غزوة حنين (2)
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فاستكمالًا للحديث عن غزوة حنين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس رضي الله عنه، وكان رجلًا صيِّتًا[1]: «يَا عَبَّاسُ! نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ»[2].
وفي رواية أخرى قال أنس رضي الله عنه: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! يَا لَلْمُهَاجِرِينَ»، ثم قال: «يَا لَلأَنْصَارِ! يَا لَلأَنْصَارِ»[3].
فلما سمع المسلمون نداء العباس رضي الله عنه أقبلوا، وهم يقولون: لبيك لبيك.
ويذهب الرجل ليُثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وتُرسه، ويقتحم عن بعيره، ويُخلِّي سبيله، فيؤم[4] الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[5].
قال العباس رضي الله عنه: «فوالله لكأن عطفتهم[6]، حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها»[7].
وتجالد الناس مجالدة شديدة، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من على بغلته كالمتطاول عليها ينظر إلى قتالهم، ثم قال: «الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ»[8]. ثم أخذ حصيات[9] فرمى بهن وجوه الكفار، وقال: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، فلم يبق منهم أحدٌ إلا امتلأت عيناه وفمه ترابًا[10].
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»[11].
ثم أيد الله چ رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن أنزل ملائكته لإرهاب الكفار، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة:25 - 27].
روى الإمام الذهبي بسند جيد عن عبدالرحمن مولى أم برثن، عمن شهد حنينًا كافرًا، قال: لما التقيا والمسلمون لم يقوموا لنا حلب شاةٍ، فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله، حتى إذا غشيناه إذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه، فقال: شاهت الوجوه، فارجعوا، فهُزمنا من ذلك الكلام[12].
وروى الإمام أحمد في مسنده عن يعلى بن عطاء قال: فحدثني أبناؤهم، عن آبائهم، أنهم قالوا: «وَسَمعْنِا صَلْصَلَةً[13] بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطِّسْتِ الْجَدِيدِ، فَهَزمَهُمُ اللهُ»[14].
روى ابن إسحاق في السيرة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا لا يضربون[15].
متابعة الكفار:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال يومئذ: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا[16]، فَلَهُ سَلَبُهُ»، فقتل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم[17].
شجاعة أم سليم رضي الله عنها:
وكانت أم سليم رضي الله عنها - والدة أنس بن مالك رضي الله عنه، وزوج أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه - قد خرجت مع زوجها، وكان معها خنجر، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟».
قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بقرت[18] به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ثم قالت رضي الله عنها: يا رسول الله! اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ»[19].
قصة صاحب الجمل الأحمر:
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «... وكان أمام هوازن رجل ضخم على جمل أحمر، في يده راية سوداء في رأس رمح طويل له أمام الناس، وهوازن خلفه، فإذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع لمن وراءه فاتبعوه، فرصد[20] له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورجل من الأنصار، كلاهما يريده، فضرب علي رضي الله عنه عرقوبي[21] الجمل، فوقع على عجزه[22]، وضرب الأنصاري ساقه، فطرح قدمه بنصف ساقه، فوقع، واقتتل الناس حتى كانت الهزيمة[23].
أبو قتادة رضي الله عنه وقتيله:
ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه، سلب رجل قتله، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا[24] رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إِليهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: مَا للنَّاسِ؟ قُلتُ: أَمْرُ اللهِ ﮎ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا[25]، وَجَلَسَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلْبُهُ»، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟» فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَسَلْبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ».
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لاها الله![26] إذًا لا يعمد[27] إلى أسد من أُسد الله، يقاتل عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ».
قال أبو قتادة: فأعطاني، فبعت الدرع، فابتعت[28] به مخرفًا[29] في بني سلمة[30]، فإنه لأول مالٍ تأثلته[31] في الإسلام[32].
قال الإمام البغوي في شرح السنة: «وفي الحديث دليل على أن كل مسلم قتل مشركًا في القتال يستحق سلبه من بين سائر الغانمين، وأن السلب لا يُخمس قل ذلك أم كثر، روى مسلم في صحيحه أن سلمة بن الأكوع قتل مشركًا، فجاء بجمله يقوده عليه رحله وسلاحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟»، قالوا: ابن الأكوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ»[33]. وسواء نادى الإمام بذلك أو لم يناد، وسواء كان القاتل بارز المقتول، أو لم يبارزه؛ لأن أبا قتادة قتل القتيل قبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلْبُهُ»، ولم يكن بينهما مبارزة، ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم جميع سلبه له، فكان ذلك القول من الرسول صلى الله عليه وسلم شرع حُكْمٍ، وهذا قول جماعة من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي[34].
شدة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى[35] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه[36]، ثم انتزع طلقًا[37] من حقبه[38] فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر[39]، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله، فأطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه، فأثاره، فاشتد به الجمل، [وهو طليعة[40] للكفار]، فاتَّبعه رجل على ناقة ورقاء[41]، قال سلمة رضي الله عنها: وخرجت أشتدُّ، فكنت عند ورك[42] الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام[43] الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت[44] سيفي، فضربت رأس الرجل، فندر[45]، ثم جئت بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟».
قالوا: ابن الأكوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ»[46].
الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن خالد بن الوليد رضي الله عنه:
تقدم في بداية أمر حنين هزيمة المسلمين، وأن هوازن استطاعت من خلال الكمائن أن تضرب مقدمة المسلمين مما أدى إلى فرارهم، ومن بين الذين جُرحوا وسقطوا من شدة الجراح خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلما أنزل الله نصره على المؤمنين، وفرت هوازن، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد روى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح عن عبدالرحمٰن بن أزهر رضي الله عنه قال: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فكان على خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «مَنْ يَدُلُّ عَلَى رَحْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ؟».
قال ابن الأزهر: فمشيت، أو قال: سعيت بين يديه، وأنا محتلم أقول: من يدل على رحل خالد بن الوليد؟
حتى دُللنا على رحله، فإذا هو قاعد مستند إلى مؤخر رحله، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى جرحه، قال الزهري: وحسبت أنه قال: ونفث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم[47].
وظل المسلمون يتبعون الكفار حتى تفرقوا في كل وجه، لا يلوي أحد على أحد، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة - وهم الطلقاء - لما رأوا من نصر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى في يوم حنين قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 25 - 26].
وهكذا انهزم الكفار هزيمة منكرة، وغَنِمَ المسلمون نساءهم وذراريهم وأنعامهم.
يتبع