هدايات سورة المائدة
أحمد ولد محمد ذو النورين
- المحور السادس عشر: لقد ضمن الشارع الحكيم حفظ الحقوق كافة للأحياء والأموات والأيتام والكبار والصغار والرجال والنساء، فبعد أن نصب بعضا من المصالح العامة كحرمة البيت الحرام والشهر الحرام، أشار إلى أن كبراء الجاهلية لا هم نفعوا أتباعهم في حالهم ولا هم نصحوا لهم في مآلهم، ثم عقب ذلك بحتمية المآل الذي تكون الموت أولى محطاته، ثم ما يكون بعدها من كشف الأسرار يوم العرض والحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ وقد نبهت السورة الكريمة على بعض الاستعدادات التي ينبغي أن يعملها العبد لحظات قبل انقضاض المصير الحتمي إرشادا لمن حضرته المنية وهو بعيد عن أهله أن يوصي بما يحضره من المال-حفظاً لحق الورثة-باستحضار شاهدين عدلين من المسلمين إن وجدهما، وتسليمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فإن لم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، جاز له أن يكون الشاهدان من غير المسلمين. فإن ارتاب أهله في صدق ما بلغه الشاهدان من أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أداء الصلاة ليحلفا بالله، أنهما لم يكذبا في شهادتهما ولم يتوخيا بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولم يكتما شيئاً مما استحفظا عليه.. وإلا كانا من الآثمين.. وبذلك تنفذ شهادتهما. فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة. وبذلك تبطل شهادة الأولين وتنفذ الشهادة الثانية. فهذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ وأبلغ أثرا لتخويف الشاهدين الأولين من افتضاحهما ورد شهادتهما، وأدعى لحملهما على تحري الحق. ثم ينتهي السياق إلى دعوة الجميع لتقوى الله - تعالى -، ومراقبته وخشيته، والتزام أوامره (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ) (آية: 106).
وقد تخللت هذه المحاور مجموعة قصص عالجت مواضيع عقدية ووعظية وإخبارية وإعجازية مختلفة، تمحورت في كثير من إشاراتها حول الموضوع الأصلي للسورة، والذي هو الحث على الوفاء بالعهود، وقد شملت السورة إضافة لذلك كافة المقاصد الشرعية من:
حفظ الدين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ).
وحفظ النفس (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
وحفظ النسل (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
وحفظ الأموال (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا).
وحفظ العقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أهم هدايات السورة:
- رغم أن الهدف الرئيس للسورة يتمثل في إلزام المسلمين بالوفاء بالعهود: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فقد ذكرهم الله -تعالى- فيها بما شرع لهم من الأحكام، التي من أعظمها بيان الحلال والحرام: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، بعد نعمته عليهم بالهداية إلى الإسلام: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، ثم أعقب ذلك الامتنان بما كان له من الفضل والإنعام على أهل الكتاب، الذين نقضوا العهود وخانوا المواثيق: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فنشأت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فكان لذلك دلالة قاطعة على ضرورة الاعتصام بالوحي والاهتداء بنور القرآن، تحصنا من ذلك الزيغ والاستمساك بشريعة الرحمن، لدفع إغواء الشيطان: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
- لما ذكر -تعالى- استمراء بني إسرائيل للخيانة: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاًٌ مِنْهُمْ)، وما كان من عصيانهم لأوامر رسل الله: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)، وجبنهم عن قتال الجبارين: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، أتبع ذلك بقصة ابني آدم، وإقدام "قابيل" على ارتكاب أول أبشع جريمة على سطح المعمورة، تلك هي إزهاقه للنفس البريئة التي حرمها الله، وقد احتذى به اليهود في فظاعته وشناعته، فاقتفوا أثره وكان لهم أسوة في العصيان، فتأصلت فيهم طبيعة الشر التي قلدوه فيها، فاشتبهت قلوبهم بقلبه، فكان هذا مدعاة لتشابه أخبارهم مع قصته من حيث التمرد والطغيان؛ ليبين -تعالى- من خلال ذلك أن سلامة المجتمعات تقتضي الإجهاز على أهل الشر ودعاة الفتنة وتجار السوء، ومن هذا القبيل أوجب إيقاع حد الحرابة على المحاربين، وحد القطع على السارقين؛ لاستئصال شأفة الخارقين لأمن المجتمع، المفسدين في الأرض الناشرين للرعب والبغي.
- لما ذكر -تعالى- ما كان من قتل قابيل لهابيل بغياً وحسداً (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ذكر بعده حنق المنافقين على الإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حقداً وحسداً، لكنه جلت عظمته عصم رسوله - صلى الله عليه وسلم - من شرورهم وحفظه من كيدهم (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وأمره ألا يحزن لعداوتهم، وبين له أنهم مخذولون بطبيعتهم وإن استفحلت عداوتهم للإسلام ونالت أذيتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ولن يضروا بذلك إلا أنفسهم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.... أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الآية: 41).
