أهمية التوحيد وأنواعه وخطورة الشرك وأقسامه
عدنان محمد العرعور
وجوب الإيمان والعمل بالتوحيدين:
فبهذا يزول الإشكال الأول: لماذا يكفِّر الله - عز وجل - العبد رغم أنه يؤمن به، ويؤمن بتوحيد الربوبية، وذلك لأن الله يوجب على العباد التوحيدين، الأول: وهو توحيد الله بأفعاله، والإيمان بتفرده بها في خلقه، وهو ما سمي "بتوحيد الربوبية"، وهذا الذي يؤمن به معظم كفار قريش واليهود والنصارى كانوا يؤمنون به: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون).
التوحيد الثاني: -الذي يوجبه الله على العباد-: هو صرف العبادة له وحده، فلا يدعا أحد سواه، لا العزير ولا عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام -، ولا أي ولي من الأولياء، وهو ما سمي "بتوحيد الألوهية".
فمن آمن بالأول ولم يعمل بالثاني -بعد البلاغ وقيام الحجة عليه- كان مشركاً كافراً، لأنه آمن ببعض التوحيد وكفر ببعض، وهذا الذي يوضحه قوله - تعالى -: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)أي: يؤمنون بالله وبأفعاله: ولكنهم يدعون غيره، ويصرفون العبادة لغيره.
فيقعون في الشرك الذي هو صرف العبادة أو جزء منها لغير الله، فعلى هذا؛ قد يكون العبد مؤمناً بالربوبية: (وما يؤمن أكثرهم بالله) ومشركاً في الألوهية: (إلا وهم مشركون).
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "يقول - تعالى - ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف - عز وجل - صفتهم بقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء: (إلا وهم به مشركون) في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دونه أرباباً، وزعمهم أن له ولداً، - تعالى الله عما يقولون-، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"([4]) فتأمل.
وروي عن ابن عباس أنه قال: "من إيمانهم؛ إذا قيل لهم: من خلق السماء، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون"([5]).
وعن عكرمة أنه قال: "تسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله. فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره"([6]).
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى -: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) الآيات. "يقول - تعالى -مقرراً؛ أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون أنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم، فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلاً منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره؟ ولِمَ يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر - تعالى -مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك))"([7]).
وتدبر الفرق بين هذين التوحيديين ضروري جداً لفهم كتاب الله، ولمعرفة أسباب تكفير الله من آمن بوجوده، وإلا كان كتاب الله متناقضاً، وأحكامه متعارضة!.
توحيد الألوهية هو معنى لا إله إلا الله:
والحقيقة؛ أن توحيد الألوهية: هو معنى لا إله إلا الله، فإن معنى: "الإله" في اللغة غير معنى "الرب"، ولذلك لم يقل الرسول قولوا: "لا رب إلا الله"، لأن هذا مُسلَّم به عند كفار قريش، واليهود والنصارى، ولا نزاع فيه بينهم وبين المسلمين، و إنما غيرُ المسلَّم به عندهم، والنزاع فيه شديد هو توحيد الآلهة، لذلك قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) ولم يقولوا: "أجعل الأرباب رباً واحداً"، وليس في القرآن آية واحدة تناقش الكفار في أن ربهم رب واحد([8])، بل البيان كله في "إلهكم إله واحد" أي: يجب أن يكون معبودكم واحد.
وعلى هذا؛ كان معنى "لا إله إلا الله" لا معبود يستحق العبادة إلا الله، فلا يجوز تأليه غيره، ومن المفيد أن نعلم؛ أن صرف جزء من العبادة لغير الله هو تأليه للمصروف له، ومن ألّه غير الله فقد أشرك، رغم إيمانه بالله وبأفعاله.
وبهذا يعلم؛ خطأ من يفسر كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" بمعنى: "لا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله".
بل تفسيرها الصحيح: لا معبود بحق إلا الله، ولا مطاع، ولا مشرع، ولا مدعو بحق إلا الله - عز وجل -، ولا حاكم في الحلال والحرام بحق إلا الله.
