
07-10-2019, 03:23 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,463
الدولة :
|
|
رد: هل يصلح أن نتعلم الإيمان قبل القرآن؟
كيف يتقدَّم جانب الإيمان في تعليم الكبار؟ ولماذا؟
أما الإنسان الراشد البالغ، فخير منهج يتَّبعه في طلب العلم هو المنهج المشار إليه في حديث جندب؛ حيث يهتم بجوانب الفهم الذي يؤدِّي إلى الإيمان.
ولهذا حين أورَدَ ابنُ مفلحٍ (ت 763هـ) كلامَ أحمدَ بنِ حَنبلٍ في إرشاده السائلَ إلى البدء بتعليم ابنه القرآن، ثم ذكَر كلامًا لعبدالله بنِ المبارك (ت 181هـ) يخالِف ذلك التوجيه، علَّق عليه بقوله: "وَكَلَامُ أَحْمَدَ واللهُ أَعْلَمُ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَاَلَّذِي سَأَلَ ابْنَ الْمُبَارَكِ كَانَ رَجُلًا؛ فَلَا تَعَارُضَ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَيُقَدِّمُ حِفْظَ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُمْكِنُ إدْرَاكُهَا وَالْفَرَاغُ مِنْهَا فِي الصِّغَرِ غَالِبًا، وَالْعِلْمُ عِبَادَةُ الْعُمُرِ لَا يُفْرَغُ مِنْهُ؛ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ أَوْلَى لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِصُعُوبَتِهِ وَقِلَّةِ مَنْ يَعْتَنِي بِهِ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا يُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُهُ، وَلَا يُقَصِّرُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِحِفْظِهِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ فِي الْعِلْمِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ"[20].
وأَولى تلك العلوم بالنسبة للبالغ الراشد: هو علم العقيدة، ولذا جاء في الحديث قوله: "نتعلم الإيمان"، والمقصود بالإيمان: علم العقيدة، وهو الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، والبعث، وما يتفرع عن ذلك من عقائد الإسلام، ولا يكون ذلك دون تفكُّر؛ فالإِسْلامُ فِكْرَةٌ، والإِيمانُ يَقِينٌ، والإِحْسانُ عَمَلٌ، وكُلَّما اتَّسَعَت الفِكْرَةُ وَتَعَمَّقَتْ زَادَ اليَقِينُ وَثَبَتَ ورَسَخَ، وَكُلَّما زَادَ اليَقِينُ كانَ دافِعًا إِلى مَزِيدٍ مِن العَمَل، وَكُلَّما زَادَ العَمَلُ تَفَتَّحَت العُقول لِمَزِيدٍ مِن التَّفْكِيرِ، حتَّى تَعودَ الدائِرَةُ وتستمرَّ، وهي التي تترتَّب عليها زِيادةُ الإِيمان أو نُقْصَانه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ï´¾ [محمد: 17]، فالهداية إلى الفكرة (إسلام)، والزيادة في الهدى (إيمان)، والتقوى (إحسان).
فلذلك قال جندب: "ثم تعلَّمْنا القرآن فازدَدْنا به إيمانًا"، وهذا مِصداق قَوْله تَعَالَى: ï´؟ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ï´¾ [الأنفال: 2]، ففيها إشارة إلى أن القراءة والحفظ سببٌ في زيادة الإيمان؛ لأنها توسِّع مدارك الإنسان، وتزيده إعمالًا لفِكرِه فيما يتعلَّمه، فينتج عن ذلك المدارَسة والبحث عن الحقائق، ثم يعقبها الإيمان واليقين والاعتقاد الجازم بما توصَّل إليه من نتائج تلكم الدِّراسة، وهذا الإيمان الذي بات يتمتَّع به هو الذي سيدفعه إلى العمل الصالح النافع.
