الإتجاه المحافظ في الشعر إبان الحروب الصليبية
مسعد بن عيد العطوي
ويستعين القيسراني (478- 548هـ) بالتجانس لتلوين أسلوبه، وتكثيف لغته، وتنويع إيقاعه مما جعله يجلب منه [ألواناً يغلب عليها الأداء الجيد، فهي تحمل إيحاءً ودلالة وأحياناً تكمل المعنى فحسب، وتتبلور في قصائده فأورد أبو شامة له قصيدة عدد أبياتها واحد وخمسون بيتاً ورد التجانس في أربعة وعشرين منها[60].
ومن راهن الأقدار في صهوة العلى فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
وجللها نفعاً أضاع شياتها فلا شبهها شهب، ولا شقرها شقر
وتوجت ثغر الشآم منك جلالة تمنت لها بغداد لو أنها ثغر
والقيسراني يقل عدد أبياته في القصيدة الواحدة فيما نقله أبو شامة، ولكنها عند الإِحصاء تعطى مدلولاً، يقترب من قرينه ابن منير الطرابلسي كقصيدة القيسراني في تاج الملوك بوري عند انتصاره على الإِفرنج في عام 523هـ ومطلعها:
الحق مبتهج والسيف مبتسم ومال أعدا مجير الدين مقتسم
وبلغ عدد الأبيات التي نقلها أبو شامة اثنين وعشرين، الجناس منها تسعة أبيات[61].
وفي عام 539هـ فتح عماد الدين (الرها) فقال قصيدة أولها:-
هو السيف لا يفنيك إلا جلاده وهل طوق الأملاك إلا نجاده
وعدد أبياتها في الروضتين ثمانية وعشرون بيتاً بلغ الجناس أربعة عشرة بيتنا.
وله قصيدة في ذات المعركة هنأ بها القاضي كمال الدين الشهر زوري أورد صاحب الروضتين واحداً وثلاثين بيتاً منها عشرة أبيات تحوى تجانساً[62]. ومدح القيسراني نور الدين لما فتح انطاكية بقصيدة بائية أورد منها اثنين وخمسين بيتاً منها ثلاثة وعشرون تحوي تجانساً[63].
القيسراني اعتمد في بديعه على التجانس الذي يوظف الاشتقاق بتوليد الكلمات من بعضها ويتلاحم مع الجناس أحياناً، وأيضاً على التكرار ثم الجناس.
ونلحظ أن جناسه امتداداً لأولئك الشعراء العباقرة الذين حذوا حذوهم.
فقد اقتفى أثر أبي تمام في الوليد الألفاظ عن طريق الاشتقاق فهو يأتي بفرع الكلمة في البيت الواحد، وهو أيضاً نتيجة لمتطلبات العصر النقدية فالاتجاه النقدي يحبذ هذا الاتجاه وكان زعيم النقديين العماد الأصبهاني، الذي يشيد بأهمية الصنعة عند القيسراني[64].
ولنوازن بين قصيد الأنموذج السلف لأبي تمام وبعضاً من أبيات القيسراني لنرى معالم التوليد الاشتقاق:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب
حتى إذا مخض الله السنين لها مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
بسنّة السيف والخطيِّ من دمه لا سنة الدين والإِسلام فختضب
وانظر إلى القيسراني يقتفي أثر أستاذه وقدوته في قصيدته البائية التي عارض بها قصيدة أبي تمام:-
مازال جدك يبني كل شاهقة حتى ابتني قبة أوتادها الشهب
ضربت كبشهم منهما بقاصمة أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم طهارة كل سيف عندها جنب[65]
وقد أحصيت التجنيس في بائية أبي تمام فوجدت أن عدد أبيات القصيدة أثنان وستون بيتاً، والتجنيس منها بلغ أربعين بيتاً بينما قصيدة القيسراني بلغت اثنين وخمسين بيتاً وبلغ التجانس فيها ثلاثة وعشرين بيتاً.