نوع ثالث من التوحيد:
عند التمعن في كتاب الله - تعالى - يجد البصير؛ أن ثمة أمراً آخر في قضية الإيمان والتوحيد يبينه الله - عز وجل -، وهو الإيمان بأسماء الله وبصفاته - عز وجل - التي وصف بها نفسه.
قال - تعالى -: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).
وقال - تعالى -: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر). وقال - سبحانه -: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
وما من مقطع في القرآن الكريم إلا ونجد فيه صفة أو صفات لله - عز وجل - يصف بها نفسه.
وهذا النوع من أنواع التوحيد سماه بعض العلماء "توحيد الأسماء والصفات".
ويعني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع التنـزيه عن المشابهة والتمثيل.
والقاعدة في توحيد الصفات: "الإثبات مع التنزيه" أي: إثبات صفات الله من غير نفيها، ولا تعطيل ولا تحريف لمعناها، كمن يقول: ليس لله وجه، وإنما معنى وجهه رحمته، وتنزيه الله عن الشبيه والمثيل في ذاته وصفاته، أي: لا يقال: هو ككذا، ووجهه ككذا، أو يمثل صفة من صفاته فيقول: يده مثل كذا وهكذا، قال - تعالى -: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
فأثبت الله الصفات ونفى التشابه وهكذا يعتقد أهل السنة: يثبتون الصفات وينفون المثلية.
والكفر والشرك بهذا النوع من التوحيد؛ يكون بأمور:
الأول: إنكار صفة من صفات الله - عز وجل -. كمن ينكر صفة الحكمة، أو السمع، أو الكلام، أو الوجه.
وقد كفَّر الله - عز وجل - من نفى عنه ما وصف به نفسه، فقال - سبحانه -: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا).
الثاني: تشبيهه بأحد من خلقه. كمن يقول: وجه الله ككذا، ويده ككذا، يشبهها بأحد من خلقه.
الثالث: وصف الله - عز وجل - بما لا يليق، وبما لا يثبت في الكتاب والسنة، كأن يقول: "يد الله مغلولة"، "الله فقير"، "الله ليس عادلا" "ليس حكيماً" لماذا يعطي هذا، ولا يعطي هذا، لماذا أفقرني؟! لماذا أصابني؟! وما شابه ذلك.
وقد كفر الله ولعن من وصفه بما لا يليق به، قال - سبحانه -: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا).
وكفر الله النصارى لقولهم: إن له ولداً، وحقيقة قولهم؛ هو وصف الله بما لا يليق.
وهذه الحالات هي من الإلحاد في أسماء الله وصفاته قال - تعالى -: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
قال القرطبي -في تفسيره عند هذه الآية-: "والإلحاد يكون بثلاثة أوجه:
أحدها: بالتغيير، كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسمَّوا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللَّات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: بالزيادة فيها.
الثالث: بالنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله - تعالى -بغير أسمائه، ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به. قال ابن العربي: "فحَذَارِ منها، ولا يدعُوَّن أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة؛ وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي..
المسألة الثانية: معنى الزيادة في الأسماء: التشبيه، والنقصان: التعطيل. فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه، والمعطلة سلبوه ما اتصف به؛ ولذلك قال أهل الحق: إن ديننا طريق بين طريقين، لا بتشبيه ولا بتعطيل. وسئل الشيخ أبو الحسن البوشَنْجِيّ عن التوحيد فقال: إثبات ذات غير مشبَّهة بالذوات، ولا معطلة عن الصفات" [تفسير القرطبي 7/328]
مجمل أنواع التوحيد:
وبهذا النوع من التوحيد الذي هو "توحيد الأسماء والصفات" يصبح لدينا ثلاثة أنواع للتوحيد:
توحيد الربوبية: ويعني إفراد الله بأفعاله: أي: هو المتفرد بالملك بهذا الكون والحكم والخلق والفعل فيه.
توحيد الألوهية: ويعني: إفراد الله بالعبادة، أو توجيه وصرف العبد أفعاله التعبدية لله وحده.
توحيد الأسماء والصفات: ويعني: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع التنزيه.
