عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 18-09-2019, 05:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,140
الدولة : Egypt
افتراضي رد: آداب وضوابط المجتمع الإسلامي من خلال سورة الحجرات

آداب وضوابط المجتمع الإسلامي من خلال سورة الحجرات
د. وسيم فتح الله


الجزء الثانى
المطلب الثالث : أخلاق وآداب التعامل مع المسلمين :
إن تعامل المسلمين مع بعضهم البعض أمر لازم في سياق الحياة الاجتماعية اليومية، وهو مظنة كثير من الانحرافات والأخطاء والتعديات التي نراها تكاد تفتك بالمجتمع وتفرط عقد الجماعة وتطعن في مصداقية الأخوة الإيمانية مع الأسف. ولقد اهتمت هذه السورة بتصحيح جملة من المفاهيم والتنفير من مجموعة من السلوكيات الخلقية المنحرفة الشائعة، لترتفع بأفراد المجتمع فوق فوضى انعدام الأخلاق إلى أفق وسمو المجتمع الإنساني المسلم بحق. وإن المتدبر في هذه السورة العظيمة يجد عرضاً موجزاً في آيتين اثنتين لا أبالغ إذا قلت إن فيهما ما يكفي لضبط أي مجتمع بضابطٍ من الأخلاق ينأى به عن أي خلل مؤثر في سير المجتمع وعلاقة أفراده ببعضهم البعض، وما الإعجاز إن لم يكن هذا؟ تأمل هذه الكلمات الموجزة المعجزة :
" يأيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم"[45]
فقد أجملت هذه الآيات ست قبائح خلقية اجتماعية لا يتصور قيام مجتمع راقٍ خلوقٍ يرضى باستقرار لوثةٍ من لوثاتها فيه، وهذه القبائح الست هي : السخرية واللمز والتنابز بالألقاب واتهام المؤمنين بالظنون الضعيفة والتجسس على المؤمنين والغيبة للمؤمنين المتقين. وقبل استعراض هذه القبائح منفردةً أشير إلى لطيفةٍ تتمثل في الألوان التعبيرية التي جاء النهي بها عن كلٍ من هذه القبائح، يقول عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله:" ويلاحظ في هذا النص أن كل نهيٍ فيه قد انفرد بلون تعبيري ذي دلالة خاصة قابلة لأن تكون شاملة للمنهيات الأخرى ؛ ففي السخرية :" لا يسخر قوم من قوم" وفي اللمز "ولا تلمزوا أنفسكم" ، وفي التنابز "ولا تنابزوا بالألقاب" ، وفي الظن المنهي عنه " اجتنبوا"، وفي التجسس " ولا تجسسوا" ، وفي الغيبة " ولا يغتب بعضكم بعضاً" ويلاحظ أنه يصح في كلٍ منها استعمال التعبيرات الأخرى لتؤدي فيه دلالتها فيقال مثلاً في السخرية ) لا تسخروا من أنفسكم – لا تتساخروا – اجتنبوا السخرية – لا تسخروا – لا يسخر بعضكم من بعض) ... ومع ذلك فقد اختير لكل قبيحة من هذه القبائح الست صيغة التعبير التي تدل على أبرز صورة من صورها"[46]،وهذا في الحقيقة من روائع الإعجاز البياني القرآني من حيث استيعاب كل المعاني بأوجز أسلوب مؤثر ،ولسوف أستعرض تلك المناسبة بين الصيغة والقبيحة عند بيان كل منها إن شاء الله.
