رد: مباحث في العلة الحديثية
مباحث في العلة الحديثية
د. منى بنت حسين بن أحمد الآنسي[*]
نماذج من الأحاديث المعلة:
أذكر في هذا الصدد أمثلة لبعض الأحاديث التي أعلها بعض المحدثين, لأسباب فيها, منها ما يلي:
1- روى الخطيب البغدادي من طريق عباس الدوري, عن يحيى بن معين أنه قال: حضرت مجلس نُعيم بن حماد بمصر, فجعل يقرأ كتاباً من تصنيفه, قال: فقرأ منه ساعة, ثم قال: ثنا ابن المبارك, عن ابن عون, فحدث عن ابن المبارك, عن ابن عون أحاديث قال يحيى: فقلت له: ليس هذا عن ابن المبارك, فغضب وقال: ترد علي ؟, قلت: إي والله أريد زينك, فأبى أن يرجع. قال: فلما رأيته هكذا لا يرجع, قلت: لا والله ما سمعت أنت هذا عن ابن المبارك, ولا سمعها ابن المبارك, عن ابن عون قط, فغضب وغضب كل من كان عنده من أصحاب الحديث, وقام نعيم فدخل البيت فأخرج صحائف, فجعل يقول وهي بيده: أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث ؟ نعم يا أبا زكريا غلطت, وكانت صحائف فغلطت, فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون, وإنما روى هذه الأحاديث عن ابن عون غير ابن المبارك, قال: فرجع عنها[122].
2- قال ابن أبي حاتم: سألت أبي, عن حديث رواه قتادة, وحماد بن سلمة, عن عكرمة ابن خالد, عن ابن عمر, عن النبي e قال: "من باع نخلاً قد أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُها للبائع؛ إلاّ أن يشترط المُبْتَاع". قال أبي: كنت أستحسن هذا الحديث من ذي الطريق, حتى رأيت من حديث بعض الثقات: عن عكرمة بن خالد, عن الزهري, عن ابن عمر, عن النبي e. قال أبي: فإذا الحديث قد عاد إلى الزهري, عن سالم, عن ابن عمر, عن النبي e[123]. قال ابن حجر: وهو معلول؛ لأن نافعاً رواه عن ابن عمر من قوله, وهذا غاية في الدقة؛ فإن هذه الرواية في الظاهر كانت متابعة قوية لحديث سالم, لكنها بالتفتيش رجعت إليه[124].
3- قال ابن أبي حاتم: سألت أبي, عن حديث رواه أحمد بن حنبل, وفضل الأعرج, عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطالقانيّ, عن محمد بن مهاجر, عن عَقيل بن شَبِيب, عن أبي وهب الجشمى -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله e: "سموا أولادكم أسماء الأنبياء, وأحسن الأسماء: عبد الله, وعبد الرحمن, وأصدقها: حارث, وهمام وأقبحها: حرب, ومرة, وارتبطوا الخيل, وامسحوا على نواصيها, وقلدوها, ولا تقلدوها الأوتار". قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج, وفاتني من أحمد, وأنكرته في نفسي, وكان يقع في قلبي أنّه أبو وهب الكلاعي -صاحب مكحول- وكان أصحابنا يستغربون, فلا يمكنني أن أقول شيئاً لما رواه أحمد, ثم قَدِمتُ حِمْصَ, فإذا قد حدثنا ابن المصفى, عن أبي المغيرة, قال: حدثني محمد بن مهاجر, قال: حدثني عَقيل بن سعيد, عن أبي وهب الكلاعي, قال: قال النبي e. وأخبرنا أبو محمد, قال: وحدثنا به أبي مرة أخرى, قال: حدثنا هشام بن عمّار, عن يحيى بن حمزة, عن أبي وهب, عن سليمان بن موسى, قال: قال رسول الله e. قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل, وعلمت أن إنكاري كان صحيحاً, وأبو وهب الكلاعي هو: صاحب مكحول الذي يروى عن مكحول, واسمه: عبيد الله بن عبيد, وهو دون التابعين يروي عن التابعين, وضربه مثل الأوزاعي ونحوه, فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خفي عليه فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه, قلت لأبي: هو عَقيل بن سعيد أو عَقيل بن شَبِيب ؟, قال: مجهول, لا أعرفه[125].
4- قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي, وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه, عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي, قال: حدثنا نافع, عن ابن عمر قال: "لا تحمدوا إسلام امرئ, حتى تعرفوا عقدة رأيه". قال أبي: هذا الحديث له علّة قلّ من يفهمها, روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو, عن إسحاق بن أبي فروة, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبي e, وعبيد الله بن عمرو كنيته: أبو وهب, وهو أسدي, فكأن بقية بن الوليد كنى عبيد الله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن به, حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يُهتدى له, وكان بقية من أفعل الناس لهذا, وأما ما قال إسحاق في روايته عن بقية, عن أبي وهب: حدثنا نافع, فهو وهم, غير أنّ وجهه عندي أنّ إسحاق لعله حفظ عن بقيّة هذا الحديث, ولما يفطن لما عمل بقيّة من تركه إسحاق من الوسط, وتكنيته عبيد الله بن عمرو, فلم يفتقد لفظة بقيّة في قوله: حدثنا نافع, أو عن نافع[126].
5- قال البرذعي: سمعت أبا زرعة, يقول: كنت سمعت رجاء الحافظ حين قدم علينا فحدثنا عن عليّ بن المديني, عن معاذ بن هشام, عن أبيه, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: "نهى النبي e أن يطرق الرجل أهله ليلاً". فأنكرته ولم أكن دخلت البصرة بعد, فلما التقيت مع عليّ سألته, فقال: من حدث بهذا عني مجنون, ما حدثت بهذا قط, وما سمعت هذا من معاذ بن هشام قط[127].
6- قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن عمرو الفُقًيمي وفطر, والأعمش, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو t-رفعه فطر, والحسن ولم يرفعه الأعمش-: "ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل من يقطع فيصلها", قال أبي: الأعمش أحفظهم، والحديث يحتمل أن يكون مرفوعاً، وأنا أخشى أن لا يكون سمع الأعمش من مجاهد, إنّ الأعمش قليل السماع من مجاهد, وعامة ما يروى عن مجاهد مدلس[128].
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, والصلاة والسلام على خير خلقه, وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, فتلك خاتمة, أختم بها ما جمعتُ حول العلة الحديثية, أرجو أن تجد عند الله القبول, اجتهدت فيها قدر استطاعتي, فإن وفقتُ فمن الله سبحانه, وإن أخطأت فأستغفر الله وأتوب إليه, وقد انتهيت فيها إلى ما يلي:
- إن إدراك علل الحديث من الأهمية بمكان, للوقوف على مدى صحة الحديث أو ضعفه, وعلم العلل من أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها, لأنه يحتاج إليه لكشف العلل الغامضة الخفية, التي لا تظهر إلا للجهابذة في علوم الحديث, وإنما يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب, ولهذا لم يدرك أغواره وخاض عبابه إلا القليل من العلماء.
- إن علم علل الحديث له أهميته, بحسبانه يتعلق بالوحي الإلهي, وأحاديث النبي e, ومن لم يدرك فنونه فليس بوسعه الحكم على الأحاديث, إذ قد يحكم على الحديث المعلول بالصحة, ويحكم على غيره بالضعف.
- لا توجد ضوابط مضطردة لعلل الأحاديث, بل لكل مروي طبيعة خاصة لنقد روايته, ولا يدرك ذلك إلا من أوتي حظا من فهم هذه الطبيعة مع الوقوف على ضوابط نقد المرويات.
- مرت نشأة علم العلل الحديثية بمراحل عدة, وربما كانت أول فكرته في زمان الخليفة عمر t, ثم حذا حذوه علي t في النظر في الأحاديث والتحري عنها, ثم اهتم سائر الصحابة بذلك, ولما جاء عصر التابعين ومن بعدهم تضافرت أسباب الاهتمام بهذا العلم, من ظهور الكذب, والمبتدعة, وأصحاب الفرق الكلامية, والغلاة, الذين لا يتورعون عن التدليس والكذب في السنة, فبرز علماء اعتنوا بتأسيس دعائم هذا العلم, والتصنيف فيه, ويمكن القول بأن عصر الأئمة الأعلام من الفقهاء وغيرهم, شهد اهتماما غير مسبوق بعلم العلل والتصنيف فيه, فكان نتاجه تلك الثروة الثرية من التصانيف فيه.
- برز من العلماء الذين وضعوا تصانيف في علم العلل كثيرون, منهم: البخاري, ومسلم, وأحمد, وأبو داود, والنسائي, وابن المديني, وأبو زرعة الرازي, وأبو حاتم, ويحيى بن معين, والدارقطني, وغيرهم, وصنف هؤلاء العلماء مصنفات عدة في فنه.
- مما عرفت به العلة الحديثية: "ما يقدح في صحة الحديث, وإن كان ظاهره السلامة منها", ومما عرف به الحديث المعلول أنه: "حديث ظاهره السلامة, اطُّلع فيه على قادح", وقد أطلق الجمهور العلة على ذلك, وإن أطلقها البعض إطلاقات أخر, إذ أطلقت وأريد بها النسخ, وبعضهم أطلقها على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف, نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط, حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول, كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ.
