عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-10-2019, 05:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,933
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس من الحج في زمن التغيير

دروس من الحج في زمن التغيير
محمد بن عبد اللّه الخطابي



إنه التذكير بالانتصار على القوى العالمية الكافرة على يد الثلّة المؤمنة الصابرة، وهي الكلمات التي يُردّدها كلُّ عابد وكل عالم وكل مجاهد وتتناقلها الأجيال في كلاءة السناء، ولا ريب أنه مهما بلغ عتو الكافر وتجبّره وظلمه فإن النصر للموحدين الصادقين، بل لقد منَّ الله - سبحانه - بأنواع من النصر والتأييد في هذه العصور المتأخرة ما تعجز عنه ألسنتنا شكراً وتكلُّ عنه ثناء؛ حيث نشر الله مذهب السلف في الأسماء والصفات والأسماء والأحكام وغيرها من مسائل الاعتقاد، وكثُر الداخلون في الإسلام، وغدا للمسلمين من الهيبة والصولة ما لم يتحصل منذ قرن وأزيد من الزمان.

والملايين اليوم وهي تقف على الصفا صُعُداً يجب أن تعلم وأن توقن أن جند الله هم الغالبون، ولا بد أن تعلم وتتعلم علاقة النصر بالعبادة وعلاقة النصر بالشكر وعلاقة النصر بكمال التوحيد وتحققه في القلوب، ومن الدروس التي تغذوها عبر الحج ومواطن المناسك وترتبط في نفس كل مسلم وقلب كل مؤمن ذلك التسليم المطلق والتفويض العظيم لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة أم إسماعيل... كما ثبت في البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أن إبراهيم جاء بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قَفَّا إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟ فقالـت له ذلـك مـراراً وجعـل لا يلتـفت إليـها، فقاـلت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعــم! قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت)(5).

إنه منهج التسليم للنص، ونبذ الرأي، وطرد الخصومة في التشريع.. وهو الأساس الذي يقوم عليه المعتقد السلفي الصحيح، وهو القاعدة الأولى في الديانة، وعليه إجماع السلف، وإليه موئلهم، وعليه نَفَص الخارجون عن السنّة، وبتركه وقع أهل الأهواء في التبديل والبدعة.. ولذا اشتد نكير السلف وأتباعهم على من ترك الآثار وردّ النص. قال الإمام البربهاري: (إذا سمعت الرجل يطعن على الآثـار أو يردّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع)(6).

وقال إبراهيم النخعي: (لو أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مسحوا على ظفرٍ لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم)(7). وحين تشتد غربة المسلمين اليوم بكثرة من ينادون بالتجديد في الدين (بما يلائم العصر) وترك ـ ما يزعمونه ـ الرسوم التي عفت! (وخلا في الغابر أصحابها) ونبذ النصوص والخروج على فهم السلف لها، والدعوة إلى إيجاد فهم عصري للنصوص على غير أصول السلف، بل الدعوة للتجديد بالطمس والمسخ للعلوم المعيارية في الشريعة كأصول الفقه ومصطلح الحديث، ليتَقوَّض البناء، ويسقط عمود الفسطاط، ويتثلم الصرح.

حين تُزعج النفوس المؤمنة بتلك الأطروحات والندوات تجد في قصة أم إسماعيل وأمثالها الجلال والجمال والقدوة العطرة، ثم يعلم المسلم وهو يُقلّب نظره بين البيت وزمزم والصفا والمروة عِظم بركة (عبادة التسليم لله) وكبير ثوابه ـ - سبحانه - ـ وجزيل عطائه لمن تعبَّده بذلك، ألم ترَ أن الله جعل لأم إسماعيل الذكرى الخالدة والثناء الحسن ولسان الصدق في الآخرين إلى يوم الدين جزاء تسليمها للنص وتفويضها للأمر، فإذا بملايين البشر على ضوء الأمر الإلهي يخطون على خطاها، ويتخذون من طريقها بين الصفـا والمــروة مثابة تعبّــد وشعيـرة نُـسك؟ ولا يزال كذلك ما تعاقب النيّران وتقلب الجديدان، وإن عبداً بلغ من أمره أن يجعل الله من عَفْو فعله عبادةً ومنسكاً على طريقته وهيئته لذو قربى وزلفى عند الله - سبحانه -، وكل صاحب اتباع وتسليم ونبذ للرأي فله حظ من ذلك بحسبه، وله نصيب من هذا بقدره، والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