ومن ذلك قوله تعالى: ï´؟ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ï´¾ [هود: 17]، قال أبو العباس ابن تيمية (ت 728هـ): "قَوْلهُ: ï´؟ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ï´¾ يَعْنِي هُدَى الْإِيمَانِ، ï´؟ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ï´¾؛ أَيْ: مِن اللَّهِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْ اللهِ يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيَتْبَعُهُ، وَقَالَ: ï´؟ يَتْلُوهُ ï´¾؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ"[21].
ومما يشهد لحديث جندب ويُجَلِّي معناه: ما ورد عن عدد من الصحابة الذين كانوا بعمر الشباب في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ مِن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: "لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنا وَأَحَدُنَا يُؤتَى الْإِيمَانُ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَآمِرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ نُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا، كَمَا تَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، وَلَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقل"[22].
وقال أيضًا: "إنَّا كُنَّا صُدُورَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ وَصَالِحِيهِمْ مَا يُقِيمُ إلَّا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ شِبْهَ ذَلِك، وَكَانَ الْقُرْآنُ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ وَرُزِقُوا عِلْمًا بِهِ وَعَمَلًا، وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الصَّبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ قَالَ لَا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ الشَّيْءَ"[23].
وجاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "إنَّا آمَنَّا وَلَمْ نَقْرَأْ الْقُرْآنَ، وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُؤْمِنُونَ"[24].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إنَّا صعُب علينا حفظُ ألفاظ القرآن، وسهُل علينا العملُ به، وإن مَن بعدَنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به"[25].
وقال أبو عبدالرحمن السُّلَمي (ت 74هـ): "حدَّثنا مَن كان يُقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، ولا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العمل والعلم، قال: فعلمنا العمل والعلم"[26]، ففي هذا الخبر دلالة على الجمع بين الخيرَين مع التركيز على تعلُّم الإيمان، وأنه أولى بالوقوف عنده والاهتمام به.
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"[27]؛ فيقول ابن تيمية أن المراد به: "تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيه جَمِيعًا، بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيه هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ؛ كَمَا قَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِالله، وَعَبْدُالله بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمَا"[28].
وهل يبلغ الإيمانُ كمالَه؟
نعم، يبلغ؛ فإن طالبَ العلم إذا بدأ بتعلُّم الإيمان، ثم القرآن، ازدادَ إيمانًا - كما سلف تقرير ذلك عن الصحابة - وهذه الزيادة تستمر حتى تبلغ الكمال.
وقد جاء في وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه "كان خُلقه القرآن"[29]، وهو ما يشير إلى أن تعلُّم القرآن والتخلُّق به يؤدي إلى الكمال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "أَكْمَلُ اَلْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا"[30]، وفي الحديث الآخَر: "إن مِن خِيارِكم أحسنَكم أخلاقًا"[31].
قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ (ت 130هـ): "الْإِيمَانُ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ ضَعِيفًا ضَئِيلًا كَالْبَقْلَةِ؛ فَإِنْ صَاحِبُهُ تَعَاهَدَهُ فَسَقَاهُ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّغَلَ، وَمَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَنْمُوَ أَوْ يَزْدَادَ، وَيَصِيرَ لَهُ أَصْلٌ وَفُرُوعٌ وَثَمَرَةٌ، وَظَلَّ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَإِنْ صَاحِبُهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَهُ عَنْزٌ فَنَتَفَتْهَا أَوْ صَبِيٌّ، فَذَهَبَ بِهَا وَأَكْثَرَ عَلَيْهَا الدَّغَلَ، فَأَضْعَفَهَا أَوْ أَهْلَكَهَا أَوْ أَيْبَسَهَا، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ"[32].
ختامًا، نخلُص إلى أن تعلُّم الإيمان المجمَل ورسوخه في النفس، قبل تعلُّم تجويد القرآن وحفظه، وما فيه من علوم مفصَّلة، هو منهَجٌ نبويٌّ، ولكن يُستثنى الأطفال من هذا المنهج؛ حيث تكون العناية في تعليمهم بالتلقين والتحفيظ، وأوْلى ذلك بالعناية هو القرآن خاصة، واللغة عامة، كما أن التلقين غير مقتصر على المنطوق باللسان، بل هو عام يشمل الأفعال والسمت الحسن.
