جهاد السلف في حفظ العقيدة
محمد بن عبد الرحمن المغراوي
إنْ كنت قرأت كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كتاب "التوحيد" المشهور المعروف، فإنَّ الإمام ابن عبد البر قد جمع من البحوث في هذا الكتاب ما يجعلك تقارن بين عناوين الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر - رحمه الله - في كتاب "التمهيد".
وكذلك ردُّه على الجهميَّة فله بحوثٌ مُتَكامِلة في ردِّه على أهل التجهُّم المنكِرين للصفات، وقد أكثَرَ النقل من كتاب الحافظ ابن تيميَّة - رحمه الله - وتلميذه العلاَّمة ابن القيِّم في كلِّ كتبه؛ يعني: شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمة الله عليه - في بحوثه في هذا الباب يُكثِر من النَّقل عن الإمام ابن عبد البر، وكذلك ابن القيِّم في كتابه: "الصواعق في اجتماع الجيوش الإسلامية" فإنَّه ينقل ما يناسب بحثه من هذا الكتاب، وكذلك في ردِّه على المرجئة وعلى الخوارج، وهكذا في ردِّه على الذين يطعنون في صَحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتجدُ له البُحوثَ النفيسة في هذا الباب المهم، أمَّا في الاعتِصام بالكتاب والسنَّة فقلَّ ما يمرُّ حديثٌ يشرَحُه الإمام ابن عبد البر إلا وتجدُ له كتابًا في الحثِّ على الكتاب والسنَّة.
فالإمام ابن عبدالبر - رحمه الله - في شرحه لكتاب "الموطأ" في كتابه "التمهيد" الذي انتقل مرفوع منه أو ما هو في حكم المرفوع، فإنَّك تجد فيه العقيدة السلفيَّة مشروحة بأسانيدها وبآثارها وبفقهها، وإنْ شئت فارجِعْ إلى ذلك تجده مبينًا ومبسطًا، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على حِفظ عُلَماء الإسلام لهذا الدِّين، فالموطأ - كما قلت - الذي يتبادَر إلى الذهن أنَّه كتاب فقه وكتاب أحكام، ولكن إنْ رجعت إلى شرح الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله - فإنَّك تجد هذا الإمام قد جمَع في هذا الكتاب الخير الكثير، وقد صَبَّ في هذا الكتاب من مصادر السنَّة من "مصنَّف عبدالرزاق"، ومن "مصنف ابن أبي شيبة"، ومن مصنفات الطحاوي، ومن مصنفات بقي بن مخلد، ومن بقيَّة المصنفات.
أمَّا كتب السنن الأربعة والصحيحان: البخاري ومسلم، فإنَّه -رضي الله عنه- استظهرهما في كتابه هذا بأسانيده إلى تلك الكتب فينقل بأسانيده بينه وبين البخاري، وبينه وبين مسلم، وبين بقيَّة السنن ما بينهما إلا رجلان فإنَّه يذكر سنده إلى هذه الكتب، وإنَّ "التمهيد"؛ لابن عبدالبر -رحمه الله- يُعتَبر موسوعة في كتب السنَّة وفي كتب الآثار، سواء الموجود منها أو المفقود؛ لأنَّ كتب بقي بن مخلد مفقودة، وكذلك بعض التفاسير السلفيَّة التي ينقل منها الحافظ ابن عبدالبر -رحمه الله- مفقودة، الشاهد أنَّ كتاب "الموطأ" الذي ألَّفَه الإمام مالك - رحمه الله - في وقتٍ مبكر، وأيضًا قيَّض الله له في وقتٍ مبكر مَن يشرحه الشرح الوافي.
