عقيدة السلف في رؤية الله تعالى (أدلة وفوائد)
محمد علي الغباشي
فائدة4: رؤية الله جل وعلا في الدنيا وإن كانت جائزة عقلًا لكنها غير واقعة شرعًا:
قال في شرح الطحاوية: (وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة؛ إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام)[25].
وقال النووي رحمه الله مبينًا هذا المعنى: (أما رؤية الله في الدنيا، فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا)[26].
وقال شيخ الإسلام: (وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها، ضعُف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خرَّ موسى صعقًا؛ قال: سبحانك تبتُ إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيده الله كما أيَّد نبينا صلى الله عليه وسلم))[27].
فائدة5: إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا على ثلاثة أقوال[28]:
القول الأول: من أثبت الرؤية مطلقًا:
واستدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما:(أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم)[29].
وعنه أيضًا في قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 13، 14]، قال: (رأى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى)[30].
القول الثاني: من قيدها بالرؤية القلبية:
واستدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾، قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بقلبه)[31].
وعنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين[32].
القول الثالث: من نفى الرؤية مطلقًا:
واستدلوا بقول عائشة رضي الله عنها عن مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة رضي الله عنها، فقالت: (ثلاث من تكلم بواحدة منهنَّ، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدًا رأى ربه، فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئًا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: 23]، ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾، فقالت: (أنا أول هذه الأمة، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103]، أو لم تسمع أن الله يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51].[33].
وبقول ابن مسعود رضي الله عنه عن زر بن عبدالله بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾، قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، له ستمائة جناح)[34].
وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا بقوله: (ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه)[35].
وقال أيضًا رحمه الله: (وأما الرؤية، فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، والألفاظ الثابثة عن ابن عباس هي مطلقة، أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول: "رأى محمد ربه"، وتارة يقول: "رآه محمد"، ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح أنه رآه بعينه... وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنَّى آراه".
وقال ابن كثير رحمه الله: (وفي رواية عنه - يعني ابن عباس - أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم) [36].
وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له: إجماع الصحابة على أنه لم ير ربَّه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك، وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل: رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين؛ حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل، ولم يقل: بعيني رأسه، ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما، ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((حجابه النور))، فهذا النور هو والله أعلم النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((رأيت نورًا)) [37].
وقال ابن القيم في (الهدي) منكرًا على مَن زعم أن أحمد يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعيني رأسه؛ حيث قال رحمه الله: ((ولكن لم يقل أحمد رحمه الله: إنه رآه بعيني رأسه يقظةً، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحُكِيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة مِن تصرُّف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك)) [38].
فائدة6: إثبات رؤية الله جل وعلا في المنام على ثلاثة أقوال[39]:
القول الأول: جواز رؤية الله تعالى في المنام، وهو الذي عليه جماهير أهل السنة، بل نقل غير واحد الاتفاق والإجماع، ونفى في ذلك الخلاف بين العلماء.
قال القاضي عياض رحمه الله: (واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها، وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام؛ لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى؛ إذ لا يجوز عليه سبحانه وتعالى التجسم، ولاختلاف الأحوال بخلاف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم)[40].
ونقل القاضي أبو يعلى رحمه الله إجماع أهل العلم على إمكانية رؤية الله تعالى في المنام[41].
ونقل في (سراج الطالبين على منهاج العابدين) اتفاقَ الصحابة والتابعين على إمكانية ذلك[42].
وقد تكلَّم بجواز ذلك الكثيرون كالباقلاني والقرافي، وابن حجر والنووي، وابن تيمة وغيرهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: (قد يرى المؤمن ربَّه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه؛ فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقصٌ رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق)[43].
وسئل الإمام ابن باز رحمه الله: ما حكم من يدعي أنه قد رأى ربَّ العزة في المنام؟
فأجاب رحمه الله: (ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وآخرون أنه يمكن أنه يرى الإنسان ربَّه في المنام، ولكن يكون ما رآه ليس هو الحقيقة؛ لأن الله لا يُشبهه شيء سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فليس يُشبهه شيء من مخلوقاته، لكن قد يرى في النوم أنه يكلِّمه ربه، ومهما رأى من الصور، فليست هي الله جل وعلا؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، فلا شبيه له ولا كفو له.