أنواع التوحيد موجودة في الكتاب والسنة معنى؛ اصطلاحاً
وعند إمعان النظر في ما تقدم يتبين؛ أن أنواع التوحيد ومعانيها هذه مأخوذة من الكتاب والسنة، وليس فيها شيء محدث، وأن تقسيمها بهذا الشكل هو تقسيم اصطلاحي لتقريب المعنى، وبيان المقصود، ولتسهيله على المتعلمين.
ومن المعلوم؛ أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان المعنى صحيحا.
وقد تعارف العلماء على جواز الاصطلاح، واصطلحوا اصطلاحات كثيرة لم تكن معروفة من قبلهم، فقد اصطلح لفظ العقيدة، ويقصد بها: الاعتقاد دون العمل([9]). واصطلحوا في العبادات (الشرط) و(الركن)، ورتبوا شروط الصلاة، وعدد أركانها، وكذلك فعلوا في المعاملات كالبيوع وغيرها.
فإذا كان الاعتراض على الاصطلاح والترتيب فلازم ذلك الاعتراض على الأمة كلها فيما اصطلحت عليه! ولا يعترض على هذا من عنده أثارة من علم وعقل.
وإن كان الاعتراض على المعنى، قيل لهم: لقد كان كفار قريش مؤمنين بالله وعلمه وإرادته وقدرته على الخلق، كما ذكر الله عنهم، فلماذا -إذن- كفرهم الله - عز وجل -؟!
فلا مناص أن يقال: لأنهم لم يوحدوا الله حق توحيده، وأنهم صرفوا عبادتهم لغير الله، وهذا الذي اصطلح عليه؛ أنه "توحيد الألوهية"، وأنهم وقعوا في مخالفته.
ومن أوضح الدلائل على هذا، قوله - تعالى -: (قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس)، فلو كان معنى "الإله" هو "الرب" لما كررها الله - عز وجل -، وبهذا التكرار يتبين؛ أن معنى "الإله" غير معنى "الرب" وإلا لما أعاد ذكره - سبحانه -.
فالابتداء كان بالربوبية: (رب الناس) أي: أن الله خالق الناس ورازقهم و.. ثم قال: (ملك الناس) أي: مالك شأنهم كله، وما يزالون في ملكه، لم ينفكوا عنه بعد خلقهم، وله حق التصرف بهم، فعليهم -إذن- أن يعبدوه، وأن يجعلوه إلههم، ولذلك قال -بعد أن أثبت أنه ربهم ومالكهم- أنه إلههم: (إله الناس) أي: الذي يجب عليهم أن يؤلهوه، وذلك بصرف عبادتهم إليه لا إلى سواه.
إن في هذا لبلاغاً لقوم يتفكرون.
ووالله إن هذه الآيات في سورة الناس لكافية للدلالة على وجود توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، لمن أراد أن يتدبر، فكيف بمئات الآيات في القرآن الكريم التي تفرق بين توحيد الربوبية والألوهية.
توحيد الألوهية كان لب دعوة الأنبياء:
والحقيقة؛ أن "توحيد الألوهية": هو التوحيد المقصود بدعوة الأنبياء الذين كانوا يدعون أقوامهم لعبادة الله وحده: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، ذلك لأن معظم الناس يقرون بوجود الله - سبحانه - وبأفعاله، ولكنهم يتخذون معه أنداداً (شركاء)، ويتبعون الطواغيت.
فتارة يتخذون نداً في الطاعة، قال - تعالى -: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا)، وقال - تعالى -: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
فعن عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ((يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك))، فطرحته، فانتهيت إليه، وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟!)) قلت: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)) ([10]).
وتارة يجعلون لله نداً في المحبة: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) الآية.
وتارة يجعلون نداً في التوجه والطلب:
قال - سبحانه -: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وقال: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) الآية.
وقال: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون).
أقوال أهل العلم في تقسيم التوحيد:
هذا؛ وقد مضى أهل العلم على ذكر هذه الأنواع قديماً وحديثاً، تنصيصاً وتضميناً:
قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: "والله يدعى من أعلى لا من أسفل، لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء"([11]).