وقد أضافَ إلى "التمهيد" كتاب "الاستذكار"، وشرح ما شرحه في "التمهيد"، واقتصر ما اقتصر، وأضاف إلى ذلك الآثار، فإنَّ الذي ينظُر إلى هذا العمل العظيم في شرح الموطأ، وبهذه الطريقة السلفية، وبسياق الأسانيد، وذكر الشواهد، والطرق، والكلام عن الأسانيد - فإنَّه يرى حِفظ الدِّين بكماله وبتمامه.
فإنَّ شرح الموطأ يُعتَبر أساسًا وأصلاً من الأصول للشراح الذين جاؤوا بعده مثل شراح البخاري؛ ولهذا تجدُ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "فتح الباري" ينقله لتمهيد ابن كثير، بل غالب طريقة الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري تعتمد على طريقة الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله - ولهذا استفاد منه الفائدة الكبيرة، ويذكر ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرحه "فتح الباري".
وكذلك الشروح التي سبقت الحافظ ابن حجر مثل شرح أبي الوليد الباجي المسمى بـ"المنتقى"، فإنَّه استفاد من هذا الشرح العظيم، وكذلك بقيَّة الشراح الذين جاؤوا بعد الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-.
الشاهد: أنَّ البِدَع لما ظهرت في هذا الوقت في عهد الإمام مالك فإنَّ هؤلاء العلماء قد ألَّفوا كتبهم للردِّ على هذه البدع، فلا بأس الآن أنْ أذكُر على سبيل الأمثلة فقط ما ألَّفَه العلماء في الدفاع عن العقيدة.
وقد جمعت هذا في كتاب وسميته "المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية"، وقد جمعتُ مجموعةً من المصادر العلميَّة التي وقفتُ عليها من خِلال المصادر، ومن خِلال كتب الطبقات، وكتب السِّيَر، وكتب التواريخ، وكتب العقيدة، وكتب التفاسير، فإنَّني وقفت على مجموعةٍ من المصادر التي تُدافِع عن العقيدة السلفية، ولا أدَّعي أنَّني استوعبت وأحصيت كلَّ شيء؛ فهذا ليس لي، وإنما وقفت على بعض المعلومات، فحسبي أنْ أكون قد بدأت في هذا الموضوع، ولعلَّ غيري قد يستكمل الباقي، فإنَّ المصادر العلميَّة في الدفاع عن العقيدة السلفية طيلة هذه العصور التاريخيَّة كثيرة، وقد أشرتُ لكم بأنَّني قد جمعتُ أكثر من ألف ومائة إمام من الذين كانت لهم مواقف في الدفاع عن العقيدة السلفيَّة، والأمر أكثر من ذلك؛ فالإمام أبو حنيفة - رحمه الله - المتوفَّى سنة 150هـ له كتابٌ يسمى بـ"الفقه الأكبر"، هذا الكتاب فيه بحوث طيِّبة جيدة، وإنْ كان بعض المعاصرين يتكلَّمون في نسبة الكتاب إلى أبي حنيفة، ولكن كل الذين ترجموا له والذين نقَلُوا من هذا الكتاب ينسبون هذا الكتاب إلى أبي حنيفة، وهذا الكتاب قد سُجِّل رسالة دكتوراه، وقد نُوقِشت هذه الرسالة لكن هل صاحبها وصَل إلى نتيجة معيَّنة في إثبات الكتاب أو في نفيه عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أو ماذا؟
المهم؛ كلُّ الذين ينقلون من هذا الكتاب ينسبونه إلى الإمام أبي حنيفة ومنهم شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمة الله عليه - وهو الإمام المحقِّق، كذلك الإمام حمَّاد بن سلمة المتوفَّى 167هـ - بمعنى: أنَّ هذا كلَّه كان في وقت مبكِّر - له كتاب اسمه "الصفات" ونقل منه ابن تيميَّة - رحمة الله عليه - في الجزء الخامس في فتاويه، نقَل منه عباراتٍ يستدلُّ بها على إثبات الصفات، وكذلك عبد الله بن فروخ تُوفِّي 176هـ قد ألَّف كتابًا سماه "الرد على أهل الأهواء والبدع" في ذلك الوقت في آخِر القرن الثاني، وكذلك مالك المتوفَّى سنة 179هـ، وقد ذكرت بعض الحديث عنه، والعبارة التي ذكرها شيخ الإسلام في الجزء الخامس، قال: وقد جمعتُ هذا خوفًا من الجهميَّة أنْ يضلُّوا الناس.