وأما البالغ الراشد الشاب، فإنما يعتني بتعلُّم أصل الإيمان؛ (أي العقيدة)، ثم يتعلَّم القرآن ليزداد إيمانًا، ويستمر في هذا التعلُّم والتزوُّد، حتى يصبح القرآن خُلقًا له، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبلغ كمال الإيمان بهذا الخُلق، فاللهم ارزُقنا صحةَ الإيمان، وثبِّتنا عليه، وزِدنا منه، ووفِّقنا لكماله.
[1] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 221)، وابن ماجه في سننه (61)، والطبراني في المعجم الكبير (2678)، وغيرهم، وإسناده صحيح.
[2] غريب الحديث، للحربي (3/ 944).
[3] تهذيب اللغة، للأزهري (14/ 233).
[4] تهذيب اللغة، للأزهري (14/ 233).
[5] تهذيب اللغة، للأزهري (14/ 233).
[6] الصحاح (6/ 2451).
[7] رواه البيهقي في السنن الكبرى (5292).
[8] يُنظَر: تهذيب اللغة، للأزهري (8/ 136).
[9] يُنظَر: جمهرة اللغة، لابن دريد (2/ 1188).
[10] يُنظَر: تهذيب اللغة، للأزهري (4/ 207)، نقلَه عن ابن السكيت.
[11] الكامل في اللغة والأدب، للمبرد (1/ 211).
[12] رواه البخاري (4302).
[13] يُنظَر: طبقات الشافعية، لابن كثير (1/ 21).
[14] يُنظَر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (13/ 110).
[15] يُنظَر: العلْم، لابن عثيمين (ص35).
[16] يُنظَر: الآداب الشرعية، لابن مفلح (2/ 33).
[17] يُنظَر: التربية الإسلامية، لمحمد منير مرسي (ص315).
[18] رواه البزار بهذا اللفظ عن أبي هريرة (9823)، وهو عند أحمد عن جَدّ عمرو بن شعيب (11/ 36)، وأسانيدهما صحيحة.
[19] وهنا فائدة: وهي أن ضرْب الأطفال في الشريعة الإسلامية ممنوع غير مشروع، إلا في سن متقدمة وفي حالات تقتضيه ولا تقتضي غيره، ولغاياتٍ تأديبية بحتة، لا بدافع الغضب ومشاعر العصبية وضيق الخُلق، ولذا يُلاحَظ أنه ذُكِر في هذا الحديث بعد سنوات من تعليم الطفل قضية واحدة وهي الصلاة، والتي تتكرر في اليوم خمس مرات في ثلاث أو خمس سنوات، وبطُرق وأساليب متنوعة، ثم إذا بلغ رشده ولم يستجب بعد كل هذا التعليم والتأديب، لمْ يبقَ من علاجٍ سوى الضرب، فيكون بشَرْطِه، فلا تقبيح فيه، ولا تبريح، ويكون أثره إيجابيًّا لا سلبيًّا.
[20] الآداب الشرعية (2/ 33).
[21] مجموع الفتاوى (15/ 17).
[22] رواه البيهقي في السنن الكبرى (5290)، والحاكم في مستدرَكه (101)، وصححه، ووافقه الذهبي.
[23] رواه الطبري في تفسيره (1/ 39).
[24] أخرجه الهروي في كتابه ذم الكلام (1457).
[25] رواه الطبري في تفسيره (1/ 40).
[26] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (29929).
[27] رواه البُخارِيّ (5027).
[28] مجموع الفتاوى (13/ 303).
[29] رواه مسلم (1773).
[30] حديث صحيح، رواه أحمد (2/ 472)، وأبو داود (4682)، والترمذي (1162).
[31] أخرجه البخاري (3559)، ومسلم (2321).
[32] مجموع الفتاوى (7/ 225).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|