أولاً: النهي عن السخرية:
إن هذا السلوك الاجتماعي الشائن يعكر على أفراد المجتمع المسلم صفو علاقتهم ويكدر صفاء مبادئهم؛ فلا يسلم الاعتقاد بأفضلية المسلم وتساويه في الحقوق مع أخيه المسلم مع الاستهزاء به والسخرية منه، فكان لا بد من توجيه قرآني يلفت الانتباه إلى أصل الرابطة الإيمانية المشتركة بقوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا " ثم يأتي النهي بلون تعبيري مميز :"لا يسخر قوم من قوم "، " ولا نساء من نساء " لأن السخرية تغلب فيها المشاركة، فناسب أن يأتي النهي بهذا اللون[47]، كما ناسب إفراد النساء عن الرجال في النهي لأمرين؛ أحدهما كثرة وقوع ذلك منهن فكان عطفهن على القوم – وإن كن داخلات فيهم أصلاً – من باب عطف الخاص على العام لبيان شدة الاهتمام بنهيهن عن هذا السلوك، والثاني – أشار إليه صاحب قواعد التدبر الأمثل – أن فيه إشارة إلى أن النساء لا يخالطن الرجال في المجالس الاجتماعية فناسب تذكير ونهي كلٍ على حدة.[48]
والسخرية منافية لخلق المسلم لأن فيها استعلاءً بغير الحق، ولذلك نبهت الآية الكريمة على ذلك :"عسى أن يكونوا خيراً منهم"، أي الخيرية الشرعية، فذلك الذي تسخر منه لأمر دنيوي قد يكون خيراً منك في المعيار الشرعي فيكون استعلاؤك عليه تقديم لأمر الدنيا على أمر الآخرة، وتقديم لهوى النفس على معيار الشرع والعياذ بالله، هذا بالإضافة إلى ما تحدثه هذه السخرية من غلٍ في النفوس وشرٍ بين الناس حتى إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يستعيذوا به من هذا الشر ؛ قال سبحانه :" ومن شر حاسدٍ إذا حسد"[49]
ثانياً وثالثاً: النهي عن اللمز وعن التنابز بالألقاب:
واللمز في اللغة العيب والإشارة بالعين ونحوها [50]، والمعنى في قوله تعالى:" ولا تلمزوا أنفسكم"[51] أي لا يلمز بعضكم بعضاً، وذلك كقوله تعالى:"ولا تقتلوا أنفسكم"[52] أي لا يقتل بعضكم بعضاً[53]. وفي هذا الأسلوب التعبيري ما يشير إلى أن من لمز وعاب أخاه المسلم فكأنما لمز وعاب نفسه، وهذا قبيح مرغوبٌ عنه، فوجب ترفُّع المرء عنه تماماً كما يترفع عن كشف مساويه وعيوبه للناس وإن كانت فيه في نفس الأمر. ولقد ورد الوعيد الشديد لمن قارف هذه القبيحة في موضعٍ آخر من القرآن الكريم حيث قال تعالى:"ويلٌ لكل هُمزة لُمزة"[54]، وعدَّ هذه الخصلة من جملة الخصال الذميمة حيث قال :"هماز مشاء بنميم"[55]
أما النبز لغةً اللمز ، ونبّزه ينبّزه : يلقبه، والتنابز : التعاير والتداعي بالألقاب[56]. و "تنابز" على وزن تفاعل، وهو يشير إلى تبادل الفعل بين جانبين، فهو فعل تغلب فيه المشاركة لأن من نبز غيره بلقب رد عليه المنبز بلقب آخر غالباً، ولهذا جاء التعبير في النهي بصيغة :" ولا تنابزوا بالألقاب" لأنه أقرب إلى حكاية الواقع.
ولقد نفَّرت السورة الكريمة من هاتين الخصلتين القبيحتين بوصف من تلبس بهما بالفسوق، وبينت أنه لا يليق بمن منَّ الله عليه بوصف الإيمان أن يعدل عنه إلى وصف الفسوق فقال تعالى:" بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان"[57]
رابعاً: النهي عن الظن السيء بالمؤمنين:
إن من الإثم أن يتهم المسلم أخاه المسلم ويخوِّنه، وما ذلك إلا إثمٌ محض حري بالمسلم أن يجتنبه ويترفع عنه، ولما كانت كثرة الظنون مفضيةً إليه جاءت السورة بالتوجيه الرباني لتأمر المؤمنين باجتناب الظن احتياطاً لاحتمال التهمة في غير محلها، وما ذلك التحفظ والاحتياط إلا لعظم حرمة المسلم وشدة قبح هذه الرذيلة؛فقال تعالى:" يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم"[58] فناسب أن يأتي أسلوب التعبير بالاجتناب الكلي لأن من جرى مع ظنونه واسترسل معها أوصلته إلى ما لا يحمد عقباه مما يأثم به حتماً، ولقد جاءت السنة النبوية المطهرة لتؤكد هذا النهي حيث قال صلى الله عليه وسلم:" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"[59]، فكان هذا أبلغ ما يكون في تطهير المجتمع المسلم من هذه القبيحة.
