وحول هذا المعنى العظيم الجلل يحكي زيد بن أرقم رضي الله عنه:
كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي البَيْتِ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ï´¾ [المنافقون: 1]، فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ))[9].
ظ¢- أن نعمل جاهدين على تأمين عباد الله من العدوان والسوء: حتى نكون مؤمنين حقًّا، وحتى يؤمِّننا الله في أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن نحب، فالمؤمن ينبغي أن يعمل جاهدًا على أن يعيش مَنْ حوله في أمن وأمان، وسِلْمٍ واستقرار؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ مَنْ أمَّنَه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))[10].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))؛ أي: أذاه وشره[11]؛ بل حرَّم الإسلام أدنى فعل يعبث بالأمن والاستقرار، وحذَّر من كلِّ عملٍ يبثُّ الخوف والرعب والاضطراب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّعَ مسلمًا))[12]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده؛ فيقع في حفرةٍ من النار))[13].
ظ£- أن نأخذ بالأسباب الشرعية للأمن:
الأمن، وما أدراك ما الأمن؟! أملٌ تنشده كلُّ أمةٍ، ومقصدٌ عظيمٌ شُرع له من الأحكام ما يكفله، ويدرأ المساس به؛ ذلك لأنه إذا اختلَّ نظام الأمن واخْتُرِق سياجُه فكم تقع حينئذٍ من الفتن العريضة والشرور المستطيرة؛ إذ لا تأتي زعزعة الأمن إلا بسفك الدماء، وقتل الأبرياء، وتناثر الأشلاء، وإثارة الفتن العمياء، والجرائم الشنعاء، والأعمال النكراء؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنًا في سِرْبه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))[14]؛ ومن هنا كان لزامًا على مَنْ رامَ الأمن وتطلَّع إليه أن يستعين بالمؤمن جلَّ جلاله، آخذًا بأسباب الأمن.
أســـــــباب الأمــــــن:
ظ،- تحقيق العبودية لله وإخلاصها له سبحانه، وعدم الإشراك به شيئًا؛ قال تعالى: ï´؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ï´¾ [النور: 55]، ففي ظل الأمن تحلو العبادة، وتطيب الحياة، ويصير النوم سباتًا، والطعام هنيئًا، والشراب مريئًا، قال عزَّ من قائل: ï´؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ï´¾ [الأنعام: 82].
والمعنى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، لهم من الله الأمن والهداية.
فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ï´؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ï´¾: شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: ï´؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ï´¾ [لقمان: 13]))[15]، فالذي صحَّ توحيده وصفَتْ عقيدتُه، له أمنان وهدايتان: أمنٌ في الدنيا، وأمنٌ في الآخرة، وهدايةٌ في الدنيا، وهدايةٌ في الآخرة.
أمنٌ في الدنيا: بقرار قلبه واستقراره، وأمنه على نفسه وماله وعرضه بإذن الله.
أمنٌ في الآخرة: من الفزع والأهوال، ومن دخول النار، ألم يكن مصرًّا على الكبائر، ومن الخلود فيها إن كان مصرًّا عليها.
هدايةٌ في الدنيا: إلى ما فيه صلاح دينه ودنياه.
وهداية في الآخرة: إلى منزله في الجنة، كما قال تعالى: ï´؟ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ï´¾ [محمد: 6].
فتوحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وطاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، من أعظم أسباب حلول الأمن على النفس والأهل والمال والوطن، ومتى اختلَّ شيءٌ من ذلك، اختلَّ شيءٌ من الأمن؛ قال عز من قائل: ï´؟ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [الأنعام: 48].
قال السعدي: أي من آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وأصلح إيمانه وأعماله ونيَّته فلا خوف عليهم فيما يستقبل ولا هم يحزنون على ما مضى[16].
وقال سبحانه: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [البقرة: 277].
وقال عزَّ من قائل: ï´؟ فَمَنِ اتَّقَىظ° وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون ï´¾ [الأعراف: ظ£ظ¥].
