النخاة ابن مالك رحمه الله وقال: لا حجة فيه، لأنه بيت مجهول، لا يعرف له تمام، ولا شاعر، ولا راو عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته
(5) والخلاف في هذا مبسوط في كتب النحو فهناك قول من أجاز الإعمال، وجعل ما زائدة ملغاة وهذا اختيار الاخفش ( ينظر:الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي)
(6) لسان العرب مادة دفع
(7) تفسير ابن عاشور موضع الآية 251 من سورة البقرة
(8) وقد حصل لبني اسرائيل ذلك الظن: حتى جاء المؤمنون {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة:249)}
ذكر هذا الجزء من الآية بعد قصة النبي داوود وطالوت-عليه الصلاة والسلام وجالوت- الذي كان يخيف بني اسرائي وكيف كان يعيرهم بجبنهم عندما يطلب المبارزة منهم حسب قوانين الحرب في تلك الايام، حتى بلغ ان الروايات تقول انه خرج مع داوود نحو ثلاثة آلاف رجل ولما رأوا جنود جالوت خافوا وهرب أكثرهم للجبال المحيطة بموقع المعركة ولم يبق ويثبت مع النبي داوود حوالي ستمائة رجلا(!) {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} لأنهم ظنوا ان الغلبة للكثرة، والظن مصدر ذلك التوهم.
(9) القصة كما جاءت في التفاسير: وقصة قتله : خرج طالوت لملاقاة جالوت، وكان -جالوت- طوله ستة أذرع وشبراً ، وكان مسلحاً مدرعاً ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، بخلاف داود فقد كان صغيراً يرعى غنماً ، فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب ، فمرَّ في طريقه ، بحجر فناداه : يا داود خُذْني ، فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها ، وجعلها في مخلاته وسار،
فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز ، وكاع الناس عنه، (أي : تأخروا خوفاً)،
قال طالوت : من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي ، وأُحَكِّمُهُ في مالي
فجاء داود، فقال له طالوت : اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع! ،
فقال الناس : جَبُنَ الفتى
فقال داود: إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنـّي عليه، فلم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي .
وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع (القذافة)، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في السلاح،
فقال جالوت : أنت يا فتى تخرج إليّ!
قال : نعم
قال: هكذا كما تخرج إلى كلب!
قال : نعم ، وأنت أهون
قال : لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع
ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع ، وسَمَّى الله ، وأداره ، ورماه ، فأصاب رأس جالوت فقتله ، وجزّ رأسه ، وجعله في مخلاته ، واختلط الناس ، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة.
(10) وقال: ....وأودع أيضاً في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه... فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يُتوقع منه الضر، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك. ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرَطتْ أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضاً . وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف.
(11) أخرجه الشافعي في الرسالة 87 و 93 والأم 7/ 289 و 299 والبيهقي 7/ 76 والبغدادي في الفقيه والمتفقه 1/ 93 بسند حسن
(12) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الألباني، وروى الإمام مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة»
(13) حديث حسن أخرجه الدارقطني في " سننه " 4/ 184، والبيهقي في " سننه " 10/ 12 - 13، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن مكحولاً لا يصح له سماع من أبي ثعلبة