خامساً: النهي عن التجسس:
قال الحافظ ابن كثير: والتجسس غالباً يطلق على الشر، ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، وقد يستعمل كل منهما في الشر.[60]، والشاهد أن النهي قد جاء في الآية باللفظ الذي يغلب استعماله في الشر فقال تعالى:" ولا تجسسوا". وهنا نكتة لطيفة وهي أن المرء لا يقوم بالتجسس على غيره عادةً إلا عندما يتهمه ويسيء الظن به، فناسب والحال كذلك أن يكون الترتيب في النهي في هذه الآية عن سوء الظن أولاً ثم عن التجسس، وما هذا التناسب إلا دليل من الأدلة الكثيرة على موافقة التوجيهات الشرعية للطبائع البشرية، قال تعالى:" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[61]
سادساً: النهي عن الغيبة:
ذكر الحافظ ابن كثير الإجماع على تحريم الغيبة، ولقد بين الشارع الحكيم ضابط الغيبة حيث جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسو ل الله، ما الغيبة؟ قال:" ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال :" إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه" [62]، ولقد جاءت السورة بصورة شديدة التنفير من هذه الرذيلة والقبيحة الاجتماعية؛ فشبهت غيبة الرجل أخاه بأكل لحمه ميتاً حيث قال تعالى:" أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه"[63]، وهذا التشبيه التمثيلي من أروع الأساليب القرآنية وأشدها تأثيراً في نفس المكلف، ولهذا التشبيه أوجهٌ عدة بين المشبه والمشبه به؛ أولها أن الذي يُغتاب لا يعلم أن أخاه يغتابه تماماً كما أن الميت لا يعلم من يأكل لحمه، وثانيها أن الذي يَغتاب أخاه الحي قد هتك حرمة أخيه تماماً كما أن آكل لحم أخيه ميتاً قد هتك حرمته، وثالثها أن الغيبة أمر مستقذرٌ في الطبائع السليمة تماماً كما أن أكل لحم الميت أمر مستقذرٌ طبعاً ، وكل هذه المعاني دائرة حول تنفير المكلف من هذه الخصلة المرذولة وتبشيعها في نفسه كما هي بشعة في نفس الأمر.
وبهذا تكتمل جملة القبائح الاجتماعية التي نهت عنها السورة، وإن المتدبر ليدرك أن المجتمع الذي يستطيع تخليص نفسه وأفراده من هذه الرذائل مجتمعٌ قمنٌ بارتقاء أسمى مراتب الرقي الاجتماعي والإنساني بل والتعبدي عندما يؤطر كفَّه عن هذه المنهيات في إطار الانقياد لأمر الله عز وجل.
المبحث الثالث : منهج السورة في تقرير آداب وضوابط المجتمع الإسلامي:
لا شك أن منظومة الآداب التي عرضتها السورة على قصرها وإيجازها تشكل توجيهاً تربوياً معجزاً في حد ذاته، إلا أن حقيقة الإعجاز – في نظري – تتمثل في الأساليب التي قررت السورة من خلالها هذه الآداب لتترسخ حقائق ثابتة مستقرة في الضمير الإسلامي بحيث لا يكون انخرامها إلا نتيجة زلةٍ أو كبوةٍ عابرة، ولسوف أعرض هاهنا بعض معالم المنهج القرآني في هذه السورة التي تم من خلالها هذا التوجيه لتكتمل منظومة الإعجاز التربوي لهذه السورة العظيمة.