ومن هنا ندرك أن زعامة التصنيع لأبي تمام، وأن القيسراني وصاحبه ابن منير يجريان في سياقاته، وبهذا نخالف ما قاله الدكتور عمر موسى باشا عن القيسراني بأنه (رائد من رواد مذهب التصنيع البديعي في هذا العصر)[66].
والذي أراه أننا لا نصف ابن الخياط والأرجاني، وابن منير، والقيسراني بالتجديد، ولا بقيادة التكلف، وإنما يوصفون باتباعهم، وهم شعراء لهم دورهم الفاعل ولهم شاعريتهم القديرة، ولهم إبداعهم المشرق وعليهم مآخذ كأي شاعر، فلا نصفهم بالريادة ولا بالعبقرية وإنما هم امتداد طبيعي للاتجاه البديعي، ومن هنا فإني خالفت أولئك الذين يصفونهم بالزعامة الإبداعية في البديع أو قيادة التكلف والجمود.
والتجانس عند عرقلة الكلبي يؤدي معنى، ويلون صوتاً.
من ذلك قصيدته في مدح علي بن نيسان بآمد:
أظباء وجرة كم بشطي آمد من ظبية كحلى وظبي أكحل
ومدلل ومذلل في حبه شتان بين مذلل ومدلل[67]
وعرقلة الكلبي شاعر معاصر للحروب الصليبية، قريب من ميادين الأحداث وشعره رقيق، وقد أكثر من التوليد فهو الذي يقول:
وبوجنتي ووجنتيه إذا بدا فرط وجدينا حياً وحياءُ
كيف الوصول إلى الوصال وبيننا بين ودون عناقه العنقاء
* * *
لله جيراني يجيرون ولي بلحاظهم وبهم ظبي وظباء
وكأنهم وكأن حمرة راحهم في راحهم، وهنا دمى ودماء[68]
فجانس في البيت الأول بين وجنتي وجنتيه، وحيا وحياء، وزاد في البيت الثاني، حيث تصاريف الاشتقاقات في ثلاث كلمات هي: الوصول، بيننا، عناقه، وتقارب التوليد في قوله: جيران وجيرون، وظبى وظباء في بيته الثالث، أما الرابع فكرر الجرس فيه في كأن، وراحهم وذمي.
ومنه قوله[69]:
تضاعف ضعفي بعد بُعد الحبائب وقد حجبوا عني قسيّ الحواجب
وقد أفلت تلك الكواكب لم تزل موكلة عني برعي الكواكب
وتكرير الكلمة يتبين في شعر عرقلة الكلبي في مثل قوله:
ميلوا إلى الدار من ذات اللمى ميلوا كحلاء ما جال في أجفانها ميل
فاستهل البيت بقوله: (ميلوا)، وبنى وسطه على مماثلة. ورد العجز على المقدمة في قوله: (ميل) التي يختلف معناها عن الميل والانحراف، وهو يولي الاشتقاق اهتماماً فيجعل القافية توليداً للكلمة التي تسبقها.
كأنما قدها رمح وميسمها صبح وحسبك عسال ومعسول
في كل يوم بعينيها وقامتها دمي ودمعي على الأطلال مطلول
إن يحسدوني عليها لا ألومهم لذلك جار على هابيل قابيل[70]
وأنت تشاركه الإِحساس بنمنمة الربيع في قوله:
رقم الربيع ربوعها فكأنها زنجية تختال فيها بالحلي
ويتجلى روعة تجانسه في ذابل ويذيل:
ويرد صدر السمهري بصدره ماذا يؤثر ذابل في يذبل
ومن تجانسه[71].
وكيف يكون لي صبر وفيه خلال صبرت جسمي خلالا
تصيدني الغزال بمقلتيه وقدما كنت أصطاد الغزالا
والتجانس عند أبي الفوارس يتأتى في تباعد بين الأبيات، ولم يلتزم به في المقدمة، أو في خاتمة القصيدة، وإنما يتخذ مكاناً حسب المضمون.
يقول في قصيدته الميمية التي قالها بمناسبة عزل شرف الدين علي بن طراد الزينبي وتولية شرف الدين أنو شروان بن خالد[72].