وكذلك تلميذه عبد الرحمن بن القاسم، وهو تلميذ خاص للإمام مالك، وهو الذي نشَر مذهبه - أي: مذهب الإمام مالك – وعبد الرحمن بن القاسم إمامٌ مشهور عند المالكيَّة، إذا ذُكِر المالكيَّة وذُكِرَ أئمَّةُ المالكية فإنَّ أوَّل ما يذكر هو عبد الرحمن بن القاسم.
وكانوا يذكرون لنا ونحن صِغار عن عبدالرحمن بن القاسم أنَّه جلس عند الإمام مالك - رحمه الله - ثماني عشرة سنة تعلَّم فيها الفقه وسنتين تعلَّم فيهما الآداب والأخلاق عن الإمام مالك، هذه حكايةٌ للصِّغار، ثم ندم على أنَّه جلس المدَّة هذه للتفقُّه، ومدَّة قصيرة للتأدُّب، فكان يتمنَّى أنْ يعكس الأمر، فيجلس ثماني عشرة سنة للتأدُّب، ويجلس سنتين للتفقُّه.
المهم؛ أنِّ ابن القاسم له رسالةٌ اسمها "السنة"، وقد نقل منها الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - نموذجًا في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وكذلك الإمام وكيع بن الجرَّاح المتوفَّى سنة 196هـ، وهو من كِبار المحدِّثين، له كتابٌ عظيم في الزهد، وله مواقفُ عقديَّة ودائمًا إذا ذكَرْنا كتب الزهد فدائمًا يُقصَد بها الرد على المتصوِّفة الذين يتزهَّدون، والذين يتصنَّعون التزهُّد، فهؤلاء الأئمَّة يُؤلِّفون هذه الكتب للردِّ على المتصوِّفة في بيان الزهد الحقيقي الذي كان عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيذكُرون الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة التي جاءَتْ عن السلف والأحاديث التي صحَّت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الكتاب موجودٌ، وقد حُقِّقَ في رسالة علميَّة، وذكر صاحبه أخونا عبدالرحمن الفيروائي مقدِّمةً طيِّبة في عقيدة الإمام وكيع بن الجرَّاح وهي مقدمة مهمَّة.
ثم إنَّ الإمام الشافعي - رحمه الله - الذي تُوفِّي سنة 204هـ له "الرسالة"، وقد تكلَّمتُ عليها وعلى مُجمَل ما يتعلَّق بهذه الرسالة، فإنَّه رَدَّ فيها على أهل الباطل الذين حاوَلوا أنْ يردُّوا خبر الآحاد بزعْم أنَّ أخبار الآحاد ظنيَّةٌ ولا يصحُّ الاستدلال بها في باب العقيدة، وقد نحى نحوَه الإمامُ ابن حزم كما أشرتُ، وكذلك الإمام العلاَّمة ابن القيِّم - رحمه الله - في كتابه "الصواعق"، فما ترك لأحدٍ بعده مقالةً، فكلُّ مَن ألَّف بعدَ الإمام ابن القيِّم فإنَّه لا يستطيع إلا أنْ يذكر كلام ابن القيِّم الذي توسَّع في هذا الباب، وكذلك الإمام سليمان بن داود الطيالسي الذي تُوفِّي في السنة نفسها الذي توفي فيها الإمام الشافعي، وله كتاب "المسند" ودائمًا كما أشرتُ سابقًا فإنَّ المسانيد وكتب السنن فيها من أحاديث العقيدة، أمَّا الإمام البخاري - كما سيأتي - فإنَّه قد