هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع هدي التمتع والقران ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم مشفوعاً بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:
هدي التمتع والقران
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395هـ من الموافقة على إعداد بحث هدي التمتع والقران فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثاً في ذلك مشتملا على الأمور الآتية:
أولاً: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثانياً: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثالثاً: الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة.
رابعاً: مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة.
خامساً: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة
سادساً: علاج مشكلة اللحوم في منى.
وبالله التوفيق، صلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أولا: ابتداء وقت الذبح
اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران، هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟
القول الأول:
يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية قال النسفي والزيلعي: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط وفي بداية المبتدي " ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر " وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية تركنا ذكرها اختصاراً.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيط- يرحمه الله -: أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوباً تاماً إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وقال ابن العربي: ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه، وقال الباجي: ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر، وقال المزني: فإن كان معتمراً نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق انتهى المقصود.
وقال الرملي: " ووقته أي وقت ذبح الهدي - كوقت ذبح الأضحية على الصحيح وصححه أيضا النووي والرافعي، وقال الفتوحي: ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل انتهى كلامه.
ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب: أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه. واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما الكتاب فمنه دليلان:
الأول: قوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة الآية 196]، وجه الدلالة ما ذكره الباجي - رحمه الله - بقوله: لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر ولا سيما على القول بدليل الخطاب ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا. ومما يدل على هذا حديث حفصة، وهو قولها يا رسول الله ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك فقال: ((إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر))[1].
وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة، ولو كان النحر مباحاً لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به.
ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية بأنها في الإحصار فإن قبلها قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار.
الثاني: قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، وجه الدلالة أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [سورة الحج الآية 29]، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ. ووجه الدلالة ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر.
وقد نوقش هذا الاستدلال بقول الجصاص- رحمه الله - " إذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟ وأجاب عن ذلك بقوله: " لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر وأحدها ثابت بالاتفاق وبدليل قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، والآخر ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط.
وأيضا فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان، أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر.
واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله - تعالى -قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196].
فلا يجوز تقديمه على الحج وأجاب عن ذلك بقوله: لا يخلو قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: ((الحج عرفة))[2] في أول أشهر الحج لأن الله قال: سورة البقرة الآية 197 الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به، لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه، وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [سورة النساء الآية 92]، دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))[3] لم يمنع جواز تعجيلها؛ لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج.
ثم نقده - رحمه الله - بقوله لم نجد بدلاً يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه، ولما كان الصوم بدلاً عن الهدي لم يجز تقديمه عليه.
وأجاب عن ذلك بقوله: هذا اعتراض على الآية؛ لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر. وأيضا فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل منه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه - تعالى -قال: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196]، فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر فإذا لم يجد الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه انتهى كلامه.
ونوقش الاستدلال بالآية على أن ثم للتراخي، فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه. وأجيب عنه بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة، فلو جاز الذبح قبل النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة كذلك.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله))[4] الحديث.
ولهما عن جابر - رضي الله عنه - قال: ((أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا: فقال يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم " قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج))[5].
ولهما عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: ((قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منيخ بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي))[6].
روى البخاري عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن متعة الحج فقال: ((أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وآتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا وعلينا الهدي كما قال تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196])).
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ بالحج صراخاً فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج))[7].
وروى البزار في مسنده عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا فهابوا ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت فحلوا حتى خلوا إلى النساء))[8].
وروى أبو داود عن أنس قال: بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بذي الحليفة حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء فحمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدم أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج نحر سبع بدنات بيده قياما))[9].
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أعظم الأيام عند الله - عز وجل - يوم النحر ثم يوم القر))[10]، قال ثور: وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ قال: فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفية لم أسمعها فقلت ما قال؟ قال من شاء اقتطع.
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن نسائه في حجه بقرة))[11].
وفي رواية قال: ((نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر))[12].
وروى البخاري ومسلم عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا؟ قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه))[13] قال يحيى: فذكرته للقاسم فقال: أتتك بالحديث على وجهه ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فلما دخلنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالت: وذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر يوم النحر))[14].
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال: اذبح ولا حرج ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: ارم ولا حرج فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج))[15].
وروى مسلم في صحيحه عن جابر- رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ((إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم))[16].
وروى مسلم عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((أهل النبي- صلى الله عليه وسلم - بعمرة وأهل أصحابه بالحج فلم يحل النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم))[17].
وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- قالت: خرجنا محرمين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه هديه فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحل))[18] فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل.
وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر- رضي الله عنه - أنه قال: ((أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال: فقلنا: يا رسول الله حل ماذا؟ قال: " الحل كله " فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية))[19]، الحديث.
وله أيضاً من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهللين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يكن معه هدي فليحل، قلنا: يا رسول الله أي الحل؟ فقال: " الحل كله "، قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج))[20]، الحديث.
وروى الإمام أحمد عن أنس- رضي الله عنه - قال: خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن نجعلها عمرة وقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة))[21].
وله أيضا عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي، قالوا: يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: نعم، وسطعت المجامر))[22].
وله أيضا وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة))[23].
قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: " انظروا ما آمركم به فافعلوا " فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع.
وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال: " إن الله - عز وجل - قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي))[24].
فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وأما الإجماع: فقد قال ابن عابدين: على قول صاحبي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: ويتعين يوم النحر أي وقته وهو الأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: فلم يجزئ، أي بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء.
وأما الأثر: فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس. وأما المعنى فقد ذكره ابن قدامة بقوله: إنما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة.
القول الثاني:
أنه يجوز قبل يوم النحر وهو منقول عن بعض المالكية، وبه قال الشافعي، وبعض أصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول لبعض أصحابه والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج.
وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها، ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها.
أ - نقل الأبي عن القاضي عياض- رحمه الله - في الكلام على قول جابر- رضي الله عنه - ((فأمرنا إذا أحللنا))، أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو إحدى الروايات عندنا أي المالكية، والأخرى أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعاً، والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى تقديم الزكاة على الحول، وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث لقوله: ((فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي))[25].
وقد ناقش محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الرهوني ما نقله الأبي عن القاضي عياض فقال:
وأما ما نقله ويعني أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى، على أن قوله وفي الحديث حجة لمن يجيز نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في الإكمال فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره ونصه وقوله للمتمتعين فمن لم يجد هديا فليصم (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196] نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة وهو قول مالك وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة وبدنة دون بدنة، وقيل المراد بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم وهذا عند مالك للحر والعبد إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده وله الصوم وإن كان واجدا الهدي ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج اهـ منه بلفظه.
ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي القاضي عياض) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة - رضي الله عنهم - على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج وكذا بعده مالك وأبو حنيفة خلافا للشافعي فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج.
يتبع