بل إن من عجيب ما في قصة أم إسماعيل أنها حين خالطت بتحويطها لزمزم وحرصها الفوت، وداخَلَ أمرَ زمزم مع أم إسماعيل صنعُ البشر وكسبهم، نَقَص من ذلك بقدر الحرص البشري، مع أنها لم تعترض على نص ولم تردّ سنة ولم تدفع شريعة، ولم تترك التسليم لأمر الله، لكنهـا كـانـت علـى حـالٍ لو كانت على أزكى منها ـ وهي الزكية البرة ـ لكان أعظم بركة وأجزل مثوبة، ليس لها فقط بل وللأمم والأجيال المتعاقبة بعدها. وانظر إلى هذا الحديث وهو يبين أثر ذلك في البركة والخيرية والزكاء؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فجعلت: «أم إسماعيل تحوِّضه ـ أي الماء ـ وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغــرف»، قـال ابـن عباس - رضي الله عنهما - : قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يرحم الله أم إسماعيـل، لو تركت زمزم ـ أو قال لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً»(1)، وعلى أصحاب الدعوات والإصلاح والتعليم والجهاد أن يعلموا أنه بقدر ما يخالط أعمالهم من ركونٍ إلى الرأي وترك للنص وبُعْدٍ عن منهج السلف ينقص بقدره من الفلاح والنُّجح والبركة، وكل صاحب دعوة فعليه أن يحتاط لنفسه ويحذر ويتقي، مخالفة التبديل في الأمر والانزلاق عن السنة ومنهجها، وتحرير طريق السلف في فقه الإنكار والتغيير والاحتساب على العِليّة وطرائق الدعوة والتربية، ووسائلها، ومعاملة المبتدع، وهجر المبدِّل، وأحكام أعوان الظَّلَمة، وضوابط المداراة، وحدود المداهنة، وغيرها مما يمس مناهج الدعوة والتربية والجهاد في هذا العصر، (جاء عن ابن المسيب أنه رأى رجلاً يكثر من الركوع والسجود بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة)(2). ومن لطيف ما يُذكر هنا أنهم كانوا يحرصون ـ - رحمهم الله - ـ على إخراج المبتدع من الثغر، وسلامة الجيوش الإسلامية في غزوها من البدع والمبتدعة لما تقرر لديهم من أثر البدعة في الخذلان، حتى: (روى ابن أبي عاصم عن علي بن بكار قال: كان ابن عون يبعث إليّ بالمال فأفرِّقه في سبيل الله، فيقول: لا تُعط قدريّاً منه شيئاً ـ وأحسبه قال فيه ـ ولا يغزون معكم فإنهم لا ينُصرون)(3).

وجاء في ترجمة العابد الزاهد أبي إسحاق الفزاري الثقة المخرّج له في الكتب الستة: «قال العجلي: كان ثقةً رجلاً صالحاً صاحب سنةٍ، وهو الذي أدّب أهل الثغر وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجلٌ مبتدع أخرجه»(4). وأعظم وأجلّ من قصة أم إسماعيل قصة أبي إسماعيل ـ رحمة الله وبركاته عليهم أهل البيت إنه حميد مجيد ـ إذ أُمر بذبح ابنه(5)، فاستجاب وسلّم وامتثل، ولبّى نداء ربه في التضحية الكبرى ولم يضن بابنه، ولم يتأخر في البذل، وقال عنه ربه: وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(6) [النجم: 37].

والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى مثل هذه الصفات الإبراهيمية من العلم بالله والدعوة إليه إلى تحطيم الأصنام، ثم الصبر على البلاء ومفارقة الأوطان، والثبات في التضحية في سبيل نشر دين الله ونشر السنة والدفاع عن أعراض المسلمين وحرماتهم.

والملايين التي تؤمّ وأمّت بيت الله وهي تقتدي بإبراهيم- عليه السلام - في رمي الجمار والذبح والأضاحي(7)، ينبغي أن تقتدي بإبراهيم ـ أيضاً ـ في مواطن الدعوة والتضحية والصبر، وهي تنظر إلى تلك الأماكن المباركة التي كان عليها أعظم مواقف التضحية والبذل في سبيل الله، فتجتهد إذاً في رفع الجهل والظلم والبدعة والفجور عن الأمة، وتحذر من تبديل المبدلين وتخذيل المخذلين، وتحذر أيضاً من قومٍ تزيّلوا عن طريق السلف في الدعوة ولم يمسكوا بعروة التسليم: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(8)[النحل: 9].

----------------------------------------
(1) البدع والنهي عنها (164).
(2) التمهيد ـ المرتب ـ (6/398).
(3) أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266).

(1) المدارج (414/1 ـ 415) دار طيبة.
(2) مجموعة التوحيد (25).
(3) من حديث هند عن أم سلمة: «استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: سبحان الله»، (البخاري: 115).
(4) المدارج (415/1).
(5) سبيل النجاة والفكاك (14).
(6) البخاري (67)، ومسلم (1218 ـ 1679).
(7) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/342).
(8) أخرجه البخاري (1684).
(9) الترمذي (2847)، والنسائي (2873) وصححه الضياء وابن حجر.
(10) أبو داود (1749).
(11) انظر: (زاد المعاد: 273/3)، (فتح الباري: شرح حديث (4252).

(1) البخاري (1589)، ومسلم (1314) عن أبي هريرة.
(2) انظر: فتح الباري: شرح حديث 3065، وشرح النووي: حديث 2875.
(3) الترمذي (869)، النسائي (2963).
(4) مسلم (1218)، عن جابر.
(5) أخرجه البخاري (3364).
(6) شرح السنة (51).
(7) الإبانة الكبرى (316/1).

(1) أخرجه البخاري (3364).
(2) التمهيد (92/5).
(3) السنة (88).
(4) تهذيب التهذيب (99/1)، وليس في هذا حكم عام في هذه المسألة بتفاصيلها، لكنه بيان لشأن السنة في الانتصار فقط، وانظر في هذه المسألة: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (212/28).
(5) ثبت في البخاري عن سفيان عن عمرو عن عبيد بن عمير: «رؤيا الأنبياء وحي»، ثم تلا هذه الآية: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].
(6) انظر: تفسير ابن كثير (30/7)، دار طيبة.
(7) انظر: الحديث بطوله في المسند (306/1).
(8) قال ابن عباس ـ - رضي الله عنهما - ـ: (ومنها جائر ـ هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة)، وقال مجاهد في قوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِطريق الحق على الله)، تفسير ابن كثير: (560/4)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]