خصَّص كتبًا مُعيَّنة للعقيدة، ويقصد بهذه الكتب الردَّ على أهل البِدَع كما سيأتي، أمَّا أصحاب المسانيد فإنهم يسردون لأنَّ المسند دائمًا يُؤلَّف على طرقٍ مختلفة، وما ذهَب عليه الإمام أحمد - رحمه الله - فإنَّه جمع أحاديث الصحابة؛ فبدأ بأبي بكر الصديق، ثم بعمر بن الخطاب، ثم بعثمان بن عفان، ثم بعلي بن أبي طالب، وهكذا - رحمه الله - ذهب يُرتِّب على مسانيد الصحابة في أهل الفتح، وأهل الحديبية؛ يعني: بدأ بالخلفاء الأربعة لأفضليَّتهم على بقيَّة الصحابة، فالإمام أحمد - رحمه الله - جمَع في مسنده مسانيد الصحابة الذين عدَدُهم فوق تسعمائة صحابي، وفي مسند الإمام أحمد - رحمه الله - فوق تسعمائة صحابي جمع الإمام أحاديثَهم.
ويُعتَبر في واقع السنَّة هذا الكتاب من أكبر الموسوعات التي بين أيدي المسلمين الآن، ويُعتَبر هذا الكتاب من أحسن الكتب للذي يريد أنْ يأخُذ العلم عن السَّلَف الصالح، وبأسانيد طيِّبة نقيَّة؛ لأنَّ أسانيد الإمام أحمد - رحمه الله - الغالب عليها النظافة، والغالب عليها النقاء، وإنْ كان في بعضها ضعف، وقد سُئِلَ بعضُ السلف: هل تحفظ الكتب الستَّة؟ قال: نعم، فلمَّا حقق معه وجدوه يحفَظ مسند الإمام أحمد.
فإنَّ الكتب الستَّة التي هي: البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وموطأ الإمام مالك، على خِلافٍ في قضيَّة عدِّ الكتب الستة هل السادس هو الموطأ أو السادس هو ابن ماجه، أو السادس هو الدارمي، فالمهمُّ أنَّ موسوعة الإمام أحمد في مسنده قد التقَتْ فيها هذه الكتب، وقل أنْ يندَّ حديثٌ من الكتب الستة عن مسند الإمام أحمد؛ وهذا لأنَّ الإمام أحمد - رحمه الله - هو شيخ البخاري المباشر، وشيخ المشايخ، وهو إمام الأئمَّة وأصحاب الكتب الستَّة، والذين جاؤوا بعده ما استفادوا إلا من الإمام أحمد ومن غيره من الذين هم على مِنواله، فهو شيخ البخاري، والبخاري شيخ مسلم، والبخاري شيخ الترمذي، والإمام الشافعي شيخ الإمام أحمد، وهكذا تجدُ هذه السلسلة المباركة متَّصلة بعضها ببعض، الواحد منهم يأخُذ عن الثاني، والواحد منهم يستفيد من الثاني، وكان هذا هو منهاجهم - رضي الله عنهم وأرضاهم-.
المهمُّ أنَّ طريق المسانيد وطريق المعاجم تختلف عن طريقة السنن وعن طريقة الصِّحاح مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ فإنَّ هذه رُتِّبتْ على الأبواب، وتلك إمَّا عن الشيوخ كما هو واقعٌ في معاجم الطبراني، وإمَّا عن المسانيد كما هو واقعٌ في مسند الإمام أحمد - رحمه الله -.
عبدالرزاق الصنعاني المتوفَّى سنة 211هـ وكتابه "المصنَّف"، وهو من أكابر الموسوعات الحديثيَّة التي اشتَملتْ على نُصوصٍ كثيرة في العقيدة السلفيَّة.