شكراً لدهري بالضمير وبالفم لما أعاض بمنعم عن منعم
فمنعم الأولى: الوزير علي بن طراد والثاني: أنو شروان.
وهو في البيت الثالث يأتي بالتكرار في شطره الأول:
خير الوداد وداد أفوه ناطق لعبت به الجلّى ولم يتصرم
والقصيدة مكونة من تسعة وستين بيتاً، ولم يأت التجانس إلا في اثنتي عشر بيتاً.
والتجانس الذي ورد فيها هو من باب التكرار في أغلبه مما يدل على أنهم أخذوا بمبدأ توليد الكلمة واشتقاقها أو توظيفها مرة أخرى حيث تضيف مدلولاً جديداً.
ومثلها قصيدته في شرف الدين الوزير علي بن طراد الزينبي[73]، وهاتان القصيدتان نموذجان، ويشاكلهما الكثير من قصائده.
وأسامة بن منقذ الذي نهج سبيل الأوائل في الشعر، ولم يغرم بالجناس، وسائر المحسنات البديعية، وهو من أولئك الذين روضوا اللغة وولدوا اشتقاقاتها ووظفوها للحديث الوجداني في قدرة اشتقاقية رائعة.
فهاهو يكرر كلمة نهج في البيت الأول، أما الثاني فيأتي نغم (لجة) في إيحاء دلالي شعوري، ويزيد المعنى إشراقاً وإيحاءاً تكرار (لجوا) في ختام البيت حيث الأعماق السحيقة للعاشقين التي تستشرف أهوال ظلمات البحر ومخاوفه.
ونجده كذلك يكرر تمني النجاة في البيت الثالث:-
وقائلٍ رابهُ ضَلالي عن نَه جي والحبُّ مالَهُ نهجُ
ويحَ بني الوجد كلَّما عُذِلُوا في خَوضِهم لُجَّةَ الهوى لجوا
علَّكَ تنجو منهم، فقلت له إياك عني، حاشاي أن أنجو[74]
وقوله:
ذَكَرَ الوفاء خيالُك المُنتابُ فألم وهو بُودنا مرتاب
نفسي فداؤك من خيالٍ زائرٍ مُتعتبٍ عندي له الاعتابُ
مُستشرِفٍ كالبدر خلفَ حجابهِ أو في الكرى أيضاً عليك حجاب!
أنكرت هجري، والزمان بجوره يقضي بأن يتهاجر الأحباب[75]
فتراه يستخدم التكرار والاشتقاق في هذه الأبيات ماعدا البيت الأول حيث قارب التلوين الصوتي بين المنتاب ومرتاب.
وهذا اللون القريب من التجانس يكثر في شعر أسامة بن منقذ، غير أنه لا يظهر منه التكلف والتعسف له.
والتجانس عند أسامة بن منقد ليس فيه تكلف، ولا صنعة، وإنما يأتي نتيجة توظيفه للمعنى القريب، ويبدو أنه لا يسعى إلى تلوين صوتي من ورائه.
وقد أحصيت التجانس، بألوانه من تكرار وجناس في قصيدته الميمية التي تبلغ أبياتها تسعة وخمسين بيتاً، كان عدد التجانس فيها سبعة عشر بيتاً، يميل الكثير منها إلى التكرار ومن ذلك قوله[76]:
ونالهم من توالي سُحب ناثلة ما نال نبت الثرى من وابل الديم
ولئن ظهر هذا البيت أكثر عناية من غيره، فانظر إلى يسره وعفويته في قوله:
يرى الضغائن في قلب الحسود له تدب مثل دبيب النار في الفحم
ومثله:
جرت لطافته من قلب سامعه مجرى الهوى من فؤاد المغرم السدم
يزيد سامعها تكرارها شغفاً بها وكم جلب التكرير من سأم
وقد استعرضت رائيته الرائعة التي تبلغ تسعين بيتاً فلحظت بعده عن الإِغراق فيها، أو جلبها، أو الحرص على ترصيع قصائده بها ومن التجانس القليل عنده:
فأيماننا في السلم سحب مواهب وفي الحرب سحب وبلهن دم هَمِر
قضت في بني الدنيا قضاء زمانها فسر بها شطر وسيء بها شطر
ويصف إقدام المجاهدين فيقول:
نواصلهم وصل الحبيب وهم عِدا زيارتهم ينحط عنا بها الوزر[77]
والتجانس تختلف كثافته في دار الخلافة عنها في ميادين الحروب الصليبية، فالشعراء يعبثون بالألفاظ، ويجدون فسحة للصنعة الشعرية بعيداً عن الحروب.
