مقاصد النهي في البيوع المحرمة
د. جميل يوسف زريوا[*]
المطلب الرابع
مقاصد النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه
والمقصود به: أن يذهب مثلا لمن اشترى سلعة من شخص بمائة, فيقول: أنا أعطيك مثلها بثمانين، أو أعطيك أحسن منها بمائة فيرجع المشتري ويفسخ العقد الأول ويعقد مع الثاني، ومثله الشراء على شرائه,[35] فإذا باع الرجل سلعة لأخيه المسلم ورضي المشترى, فلا يجوز لآخر أن يُغري البائع بالرجوع في بيعته ليشتريها هو بثمن أكثر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن هذا النوع من البيوع بقوله: "لا يبيع بعضكم على بيع أخيه"[36], وذلك لمقاصد وحِكم جمة, وهي كما يلي:
منع إحداث البغضاء بين المسلمين, يقول السعدي: "والصحيح أن المنع من البيع على بيع أخيه, وشرائه على أخيه عام في زمن الخيارين, وغيرهما, لعموم النهي عنهما, ولأن العلة التي نهى عنها –وهو إحداث البغضاء بين المسلمين- موجودة ولو بعد الخيارين[37].
دفع حصول الشقاق بينهم, قال السعدي: "الثاني: قال: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"[38] لأنه يقع به من الشقاق والبغضاء شيء كثير"[39].
المطلب الخامس
مقاصد النهي عن الربا
وأما الربا فهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر, فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل[40].
لا شك أن للربا أضرارًا جسيمة، وعواقب وخيمة، والدين الإسلامي لم يأمر البشرية بشيء إلا وفيه سعادتها، وعزها في الدنيا والآخرة، ولم ينهها عن شيء إلا وفيه شقاوتها، وخسارتها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)[41], ففي هذا الخبر التخويف والترغيب لمن يتعامل بالربا, وإن زاد كسبه واستُدرج استدراجا مؤقتا أن آخر أمره المحق ونزع البركة, وأن المتصدق الذي يقصد بصدقته وجه الله, ويراعي محلها يزيده الله نماء وبركة في رزقه[42], فما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره, فالمتجرئ على الربا يعامل بنقيض قصده, وهذا مشاهد بالتجربة, ومن أصدق من الله قيلا[43], وسأجمل مقاصد النهي عن الربا فيما يأتي:
منع ظلم المحتاجين: يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[44]: وفي هذه الآية، بيان لحكمة النهي عن الربا، وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة، وتضاعف الربا عليهم، ولهذا قال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[45], أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة, وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه, وإن تصدق عليه غريمه- بإسقاط الدين كله أو بعضه- فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية، واجتناب المعاملات الربوية، والإحسان إلى المعسرين، علمُه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله، ويوفيه عمله، ولا يظلمه مثقال ذرة، كما ختم هذه الآية بقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[46][47].
استغناء الناس عنها, فقد أحل الله للناس الكسب الطيب, الذي يستغنون به عن الربا[48].
عدم تعطيل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها, لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب, فلن يكتسب طرقا أخرى للكسب[49].
دفع الفساد عن الناس, فالربا سبب لوقوع الفساد في المجتمع[50].
عدم قطع المعروف بين الناس وسد باب القرض الحسن, فالربا يؤدي إليه[51].
المطلب السادس
مقاصد الحجر على السفيه والمجنون والمدِين
لقد جاء الإسلام لتحقيق المصالح أو تكميلها, ودرء المفاسد أو تقليلها, وشرع من التشريعات ما تعود مصلحتها على العبد أو من يتعامل معه من الخلق, ومن ذلك مشروعية الحجر على السفيه والمجنون والمدين, فقد منع الله السفيه والمجنون والمدين من التصرف في أموالهم لمقاصد:
حفظ الأموال وصيانتها.
إيصال الحقوق إلى أهلها.
يقول السعدي :: والمقصود بالحجر هو حفظ الأموال وصيانتها وإيصال الحقوق إلى أهلها, فيجب على وليهم منعهم من التصرف في مالهم, ويتولى هو حفظه والتصرف فيه, ولا يتصرف في مالهم إلا بما فيه مصلحة, فيجري عليهم من النفقة من أموالهم بالمعروف, وما احتاجوا إليه من تعلم علم أو صنعة في أموالهم, وذلك عين مصلحتهم وهذا من محاسن الشريعة, حيث لم يمكّن القاصرين من أموالهم خوف الضرر عليهم, ويــدل عليه أيضا قولــه تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[52][53].
إرشاد العباد إلى السعي في كل تصرف نافع غير ضار[54].
تحقيق مصالح المحجورين[55].
المطلب السابع
مقاصد النهي عن بيع فضل الماء
لقد أوجب الله على المسلمين أن يكونوا إخوة مجتمعين على الحق، متحابين متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، وشرع لهم ما يقوي هذه الأخوة والمحبة من الاجتماع على الصلوات الخمس والجمع والأعياد والحج، كما شرع لهم تبادل التحية والسلام والمصافحة وتشميت العاطس وإجابة الدعوة والنصيحة وعيادة المريض واتباع الجنائز, وتبادل الهدايا، وكل هذا من أسباب المحبة والألفة وإزالة العداوة والبغضاء[56]، فمن أعظم البر السعي في جمع كلمة المسلمين واتفاقهم بكل طريق، كما أن السعي في تفريق كلمة المسلمين من أعظم التعاون على الإثم والعـدوان[57].
ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ"[58].