قال الطحاوي في كتابه المشهور بالعقيدة الطحاوية: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره".
ففي كلامه هذا عند التأمل نجد الأنواع الثلاثة للتوحيد:
فقوله: "إن الله واحد لا شريك له" يتضمن توحيد الربوبية والألوهية.
وقوله: "ولا شيء مثله" هذا من توحيد الأسماء والصفات.
وقوله: "ولا شيء يعجزه" هذا من توحيد الربوبية
وقوله: "ولا إله غيره" هذا توحيد الألوهية.
وقال ابن بطة الحنبلي: "وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربّانيته، ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً.
الثاني: أن يعتقد وحدانيته، ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع، وأشركوا معه العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها، من العلم والقدرة والحكمة، وسائر ما وصف به نفسه في كتابه، إذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته، فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده.
ولأنا نجد الله - تعالى - قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة في هذه الثلاث والإيمان بها، فأما دعاؤه إياهم إلى الإقرار بربانيته ووحدانيته، فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه"([12]).
قال ملا علي القاري الحنفي شارح الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة: "فابتداء كلامه - سبحانه وتعالى - في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقرير توحيد الربوبية، المترتب عليه توحيد الألوهية، المقتضي من الخلق تحقيق العبودية، وهو ما يجب على العبد أولاً من معرفة الله - سبحانه وتعالى -، والحاصل: أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية، لقوله - تعالى -: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) وقوله - سبحانه - حكاية عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوته إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته"([13]).
وقال الشهرستاني: "وأما التوحيد؛ فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن الله - تعالى - واحد في ذاته لا قسيم له [توحيد ربوبية]، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له [توحيد الصفات]، وواحد في أفعاله لا شريك له [توحيد العبودية "الألوهية"]"([14]).
وقال المقريزي: "ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا بأنه - سبحانه - وحده خالقهم وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الإلهية والمحبة"([15]).
فأقبل يا عبد الله على تعلم دينك، وجدد بالله وأفعاله إيمانك، وحقق الإيمان بكل ما أنزل الرحمن، ووحِّد الله حق التوحيد لتنال الجنان، ولتنجو من النيران، وتفهم معنى العبادة وأنواعها وشمولها، ولا تصرف شيئاً منها لغير الله فتقع في الشرك فتكون من الهالكين.
قال - تعالى -: (وأن المساجد لله فلا تدع مع الله أحداً). وقال - تعالى -: (وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين). وقال - تعالى -: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون).
والله أسأل التوفيق والسداد والقبول إنه خير مسئول.
_____________
([1]) أخرجه ابن ماجه (4034) من حديث أبي الدرداء، وقال البوصيري: "هذا بإسناد حسن، شَهر مختلف فيه"، وقال الحافظ في تلخيص الحبير (2/148): "وفي إسناده ضعف"، وهو في صحيح الجامع برقم (7339).
([2]) أخرجه أحمد (4/2467)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3828)، والترمذي (2969، 3247) وقال: "حسن صحيح".
([3]) أخرجه البخاري (2887).
([4]) تفسير ابن جرير الطبري (13/77).
([5]) تفسير ابن كثير (2/495)، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (13/495).
([6]) تفسير الطبري (13/77).
([7]) تفسير ابن كثير (3/422).
([8]) ولا يخفى أن ثمة قوماً ينكرون وجود الله، فحاورهم القرآن وأثبت لهم بالأدلة وجود الله - عز وجل - وأنه الخالق المدبر الرازق.، وهذا جانب وهو الجانب الذي نتحدث عنه، وهو مع الذين يؤمنون بالله، ولكنهم يصرفون عبادتهم لغيره.
([9]) تعريفات الجرجاني ص152.
([10]) أخرجه الطبراني (17/92)، والبيهقي في السنن (10137)، وفي المدخل (261).
([11]) الفقه الأبسط ص51.
([12]) الإبانة في الرد على الجهمية (2/172) من الكتاب الثالث.
([13]) انظر شرح الفقه الأكبر (ص9، 10).
([14]) الملل والنحل (1/42).
([15]) تجديد التوحيد المفيد (ص8)