ظ¢- أن نُحكِّم شريعة الله تعالى في أنفسنا وأهلينا ومن حولنا، فممَّا لا يرتاب فيه مؤمن أن أعظم سبب لزعزعة الأمن؛ التولِّي عن تحكيم شريعة الله تعالى، فمنذ قرنٍ أو أكثر، والمجتمعات المسلمة تعيش حالةً من البأساء والضرَّاء وتفرُّق الكلمة ما الله به عليم، وما ذاك إلا بسبب الإعراض عن شريعة رب العالمين.
ألا وإن من علامات تحكيم الشريعة وأماراتها: الحرص على ردِّ كل تنازعٍ في أمور الدين إلى الوحيين الكريمين والأصلين العظيمين: الكتاب والسنة، كما قال جلَّ جلاله: ï´؟ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ï´¾ [النساء: 59].
ويتبع هذا الأصل: أن يرجع الناس وخاصةً في أزمان الفتن إلى علماء الشريعة الراسخين الذين ينظرون إلى الأمور بمنظار الشريعة، فيأتون بالفهم الدقيق، والاستنباط العميق؛ قال جل جلاله: ï´؟ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ï´¾ [النساء: 83].
ظ£- الاعتصام بحبل الله (أي: بكتابه) والاجتماع على دينه، والتعاوُن على البرِّ والتقوى، والتخلِّي عن حظوظ النفس وسفاسف الأمور.
قال عز من قائل: ï´؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [الأنفال: 46].
وقد قال تعالى: ï´؟ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ï´¾ [آل عمران: 103].
ظ¤- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء؛ لئلا يفسدوا في الأرض، فيختل الأمن بسببهم، لمن أعظم واجبات هذا الدين، ولو طُوِيَ بساط هذا الواجب، لفشت الجهالة، وانتشرت الضلالة واستشرى الفساد، وهلك العباد، ولم يشعروا بهلاكهم إلا يوم التناد.
فالنجاة من المصائب والفتن، واستبقاء الأمن إنما يكون بنشر الخير في الأرض، ونهي أصحاب الشر عن شرِّهم، وألم يحصل ذلك، عمَّ ضررُهم؛ ولهذا قال الله تعالى: ï´؟ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ï´¾ [هود: 117].
ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلًا في النجاة من العقوبات الإلهية الرادعة.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا حين قال: ((مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا))[17].
5- الإنفاق في سبيل الله، وطاعته، بلا مَـنٍّ ولا أذًى:
قال تعالى: ï´؟ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [البقرة: 262].
شــكـرُ الـنِّـعـم:
قال تعالى: ï´؟ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ï´¾ [النحل: 112].
ظ¤- أن ندعو الله باسمه (المؤمن):
بأن يذكر الداعي الاسم كوسيلة لتحقيق مطلبه، فيدعو به المظلوم على اعتبار أن معنى المؤمن هو المجير، ويدعو به الصادق إذا كذَّبه الناس، أو افتروا عليه، ويدعو به أيضًا من يرجو نعمة ربِّه، ويخاف عذابه، وأن يؤمِّنه في الدنيا والآخرة[18].
[1] الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي، وفتح القدير؛ للشوكاني.
[2] رواه الطبراني والحاكم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
[3] رواه الطبراني والحاكم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
[4] عمدة القارئ.
[5] تفسير ابن كثير.
[6] زاد المسير؛ لابن الجوزي.
[7] رواه أحمد في المسند عن عائشة، وانظر: صحيح الجامع.
[8] رواه البخاري.
[9] رواه البخاري.
[10] رواه أحمد وابن حبان، وصحَّحه الألباني في الصحيحة.
[11] رواه البخاري.
[12] رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
[13] متفق عليه.
[14] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
[15] رواه البخاري.
[16] تفسير السعدي.
[17] رواه ابن ماجه والحاكم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
[18] أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة؛ الرضواني.