- بعد أن بين الله -تعالى- إعراض اليهود والنصارى عن التوراة واستمراءهم للكذب والدجل وأكل الحرام (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)، بين أنهم أهل جحود وطغيان وردة عن الحق (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)، ليبين للمؤمنين أن من هذه صفاته وتلك أخلاقه وسجاياه ليس جديرا بالموالاة والمؤاخاة، بل إنه حري بالمعاداة والبغض (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، لقد ذهب هؤلاء بعيدا في جرمهم فتطاولوا على الذات العلية، ونعتوها بأبشع صفاتهم وخسيس مثالبهم فأخزاهم الله ولعنهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)، فلا يواليهم إلا ظالم لنفسه قد أصاب قلبه ما أصاب قلوبهم أهل لأن يحيق به ما حاق بهم (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ).
- تعرضت الآيات السابقة للتحذير الصارخ والوعيد الشديد لمن أقام وشائج مودة أو علائق ولاء مع اليهود والنصارى، وعدت ذلك الولاء من أسباب الارتداد المفضي إلى الاستبدال بمن يتصفون بصفات الإيمان المقتضية لمجافاة الكافرين والغلظة عليهم ومالاة المؤمنين والرحمة بهم والمجاهدة لإعلاء كلمة الله -تعالى- وإعزاز دينه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)، فقد استوجب من كفر بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- العداء والبغض، بما أقاموا عليه من حرب الإسلام والوقوف في وجه الدعوة إليه وتبليغه إلى الأنام، تلك الدعوة التي أمر بها كل منتم إلى الإسلام من خلال أمر المصطفى -صلى الله عليه وسلم– بها: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، ولقد وعد الله -تعالى- القائمين بها بالحفظ والتمكين من خلال وعده لرسوله الكريم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- بالحماية والنصرة: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وصريح العبارة: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
- وتأكيدا لمبررات منابذة أهل الكتاب وخاصة اليهود طفقت السورة تذكر بتاريخهم المخزي مع الرسل: (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)، ثم انتقل السياق إلى كشف عوار النصارى وفضح ما شاع بينهم من انحرافات وضلالات عقدية كتأليههم لعيسى -عليه السلام-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، وكانت الردود على هذه الترهات والأباطيل صريحة شافية: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الَلهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ).
- ما كادت الآيات تنتهي من كشف سوآت اليهود والنصارى وتبيين ما دأبوا عليه من زيغ عقدي وضلال منهجي حتى عادت للتحذير من اليهود بصفة خاصة لتعلن أنهم والمشركين الصرحاء أشد البشرية عداوة للإسلام وأهله (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ)، وتظهر في الوقت نفسه جانبا من إنصاف الإسلام وموضوعيته وعدله في حديثه عن الأعداء وتصنيفه لهم، فإذا كان اليهود بذلك المستوى من الغل والحنق فإن من النصارى من لهم صفات حميدة تجعلهم أقرب إلى أهل الإسلام وأكثر احتفاء بهم: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)، بل تتجاوز الآيات ذلك إلى التنويه بما لشرائح منهم من الخشوع والخشية وإجلال الحق والانقياد له: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)، هكذا تستفرغ السورة قضايا أهل الكتاب لتعود إلى تقديم باقة من الأحكام الشرعية ككفارات الأيمان: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ)، وحرمة الخمر والميسر (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ومتعلقات الصيد للمحرم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)، ثم أتبعت الآيات أحكام قتل المحرم للصيد بما للكعبة من عظيم المكانة وجليل المنزلة، لتعلن أنها منطقة أمان مطلق، فلا يستنفر فيها صيد ولا يخوف أو يؤذى فيها أحد، فهي مناخ للخير محضن للسعادة الدينية والدنيوية (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ).
- لقد أمرت الآيات باتخاذ إجراءات احترازية حفظا لحقوق الورثة عند احتضار الموروث كالإشهاد والائتمان على الوصية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ)، ثم أمرت بإجراءات أخرى عند الشك في صدق المؤتمنين كحلفهم بالله في مجتمع بعد الصلاة؛ لاستجاشة الوجدان الديني حتى ينبعث الخوف من موقف خزي يوم القيامة، وحتى يستنهض عند الشهيدين التحرج من الفضيحة حال ظهور الكذب والخيانة: (تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وبعد هذا الحكم المعبر عن نوع من الاستعداد للموت الذي هو أول منازل القيامة يأتي الحديث عن ذلك اليوم المهول، حين يجمع الأولون والآخرون على صعيد واحد للمحاسبة والجزاء، فيتمايزون إلى فريقين أحدهما إلى جنات الخلد والآخر في عذاب السعير.