فهذا العماد الأصفهاني عاش بالقرب من دار الخلافة، وصحب قادة الجهاد، ولما نقارن بين قصائده نجده يكثر من التجانس في قصائده الأولى كقصيدته التي مدح بها عضد الدولة، أبياتها خمسة وستون بيتاً تحتوي على التجانس بألوانه، ماعدا سبعة عشر بيتاً[78].
أما قصيدته في صلاح الدين التي تضم ستة وستين بيتاً فإن التجانس أكثر من النصف فيها، فقد تجاوز ثلاثة وثلاثين بيتاً[79].
ومن الشعراء الذين زامنوا صلاح الدين الأيوبي الشاعر عبدالمنعم الجلياني 531- 603هـ وقد صحب صلاح الدين في حروبه وله قصائد قبل فتح بيت المقدس يستحثه فيها لفتحه، وتسمى المبشرات، وأخرى بعد الفتح وتسمى القدسيات ((لم أزل أتابع ذكر غزواته – أي غزوات صلاح الدين، وقرائن أحواله بأصناف المنظوم، والمدبج، والمسجوع، ثم توالت حروبه وفتوحه في الساحل، فعبرت عنها بالقصائد القدسيات))[80].
وهذا الشاعر المغربي الذي التحق بديوان صلاح الدين الأيوبي، يمثل الاتجاه الذي لم يتأثر بالبديع فالقارئ لديوانه (المبشرات والقدسيات) يدرك عدم تأثر الجلياني بالاتجاه نحو التجانس والتقابل والتورية، وغيرها، فلم يحرص على تدبيج شعره بالمحسنات رغم تسميته ديوان شعره في صلاح الدين (ديوان التدبيج)[81] وقد انتقيت عدداً من قصائد الديوان الآنف الذكر، وأحصيت ما فيها من تجانس وتقابل، ومنها قصيدته الرائية التي سماها (القصيدة الفتحية الناصرية) التي بلغت اثنين وثلاثين بيتاً[82].
والتجانس فيها لم يتجاوز ثلاثة أبيات. والتقابل فيها بيتان فقط، وقصيدته الدالية في فتح بيت المقدس المكونة من واحد وأربعين بيتاً، التجانس فيها في سبعة أبيات فقط، والتقابل في ثلاثة[83].
و(مدبجة رهان الأذهان) الرائية في ذكر صلاح الدين الأيوبي التي بلغت ستين بيتاً يندر فيها التجانس والتكرار والتقابل، فلم أعثر على التجانس إلا في بيتين فقط، والتقابل في بيت واحد[84].
وميميته (المبسوطة الميمية) بلغت ستة وثلاثين بيتاً فيها تجانس واحد وتقابلان ولعلنا ننتقي منها شاهداً[85]:
ومَن ليلهُ فكر وصدق عنايةٍ تناهي ليحيي أمة مستدامةُ
فإن أظلم الإِسلام أشرق منك ما أجال به شمسا فذاب ارتكامه
فبالصدق ينقاد الملوي مسابقا بطاعته والفتح مُرخى زمامُهُ
وما وارثُ الأملاك غيرُ أخي وغى أفاض يداً يعلو الأنام حسامُهُ
وابن عُنين 549- 630هـ الذي عاش (متزامنا) مع تألق الكناية الفنية عند القاضي الفاضل، (ومتزامنا) مع العماد الأصبهاني، وابن سناء الملك اللذين أُخِذَ عليهم الإِكثار من التجانس، وألوان البديع الأخرى – تجد أن ديوانه مصنف إلى المدائح، والحنين إلى دمشق، والرثاء، والهجاء، والدعاية والفخرية، والألغاز، وجميع هذه الأبواب يندر فيها الإِلحاح على استجلاب البديع، بل تندر الصنعة أيضاً وبينهما فرق كبير.