المطلب الأول: وسائل تعزيز التوجيهات التربوية والأخلاقية :
لقد تعددت وسائل التوجيه التربوي في هذه السورة الكريمة، ولم يكن هذا التعدد مجرد تنويع لغرض التنويع، وإنما غاية التوافق بين الغاية التربوية والطبيعة البشرية وفيما يلي إشارات عابرة لجملة من تلك الوسائل :
أولاً: الترغيب والترهيب:
إذا تأملنا مجموع الآيات التي ضمت الآداب والضوابط المتقدمة ظهرت لنا مجموعة من إشارات الترهيب والترغيب التي تذيل تلك الآيات بحيث تعمل مجتمعةً على تحقيق منظومة متزنة من الدوافع والموانع التي تدفع الفرد المسلم والمجتمع نحو السلوك المرغوب فيه وتحجزه عن السلوك المرغوب عنه.
فعلى صعيد الترهيب تجد قوله تعالى " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون"[64] تحذير وترهيب من عواقب الافتئات على الله ورسوله، وفي مقابل ذلك قوله تعالى ترغيباً في حال الملتزمين بأدب التوقف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم :"لهم مغفرة وأجر عظيم"[65]. وكذلك تجد وصف " أكثرهم لا يعقلون"[66] يقابله فتح باب التوبة والمغفرة " والله غفور رحيم"[67].وبهذا يتحقق التوازن بين الترغيب والترهيب توافقاً مع الاستعداد المزدوج في النفس البشرية لتحصيل ما فيه خيرها ودرء ما فيه شرها ومفسدتها، وما هذا إلا شاهدٌ من الشواهد الكثيرة على فطرية هذا الدين ومصدريته من لدن حكيم عليم، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ثانياً: التذكير بنعمة الله وفضله:
وهذا التذكير بالفضل مدعاة الالتزام بالهدي الإلهي والوقوف عند توجيهاته، تأمل على سبيل المثال قوله تعالى: " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون" فجعل العصيان والفسوق والكفر في مقابل نعمة الإيمان بحيث يرغب من استقر الإيمان في قلبه عن أن يجمع إليه من النقائض ما يكون كفراُ بنعمة الله عز وجل.
ولعل من أصرح العبارات القرآنية في هذا السياق قوله تعالى:" يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين"[68]، وهنا نكتة دقيقة وهي أنه لما ذكر امتنان الأعراب بالاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بلفظ الإسلام ليدل على عدم بلوغهم مراتب الكمال في حين أنه لما ذكر امتنان الله عليهم بهذا الدين جاء بلفظ الإيمان الدال على تمام نعمة الهداية[69] فتم فضل الله وظهر قصور عباده عن أداء حق الشكر كما زعموا، والله أعلم.
ثالثاً: بيان عواقب عدم التزام هذه الآداب:
لقد جاءت الآيات في هذه السورة بجملة من التنبيهات على خطورة العواقب المترتبة على ترك التزام منظومة الأخلاق القرآنية المعروضة، ففي سياق الأمر بالتثبت في الأخبار جاء التحذير من عاقبة الندم المترتبة على التصرف بغير علم وتثبُّت وتبيُّن ، فقال تعالى :"فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"[70]، وفي سياق النهي عن القبائح الاجتماعية – كالسخرية والتنابز واللمز – جاء التحذير من وقوع الظلم بين أفراد المجتمع نتيجة الاستهزاء بالغير والافتراء عليه ومبالغة الغير في الرد على تلك السخرية والافتراءات، فقال تعالى :"ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"[71] وهكذا.