أبرز الأدلة التي استخلصت منها قواعد فقهية في السورة:
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ): فهذا دليل على أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن المقصود منها أَحْكَامُهَا لَا ذَوَاتُهَا [22].
- (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى): فهذا أصل القواعد المتعلقة بفعل الطاعات وصنع المعروف والإحسان إلى الخلق وكف الأذى عنهم.
- (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ): فهذا أصل الأحكام والقواعد المتعلقة بالاضطرار، كقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".
- (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): وتنبني عليها أحكام وقواعد الإباحة الأصلية حتى يرد الشرع بالحظر.
- (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ): وهذا أصل لقاعدة تقديم النادر على الغالب أحيانا، يقول الإمام القرافي: "إن مما قدم فيه النادر ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة في أوانيهم وبأيديهم. الغالب نجاسته؛ لعدم تحرزهم عن النجاسات؛ ولمباشرتهم الخمور والخنازير ولحوم الميتات، والنادر طهارته، ومع ذلك أثبت الشرع حكم النادر وألغى حكم الغالب وجوّز أكله؛ توسعة على العباد" [23].
قصة وهدف:
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ" [24].
هذا الحديث يشكل حقولاً من الأهداف التربوية الرفيعة، غير أنه تجدر الإشارة إلى التنويه ببعض أهم تلك الأهداف؛ ألا وهو رفق النبي -صلى الله عليه وسلم- بنسائه، فهذا الرسول العظيم يوقف ذلك الجيش العظيم في مهمه على غير ماء حتى تبحث عائشة عن عِقْد لها فقدته، إنه ليس قائد جيش فقط، إنه إمام الأمة ومربيها يوقِف الجيشَ رفقًا بزوجته، فتنزل آية التيمم ويكون ذلك الرفق وهذا الحبس للجيش سبب رحمة للأمة وتخفيفا عنها جميعًا.
وقد تضمنت القصة ضمن الباقة العطرة أدباً رفيعاً في ما يجب أن يكون عليه المسلم من توقير النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته وتعظيمه، ولقد كان الصديق -رضي الله عنه- في شدة حرصه على التأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثالاً يحتذى، كما كانت عائشة -رضي الله عنها- في عمق إجلالها له -صلى الله عليه وسلم- أسوة تتبع، ولقد بلغ تكامل تطابق أبي بكر وابنته -رضي الله عنهما- في الحرص أن لا يضايق النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء المنزلة التي لا تضاهى، فأبو بكر لا يريد من عائشة أن تؤخر مسير النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضايقه ذلك، وعائشة تضرب ولا تريد أن تتحرك حتى لا ينزعج النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنها القدوة والأدب الجم والمحبة الخالصة.
الخاتمة:
سورة المائدة هي آخر سورة نزلت متكاملة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام حجة الوداع. فهي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها قرآن. وهي أول سورة في المصحف استهلت بـ (يا أيها الذين آمنوا)، وقد تكرر ذلك النداء في طياتها ستة عشر مرة من أصل ثمانية وثمانين في القرآن كله، اشتملت السورة الكريمة على كم هائل من الأحكام طالت مختلف أوجه التشريع، فتناولت الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والأمر بالتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله -تعالى-، وبيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة، والمطعومات الحلال، والذبائح، والصيد، والإحرام، ونكاح الكتابيات، وأحكام الطهارة، والديات والقصاص، وحكم من ترك العمل بشريعة الله -تعالى-، وأصل جاهلية الحكم والردة، وحدي السرقة والحرابة، وقضايا البغي والإفساد في الأرض، وأحكام الميسر والخمر، وكفارات الأيمان، وقتل الصيد في الإحرام، والوصية عند الموت، وتفنيد أمور الجاهلية كالبحيرة والسائبة.
هكذا عرضت هذه الأحكام بذلك الأسلوب البياني السلس، الذي تستمع إليه القلوب فيتغلغل داخل أعماقها فتجيش به النفوس وتتداعى إليه الأفئدة، فيباشر شغافها، تلك هي بلاغة القرآن العظيم، وذلك هو تأثير الذكر الحكيم.
في مستهلها كما في مختتمها وبين ثنايا أحكامها وقصصها شددت السورة على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق وضرورة الالتزام بها.