القول الثاني: قول من أنكر رؤيته تعالى في المنام، وهو المشهور عن الماتريدية، وهو الذي عليه أكثر الحنفية، والمحكي عن شيوخهم السمرقنديين: جاء في (البحر الرائق شرح كنز الدقائق): (رؤية الله تعالى في الآخرة حق يراه أهل الجنة في الآخرة بلا كيفية ولا تشبيه ولا محازاة، أما رؤية الله تعالى في المنام، فأكثرهم قالوا: لا تجوز، والسكوت في هذا الباب أحوط)[44].
وقد وافَقهم الإمام السيوطي رحمه الله، فقال: (من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله تعالى في المنام، ولا يجوز ذلك لغيره في أحد القولين، وهو اختياري وعليه أبو منصور الماتريدي)[45].
القول الثالث: قول مَن توقَّف، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقد توقَّف فيها، فقال: (أنا أتوقف في أن الإنسان يرى ربه في المنام رؤيةً حقيقة، أما إذا كان الله تعالى يضرب له مثلًا يبين له تمسُّكه بدينه، فهذا شيءٌ ليس بغريب)[46].
وإنْ كان بهذه الجملة الأخيرة قد وافق الجمهور؛ إذ الجمهور يرون أن رؤياه المنامية تكون مثالًا لا مثلًا.
فائدة7: من أنكر رؤية الله في الآخرة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة، فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم ذلك، عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصرَّ على الجحود بعد بلوغ العلم له، فهو كافر)[47].
وقال العلامة ابن باز رحمه الله: (رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة)[48].
والحمد لله رب العالمين
[1] رواه مسلم ( 181)، والترمذي (2552)، وابن ماجه ( 187).
[2] رواه البخاري ( 7434)، ومسلم ( 633).
[3] رواه البخاري ( 7435).
[4]رواه البخاري (7437)، ومسلم (182).
[5] رواه البخاري ( 4878 )، ومسلم (180).
[6] رواه البخاري (6565) واللفظ له، ومسلم (193).
[7] رواه البخاري (1413) وغيره.
[8] رواه مسلم (7356)، والترمذي (2235).
[9] رواه مسلم (٧٣٥٦)، والترمذي (2235).
[10] رواه البخاري (3062)، ومسلم، (439).
[11] رواه مسلم (179).
[12] رواه مسلم (443)، وأحمد (21017).
[13] رواه البخاري ( 3062), ومسلم ( 177).
[14] انظر: ((رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه)) لمحمد بن خليفة.
[15] ((مجموع الفتاوى)) ( 3/391-392).
[16] (( مجموع الفتاوى)) ( 7 /104).
[17] ((عقيدة الحافظ عبدالغني المقدسي)) (58).
[18] ((شرح الطحاوي)) (153).
[19] ((شرح صحيح مسلم)) للنووي ( 3 /15).
[20] ((الشريعة للآجري )) (2 /1048)
[21] ((معالم التنزيل البغوي )) (3 /174).
[22] ((الداء والدواء)) ( 283-284 )
[23] ((الداء والدواء)) (284).
[24] ((شرحه لسنن أبي داود)) (1 /2).
[25] (( شرح الطحاوية في العقيدة السلفية)) (1 /434).
[26] ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1 /320).
[27] ((منهاج السنة النبوية)) (2 /332).
[28] انظر: ((رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه)) لمحمد بن خليفة.
[29] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1 /192)، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط البخاري.
[30] أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (54) (5 /395، ح3280)، وقال: حديث حسن، وابن أبي عاصم في السنة (1 /191) وقال الألباني: "إسناده حسن موقوف".
[31] رواه مسلم (435).
[32] رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب معنى قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾.
[33] رواه مسلم (428).
[34] رواه البخاري (3232)، ومسلم (431).
[35] ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (48).
[36] ((تفسير ابن كثير)) (7 / 448).
[37] ((اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية)) (1/ 3).
[38] ((زاد المعاد)) (ج3/ص32).
[39] (( بحث للدكتور عبدالله الزبير عبدالرحمن باختصار)).
[40] ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 28)، ((فتح الباري)) (12 / 382).
[41] ((تمام المنة ببعض ما اتفق عليه أهل السنة)) (20).
[42] المرجع السابق نفسه.
[43] ((مجموع الفتاوى)) (3 /390).
[44] ((البحر الرائق شرح كنز الدقائق)) (/205).
[45] ((أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب )) (ص 37).
[46] (( لقاء الباب المفتوح )) (40/13).
[47] ((مجموع الفتاوى)) (6 /486).
[48] ((مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز)) (28 /412).