رابعاً: تنمية الوازع النفسي للالتزام بهذه الأخلاق:
إن أحداً لا يستطيع أن يفرض التزام مبدأ من المبادئ أو خلقاً من الأخلاق بقوةٍ خارجية أو سلطة قانون، فها هي الدول اليوم تعيش تحت سلطة قوانين وضعية ونظم قضائية وشرطة وقوات عسكرية لكنها لم تستطع أبداً أن تحقق أي التزامٍ حقيقي بالأخلاق – إن صح أن يسمى ما عندهم أخلاقاً – ولهذا كان لا بد من حل هذه الإشكالية في منظومة الأخلاق الإسلامية، وليس أقدر على ذلك من قوله تعالى في ختام هذه السورة:" إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون"[72] إذ أن استشعار هذه الرقابة الدائمة من الله عز وجل كفيلٌ بتنمية الوازع النفسي في كل فردٍ بما يحقق التزامه بهذه الأخلاق والآداب ولو كان في خلوة من الناس أو معزل عن بطش السلطان وقهر السلطة والقانون، وبهذا فقط تنضبط منظومة الأخلاق في المجتمع. وبهذا يتبين لنا اكتمال عنصر آخر من عناصر الإعجاز في هذه السورة المباركة.
المطلب الثاني : تقرير جملة من المبادئ والثوابت العامة:
لقد قررت سورة الحجرات بعض المبادئ التي يعين فهمها على التزام منظومة الأخلاق الواردة في السورة، وبعض هذه المبادئ يؤصل المساواة بين الناس بحسب القدر المشترك من طبيعة الخلق البشري، وبعضها الآخر يؤصل للقدر المشترك الأدنى من مسمى الإسلام بين من ينتسبون لهذا ا لدين ويُفصِّل في مقدمات الترقي في درجات الإيمان الأعلى تاركاً تقرير تحقيق ذلك على الحقيقة إلى الله عز وجل، فلنتأمل هذه الآيات:" يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير. قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"[73] ويمكن تعداد المبادئ المستخلصة من هذه الآيات فيما يلي:
أولاً: عدم التفاضل في طبيعة الخلق:
فكلنا لآدم وآدم من تراب، ولا يرفع إنساناً فوق إنسان شيئ مما له علاقة بطبيعة الخلق البشري كاللون والعرق والجنس؛ فالأب واحد والأم واحدة كما قال :"إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وهذا نظير قوله تعالى :" يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً"[74] قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية :" فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم "[75] قلت: وبتقرير هذا المبدأ ينتفي في ذهن المكلف أي داعٍ من دواعي الاستعلاء على الغير من حيث صورة خلقه ونسبته البشرية، فينهدم ركن من أركان التفاضل الموهوم الذي قد يسوغ للبعض استحلال عرض أخيه بغيبة أو نميمة أو تجسس أو سخرية أو تنابز ولمز ونحوه.
ثانياً: معيار التفاضل بالتقوى:
بعد تقرير التساوي في النسبة الطينية ونقض التفاضل على أساسها كان من الطبيعي أن تنبه الآية على معيار التفاضل المعتبر شرعاً فقال تعالى:" إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[76] وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[77]
وهنا أمر مهم جداً وهو أنه لما كان معيار التفاضل المعتبر شرعاً هو التقوى ختمت الآية بقوله تعالى:"إن الله عليم خبير" [78] لتنبه إلى أن الله تعالى هو الذي يعلم المتقين من غيرهم، فقطعت بذلك الطريق على أي فرد يريد أن يتفاضل على غيره ولو في هذا المعيار، إذ ليس المقصود من تحديد التقوى معياراً للتفاضل أن يهزأ الناس بعضهم ببعض أو يستبيحوا غيبتهم أو لمزهم أو نحو ذلك لأنهم دونهم في التقوى، وإنما المقصود كف الناس عن بعضهم البعض وردهم في التفاضل إلى علم الله تعالى لأنه هو سبحانه وحده الذي يعلم المتقي على الحقيقة من غيره، ولقد جاء ذلك بوضوح تام في سورة النجم حيث قال تعالى:" فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"[79]

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]