والسورة تسمى سورة العقود كما ذكرنا من قبل فلا غرابة إذا تضمنت أنواعا من الإلزام على رأس أحكام العقود، وذكرت في ذلك الإطار بما استمرأه بنو إسرائيل من نكث العهود ونقض المواثيق، وتحريف التوراة والإِنجيل، والكفر برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم عرت الكثير من ضلالات النصارى وأباطيلهم التي تجذرت في عقائدهم الزائفة، حيث نسبوا إِلى الله -تعالى- ما لا يليق به من الشريك والولد، وبعد تعرض السورة لجانب من تاريخ قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم نثرت قصة ابني آدم إشارة إِلى الصراع العنيف بين قوتي الخير والشر، ممثلة في الذي كان من قتل قابيل لأخيه هابيل، تلك الجريمة النكراء التي حدثت لأول مرة على سطح الأرض، والتي كانت بدايتها حسدا ونهايتها إراقة الدم البريء الطاهر تجسيدا لأوار نار الحسد تلك، لقد عرضت القصة نموذجين للبشرية: تمثلا في نفس شريرة أثيمة حاسدة حاقدة، ونموذج لنفس خيّرة كريمة خاشعة مؤمنة. كما ذكرت السورة قصة "المائدة" التي كانت إحدى المعجزات العظيمة التي أيد الله -تعالى- بها رسوله عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وقد جاءت استجابة وابتلاء للحواريين.
وتحقيقا منها لتوحيد الله -تعالى- وإبطالا لعقيدة التثليث ذكرت السورة معتنقي النصرانية بذلك الموقف المخزي الذي سيقفونه يوم القيامة بين يدي الله -تعالى-، فتشيب لهوله رؤوسهم، وتتفطر لقوارعه أكبادهم حين يسأل الله -تعالى- عيسى بن مريم على رؤوس الأشهاد تبكيتاً لهم وقد عبدوه من دون الله: (ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ).
في ذلك اليوم العظيم يحشر الناس إلى حساب دقيق يخرجون منه إما إلى سعادة أبدية في جنة عرضها السماوات والأرض، أو تعاسة أبدية في نار وقودها الناس والحجارة.
نسأل الله -تعالى- الحفظ من مكاره الدنيا والآخرة.
_________________
[1] الإتقان للسيوطي (1|155)، وقال: "قال ابن الغرس لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب".
[2] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2|463).
[3] وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني (ص: 121) "يقال: فلان لا يقرأ سورة الأخيار، أي لا يفي بالعهد، وذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار. قال جرير:
إن البعيث وعبد آل متاعس... لا يقرآن بسورة الأخيار"، انظر: التحرير والتنوير (5|5).
[4] إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر للدمياطي ص: 351).
[5] على اعتبار أن المدني ما نزل بعد الهجرة؛ لأن قوله - تعالى -"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" نزلت يوم عرفة في حجة الوداع، انظر: اللباب في علوم الكتاب (7|160).
[6] التحرير والتنوير (5|6)، وقد أورد الإمام السيوطي كثيرا من الأحاديث والآثار تدل صريحا على أنها آخر ما نزل من القرآن. انظر: الدر المنثور (3|4).
[7] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6|30).
[8] مجموعة الفتاوى (14|249).
[9] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (27616)، وقال عنه الأرنؤوط: "حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم وشهر بن حوشب"، وكذلك أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (7|13).
[10] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6643)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: "حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة وحيي بن عبدالله"، وصححه الألباني في صحيح السيرة ص: 107).
[11] اللباب في علوم الكتاب (7|162)، وتفسير البحر المحيط (3|428).
[12] أخرجه الإمام أحمد في المسند(24575) من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن".
[13] أخرجه الإمام أحمد في المسند(17023)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه عليه: "إسناده حسن"، وأخرجه البيهقي في الشعب(2415)، وكذلك في سننه الصغرى(978)، والطبراني في معجمه الكبير(186)، وغيرهم.
[14] تفسير البحر المحيط (3|333).
[15] انظر: تفسير ابن كثير (3|225).
[16] الجامع لأحكام القرآن (6|61).
[17] نفس المرجع (6|31).
[18] أخرجه البخاري| كتاب جزاء الصيد| باب ما يقتل المحرم من الدواب| ح(1826)، ومسلم| كتاب الحج| باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب| ح(1199).
[19] أخرجه البخاري| كتاب الاعتصام| باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه| ح(7289)، ومسلم| كتاب الفضائل| باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع ونحو ذلك| ح(2358).
[20] أخرجه الحاكم في المستدرك (7912)، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تعليقه، وأخرجه البيهقي في الشعب (7553).
[21] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (16)، وقال عنه الأرنؤوط في تعليقه عليه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وكذلك رواه البيهقي في الشعب (7550).
[22] انظر: غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (4|488).
[23] انظر: الفروق (4|105)، والقواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (2|622).
[24] البخاري، كتاب التيمم، باب، ح(334)، ومسلم، كتب الحيض، باب التيمم، ح(367)