كذلك إسماعيل بن حمَّاد المتوفَّى في 212هـ، وله كتاب "الرد على القدرية" ذكَرَه الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان"، وذكَرَه صاحب "كشف الظنون"، وذكره صاحب "الفوائد البهية" اللكنوي، المهم هذا إذًا من الكتب العقائدية، كذلك أسد السنَّة له كتاب "السنة والزهد"، وهذا الكتاب ذكر الدعوة السلفيَّة، ثم سنن أبي داود - رحمه الله - المتوفَّى سنة [27هـ، وله تفسيرٌ على طريقة السلف، وقد ذكَرَه شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في "درء تعارض العقل والنقل" وجعَلَه من الكتب السلفيَّة، كذلك محمد بن سلام الكندي المتوفَّى سنة 227هـ، وكتابه "السنة والجماعة".
وقد ذكَرَه شيخ الإسلام - رحمه الله - في فتاويه الكبرى، ونقَل منه نقولاً كثيرة في غير ما موضع من كتابه، وكذلك مُسدَّد بن مُسَرهَد له كتاب "المسند" وقد سبق الحديث عن هذا، كذلك نعيم بن حماد الخزاعي، وهذا وإنْ تُكُلِّمَ فيه من رواياته للحديث، لكنه كان إمامًا مبجلاً معظَّمًا في باب العقيدة؛ فله كتاب "الصفات والرد على الجهمية"، ذكَرَه شيخ الإسلام في "الفتاوى الكبرى" في العقيدة، كذلك له كتاب "الفتن والملاحم"، وقد نُشِرَ هذا الكتاب وحُقِّق، وكذلك عبدالله بن محمد الجعفي له كتاب "الصفات والرد على الجهمية" ونقل منه شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة له كتبٌ في هذا الباب؛ له "المصنف" وهو كتاب عظيم قد أشرت إليه، وله كتاب "المسند"، وله كتاب "الإيمان" وقد حقَّقه الشيخ الألباني - رحمه الله رحمةً واسعة-.
وكذلك الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني وله كتاب "الحيدة"، وهذا الكتاب عبارةٌ عن مُناظرةٍ بين الكناني وبين بشر المريسي بحضرة المأمون، ولها قصَّة طويلة قد ذكَرَها في الكتاب، وهو من أنفَسِ الكتب ومن أعظمها فائدةً في هذا الباب؛ يعني: مناظرة عجيبة وغريبة، ويتعجَّب مَن قرَأَها في ثَبات المأمون على قضيَّة القول بخلق القرآن، فإنَّ هذا الرجل عبدالعزيز الكناني وقد وصفوه بما وصفوه من دمامة في خلقته ومع ذلك فيه من الشجاعة وعنده من الحجَّة ومن البيان في هذا الباب ما يتعجَّب منه مَن قرأه، وحاوَل بعض المنحرفين المعاصرين التشكيك في هذا الكتاب، وكذلك الذهبي أشار إلى هذه القضيَّة، ولكنَّ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمة الله عليه، وهو الإمام - ينقل منه ويذكره، وكذلك غيره، وكذلك إمام الأئمَّة الإمام أحمد - رحمه الله - المتوفَّى 241هـ.
الإمام أحمد هذا بداية المعلمة الثالثة في تاريخ العقيدة، إذا كانت المَعلَمة الأولى تبدأ بالأنبياء، والمَعلَمة الثانية تبدأ بأبي بكرٍ الصِّدِّيق، فهذه المَعلَمة الثالثة التي تبدأ بالإمام أحمد، والمَعلَمة الرابعة تبدَأ بشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمة الله عليه - والمَعلَمة الخامسة تبدأ بشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهَّاب- رحمة الله عليه-.