فقد نهي الشارع عن بيع فضل الماء لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ, كما علل به في نفس الحديث, فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ, لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله[59].
المطلب الثامن
مقاصد النهي عن حلوان الكاهن
لقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل حلوان الكاهن في قوله: "إن مهـر البغي[60] وثـمن الكلب وكسب الحجام وحلوان الكاهن[61] من السحت"[62][63], وذلك لمقاصد عدة, يمكن إجمالها فيما يأتي:
صيانة التوحيد, وسد وسائل الشرك.
منع الكاهن من الاستمرار في عمله الفاسد.
كونه من أكل أموال الناس بالباطل.
يقول ابن العربي: "وأما حلوان الكاهن فمن أكل المال بالباطل, لأنه شر الكذب والضلال, فيكون كشراء المحرم من الميتة والأصنام وما شابهها"[64].
ويقول ابن القيم: "والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك, ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال في ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه"[65].
المطلب التاسع
مقاصد النهي عن بيع الحصاة
ورد عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الحصاة" [66].
يقول ابن القيم: "فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول: لي بكُلِّ حصاة, درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار[67].
لقد حرص الإسلام على زرع معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين، وجاء التشريع الإسلامي متساوقا مع هذا المعنى، فحرمت الشريعة الغرر في العقود من بيع وإجارة، والغرر هو تلك الجهالة في المعقود عليه كيفًا، أو كمًّا، أو مكانا، أو زمانا، أو قيمة وما إلى ذلك، فما كان يؤدي من ذلك إلى التنازع حرمته الشريعة، وما جرت العادة بالتسامح فيه كان مخصوصا من المنع.
يتلخص من كلام ابن القيم السابق أن بيع الحصاة إنما منع لما تضمنه من أكل أموال الناس بالباطل والغرر والمخاطرة.
المطلب العاشر
مقاصد النهي عن بيع الملامسة والمنابذة
"نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين, نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع, والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك, والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه, وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض"[68].
والمقصود من النهي عن بيع الملامسة والمنابذة هو نفي الغرر والمخاطرة عن الناس, قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد لأنه تغرير"[69], وقال ابن القيم: "فالغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ بشرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر, وأكل أموال الناس بالباطل, ويئول إلى إضرار البائع أو المشتري[70].
المطلب الحادي عشر
مقاصد النهي عن بيع حبل الحبلة
عن عبد الله بن عمر م: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم "نهى عن بيع حَبَل الحبَلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"[71].
يظهر من كلام علماء المقاصد أن هذا النوع من البيع محرم لأمرين:
كونه معدوما ومجهولا.
كون ذلك من المخاطرة والغرر.
قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد, وسببه جهالة الأجل"[72].
قال ابن القيم: "الثالث: معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر م، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَة -وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها[73]".
المطلب الثاني عشر
مقاصد النهي عن بيع عسب الفحل
روى البخاري من حديث ابن عمر م: "نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن عسب الفحل"[74], وفى صحيح مسلمٍ عن جابر رضي الله عنه أن النبىَّ صلى الله عليه و سلم "نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل[75]"
وحديث جابر مفسر لحديث ابن عمر, وقيل: عسب الفحل: ماؤه, وقيل: كرائه, أي تأجيره[76], قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه و سلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد, وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله.
وقد علَّل التحريمَ بعدة علل, منها:
إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته.
الثانية: أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمي، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال والله أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكمالها, فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم في أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة[77] غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له، فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً[78].
المطلب الثالث عشر
المقصد الشرعي من تحريم بيع الأصنام
إن أفعال الله وكذلك أحكامه، تابعة لحكمته، فلا يخلق شيئا عبثا، بل لا بد له من حكمة، عرفناها، أم لم نعرفها، وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فدين الإسلام هو دين الحكمة ودين الفطرة، ودين العقل والصلاح والفلاح، ولذلك كان محتويا على الأحكام الأصولية والفروعية التي تقبلها الفطر والعقول، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، لتمام حكمته ورحمته[79].
ذكر البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله م: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عام الفتح وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام", وقد استنبط العلماء النهي عن بيع الأصنام, وأجملها ابن القيم في قوله: "وأما تحريمُ بيع الأصنام، فُيستفاد منه تحريمُ بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلي اقتناعها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها في نفسها"[80].
يتلخص من كلام ابن القيم السابق: أن المقصد من تحريم بيع الأصنام هو حفظ جناب التوحيد, وسد وسائط الشرك.
المطلب الرابع عشر
مقاصد النهي عن الميسر
لقد نهى الله عن الميسر لدفع مفاسد عدة, يمكن إجمالها فيما يلي:
الصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
إيجاب الإثم والعداوة والبغضاء بين الناس.
كونها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
كونها رجسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها.
يقول ابن تيمية: هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[81], فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها, ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة, ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه, ومعلوم أن "الخمر" لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها, ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض كما جرت به العادة, وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة ونحو ذلك, فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك, ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها"[82].
وقد فصل العلامة السعدي الكلام في هذه النقاط عند تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[83], حيث يقول: "فهذه نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها، فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها, ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، ومن المعلوم أن العدو يُحذر منه، وتُحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم في البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها, ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له, ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، فإن في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء, ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالميسر، تصد عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو؟.
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله و الصلاة؟, فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر؟, ولذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها عرضا بقوله:َ(هَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[84], لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ"[85].
يتبع