- للعلل أنواع عدة بحسب موقعها أهي في الإسناد أم المتن, وأنواع أخر بحسب أثرها في الحديث, وبعض هذه الأنواع ذكر على سبيل المثال لا الحصر, كالعلل في الإسناد أو المتن, وإلا فإن أنواعها أكثر من ذلك, ومن علل الإسناد: الاختلاف على رجل بالإسناد وغيره, ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد, والاختلاف على رجل في تسمية شيخه, أو تجهيله, ورواية الراوي عن شخص أدركه, وسمع منه, لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة, رواية بعض الرواة حديثا من غير طرقه المعروفة, فيقع راويه في الوهم -بناء على الجادة-, رواية الحديث مرسلاً من وجه إذا رواه الثقات الحفاظ مسندا من وجه ظاهره الصحة, وعلل المتن هي: التصحيف في ألفاظ الحديث ومعانيها, وإدراج لفظة أو جملة في متن الحديث ليست منه, وقلب المتن, ودخول متن في آخر, والتفرد بزيادة لفظة في متن حديث ممن لا يحتمل تفرده, رواية الحديث بالمعنى, ومخالفة الصحابي لما رواه. ومن أنواع العلة بحسب أثرها في الحديث: وقوع العلة في الإسناد وعدم قدحها فيه مطلقاً, وقوع العلة في الإسناد, إذا قدحت فيه دون المتن, أن يكون الضعيف موافقاً للثقة في نعته، وقوع العلة فيه في المتن دون الإسناد, إذا لم لم تقدح فيهما, وقوع العلة في المتن, واستلزمت القدح في الإسناد, ووقوع العلة في المتن دون الإسناد.
- للعلة الحديثية أسباب عدة, لعل من أهمها: الخطأ, والنسيان, وخفة الضبط, والاضطراب, وكثرة الوهم, والشذوذ, واختلاط الراوي أو تغيره في آخرته, وتحديث الراوي من حفظه, أو تحديث من له كتاب صحيح إن كان في حفظه شيء, وقصر الصحبة للشيخ, وقلة الممارسة لحديثه, وصل الراوي كلامه أو استنباطه بالحديث فلا يميزه المستمع, تدليس الثقات, والرواية عن المجروحين والضعفاء, واختصار الحديث أو روايته بالمعنى, وتشابه الأسانيد والمتون وكثرتها, بحيث يدخل بعض الرواة متن حديث في آخر, أو سند حديث في غيره.
- تدرك العلة بوسائل عدة, لعل من أهمها: جمع طرق الحديث, والنظر في هذه الطرق طريقاً طريقاً, ثم النظر الإجمالي إليها مجتمعة, ومقارنة بعضها ببعض, وكذلك النظر فيمن تدور عليه هذه الأسانيد, ومعرفة حاله, والنظر في كتب العلل, وأقوال علماء العلل, بشأن الحديث الذي يبحث عنه, والنظر في كتب الرجال, وكتب الأحاديث الضعيفة والموضوعة, والنظر في متون الأحاديث, ومدى موافقتها للقواعد الكلية للشريعة, ومدى مخالفتها لذلك, ومدى إمكانية الجمع بين المتون التي ظواهرها التعارض من عدمها, ومعرفة أحوال الرواة, بمعرفة: وفياتهم, ومواليدهم, وأوطانهم, والمتشابه في قبائلهم وبلدانهم, وأسمائهم, وكناهم, وصناعتهم, وشيوخهم وتلاميذهم, ومعرفة الثقات منهم, ودرجاتهم ومراتبهم ومدى ضبطهم, وأيهم يقدم عند الاختلاف, ومن اشتهر بالتدليس منهم, ومن يرسل الحديث, ومن يضعف حديثه لعلة أو مرض قام به, أو تغير في حاله, أو اختلاط اعتوره, ومعرفة مذاهب الاعتقادية, وتمييز أهل السنة منهم, من أهل البدع والأهواء, والغلاة, والسابق واللاحق من الرواة, ومعرفة الناقد للأسانيد التي لا يثبت منها شيء, أو لا يثبت منها إلا شيء يسير, وحفظه للأحاديث الموضوعة والباطلة, والأبواب التي لم يصح فيها شيء, ومعرفته أو حِفْظُهُ لمصنفات وكتب أهل العلم, ومعرفة المدارس الحديثية ونشأتها, ورجالها, ومذاهبها العقدية والفقهية, وأثرها وتأثيرها في غيرها, وما تميزت به عن غيرها.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|