فهذه المعالم في العقيدة السلفية دائمًا ينبغي أنْ نربط بعضها ببعض؛ أي: إنَّ مَعلَمة الأنبياء وهم السادة، ومَعلَمة الصحابة والذين تبعوهم بإحسان وهم السادة، فهذه المَعلَمة الثالثة التي يبدأ بها الإمام أحمد - رحمه الله - فهو بداية خير، وكان لهذه المَعلَمة أثَرٌ كبير على الأمَّة الإسلاميَّة من بدايتها إلى يومنا هذا، فإذا ذُكِرَ إمام أهل السنَّة فإنَّه ينصرف إلى الإمام أحمد - رحمه الله - فقد ثبت في المحنة، وأصبح نموذجًا لكلِّ خَلَفٍيأتي بعدَه، والذي إذا ابتُلِي يَطلُب من الله - تبارك وتعالى- أنْ يَرزُقه الصبر والثبات على ما هو عليه، فهذا الإمام - رضي الله عنه وأرضاه - تناوَلَه ثلاثةٌ من خلفاء بني العباس، وعذَّبوه شرَّ التعذيب، وسجنوه، وما تركوا وسيلةً من الوسائل التي يمكن أنْ تُسلَّط على رجلٍ إلا وسلَّطُوها على الإمام أحمد، ولكنَّ الله -تبارك وتعالى- ثبَّتَه وجعله مثالاً لكلِّ مَن يأتي بعده، فقد تشبَّه بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين عُذِّبوا والذين قتَلهُم بنو إسرائيل، ولقد تشبَّه - رضي الله عنه - بخيرة الصحابة الذين كانوا يُسحَبون على بُطونهم في الرمضاء، والذين كانت تُوضَع الحجارة على بُطونهم، وقد تشبَّه بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لقي في سبيل هذه الدعوة من الأذى ومن الشَّتم، ومن الدعاوى الباطلة، ومن التُّهَم الكاذبة ما ذَكَره الله -تبارك وتعالى- في كتابه، فالإمام أحمد إنْ ثبت في هذه المحنة فإنَّ الأنبياء والصحابة والتابعين هم سلَفُه في هذا الباب، وقد مثَّل الأمَّة خيرَ تمثيل؛ ولهذا فإنَّ الإمام ابن تيميَّة - رحمة الله عليه - كان مثاله الإمام أحمد، وكذلك الإمام ابن عبدالوهاب - رحمه الله - كان مثاله الإمام ابن تيميَّة، فكلُّ هذه الحلقات قد ظهَر أثرها على الأمَّة الإسلاميَّة.
فدعوة الإمام أحمد وثَباته كان له أثَرٌ، وبقي أثرُه إلى يوم القيامة؛ ولهذا الحنابلة في كلِّ مكانٍ تجد لهم أثَر التمسُّك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم أفضل من غيرهم في قضية التمسُّك بالسُّنَّة؛ فلهذا فإنَّ الذين دافَعوا عن العقيدة - عقيدة الأسماء والصفات - أكثر من غيرهم هم الحنابلة في العصور المتأخِّرة؛ ولهذا يقلُّ الانحِراف في باب الأسماء والصفات في الحنابلة؛ ولهذا فإنَّ الذين انحرَفُوا من الحنابلة عددهم قليل، والذي كان على منهاج السلف في باب الأسماء والصفات هم - بفضل الله - تعالى - العدد الكثير؛ ولهذا فإنَّنا ذكرنا الذين انحرَفُوا من الحنابلة ما نذكُر إلا ابن الجوزي الذي انحرَف في باب عقيدة الأسماء والصفات، ونذكُر ابن عقيل أيضًا الذي انحرَف، ونذكُر بعض الأعداد التي تعدُّ على رؤوس الأصابع، بخلاف معظم الحنابلة.