وقصيدته الرائية التي تصدرت الديوان في مدح العادل يستأذنه في العودة إلى دمشق لاتكاد تعثر فيها على التجانس، أو تقابل، أو أي لون من ألوان البديع[86].
وقصيدته اللامية في مدح الأشرف موسى بن الملك العادل المكونة من ستة وثلاثين بيتاً، ليس فيها من التجانس إلا خمسة أبيات، وخمسة أخرى في التقابل[87].[88]
وقصيدته في الملك المعظم بلغت واحداً وثلاثين بيتاً، حوت ستة أبيات في التكرار[89].
وقصيدته البائية في المعظم بلغت واحداً وثلاثين بيتاً، جاء التكرار في ثلاثة أبيات منها[90]، وقريب من هذا جميع قصائد الديوان، والذي ألحظه أن التكلف لم يكن في الموضوعات الجادة، ومواطن الإِنشاد، ولا يظهر التكلف حتى في باب الألغاز والأحاجي.
فهذا ابن عُنين الشاعر المشهور الذي يمثل مرحلة وسطاً بين القرنين السادس والسابع، ومتأخر في عهد الحروب الصليبية، نجزم بنأيه عن التكلف لألوان البديع (نتيجة إحصاء ديوانه)، بل إنه أقل من الجيل السابق له كابن منير الطرابلسي، والقيسراني، ولا يقترب من العماد الأصبهاني، وابن سناء الملك.
وهذا يحتم علينا أن نقول: إن الأحكام التي اتسمت بالشموالية ووسمت العصر بالتكلف والانجراف وراء البديع يجانبها الصواب.
ومن المعاصرين لابن عُنين بهاء الدين زهير غير أنهما في اتجاهين مختلفين من ناحية موضوعات شتى، فالحياة الجادة عند ابن عُنين ونفسيته التي جابت الآفاق مشردة تمارس التجارة، تعيش رغد العيش أحياناً. وتتلوى سغباً أحياناً أخرى، تلك الحياة أضفت ظلالها على شعره الذي يميل إلى القوة، والجزالة وموضوعات المدح والوصف، مع تعهده لشعره بالتثقيف والتنقيح إلا أنه ظهر لنا بمنأى عن الصنعة البديعية كما ظهر ذلك من خلال الإِحصائية السابقة، وربما أن تلك الظروف كانت تشغله عن التصنع البديعي.
لكن إذا انتقلت إلى بهاء الدين زهير (581- 656هـ/ 1185- 1258م).
ذلكم الذي يذوب رقة، ويندفع شعره عفوية ويكثر من الأوزان الخفيفة، ويستخدم ألفاظاً وأمثالاً دارجة، وأكثر موضوعاته ذاتية، وقليل منها مدائح، وكلها تتأطر بالرقة، ومع أن هذه الصفات تنجذب إلى الصنعة البديعية إلا أن ديوانه يكاد يخلوا من تعمد البديع أو الإِكثار منه إلا ما جاء عفو الخاطر كغيرة من الشعراء الأوائل كمثل قصيدته القافية في مدح الصاحب صفي الدين المعروف بابن شكر المكونة من ثلاثين بيتاً، فإن التجانس الصوتي فيها لا يتجاوز خمس مرات[91].
وقصيدته في مدح السلطان الصالح نجم الدين أيوب عام 622هـ تعد من أطول قصائده ومع ذلك فإن التجانس (التكرار والجناس) لم يتجاوز خمسة أبيات وأقل منه التقابل[92].
ومثل ذلك قصيدته (جنة الحسن) في الرحيل عن مصر فإنها تكاد تخلو من التكرار أو الجناس معاً[93].
يتبع