إذا رجعنا إلى طبقة ابن أبي يعلى فإنَّا نجد فيها من الخير الكثير، ومن الثبات العظيم، ومن الثبات القوي على عقيدة السلف، وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أثَر الإمام أحمد - رحمه الله - على أتْباعه، وعلى الذين دخَلوا في مذهبه، وكان مذهبه - رضي الله عنه - هو الدعوة إلى كتاب الله، والدعوة إلى سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا كان يتبرَّأ من التقليد تبرُّؤًا وبراءة، ويقول: لا تكتبوا عنِّي شيئًا؛ فلعلِّي أرجع عنه غدًا، وكان يتمسَّك بالدليل ويقول: عجبتُ لقومٍ تركوا الإسناد وذهبوا إلى قول فلان، وإلى قول علان، فإنَّ الإمام أحمد - رحمه الله - في أقواله وفي سِيرته وفي كتبه تجدُ السنَّة ظاهرة ناطقة؛ ولهذا جُمِعَتْ له رسائل وجمعت له كتب، ومن أعظم الموسوعات التي خلَّفها الإمام أحمد هو كتابه "المسند" وقد تكلَّمت عليه فيما سبق.
وقد حوى هذا الكتاب من أصول العقيدة، ومن أصول السنَّة، ومن أصول المنهاج الصحيح، ومن أصول التمسُّك بكتاب الله وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما إذا درج إليه طالب العلم يجد أنَّ هذا الكتاب هو ذخيرة وموسوعة للأمَّة الإسلاميَّة، والإمام أحمد - رحمه الله - له رسائل خاصَّة في الدفاع عن العقيدة، وهذه الرسائل حُقِّقت وجمعت وطبعت - والحمد لله ربِّ العالمين - له رسالة "الاستخارة"، وله رسالة "عبدوس"، والإمام أحمد - رحمه الله - يُوجِّه رسالةً إلى بعض المنحرِفين في العقيدة يُبيِّن له العقيدة الصحيحة، هذه الرسائل كلُّها مذكورةٌ في طبقات الحنابلة في ترجمة الإمام أحمد، فمَن شاء الرُّجوع إليها فليفعل؛ وذلك للاختصار.
عندنا محمد بن أسلم الطوسي تُوفِّي سنة 242هـ له "الرد على الجهمية" وله "الرد على الكرامية"، ومحمد بن يحيى العدني له كتاب "الإيمان" و"مسند ابن أبي عمر"، وعبد بن حميد، وخشيش بن أصرم النسائي له كتب "الاستقامة في الرد على أهل الأهواء والبدع" ذكَرَه الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ".
الإمام الدارمي صاحب السنن، هذا الإمام عظيمٌ، وكتابه كتابٌ عظيم، وهو يُسمَّى بـ"سنن الدارمي"، وهو مطبوعٌ وفيه مقدِّمة عظيمة في العقيدة السلفيَّة، ذكَر فيها الأمر باتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكَر فيها الأحاديث التي تُحذِّر من البِدَعِ، وذكَر فيها الآثار السلفيَّة في التحذير من البدع، والتمسُّك بالسنن، وهو أنظف سندًا من كثيرٍ من الكتب، وهو طبعًا عالٍ؛ يعني: من الأسانيد العالية، فهو مُتقدِّم لأنَّه تُوفِّي سنة 255هـ، ولَمَّا تُوفِّي الإمام الدارمي قال فيه الإمام البخاري بيتًا من الشعر، قال:
إِنْ عِشْتَ تُفْجَعُ بِالأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ *** وَبَقَاءُ نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ أَفْجَعُ
هذا من إنشاد الإمام البخاري - رحمه الله - في شيخه، انظروا إلى حالة الشيوخ مع تلامذتهم كيف كان الربط بين الشيخ وبين تلميذه، والحب الذي كان يكنُّه التلاميذ لمشايخهم، وأمَّا الآن فالله المستعان، ما بينه وبين الطالب إلا الفصل، فإذا خرَج من الفصل فكأنَّه لا يعرفك، فلا يُناديك إلا باسمك وكان قبلها لا يُناديك إلا باسم "الأستاذ"، وهذا إنْ لم يقع في عرضك، وإنْ لم يقع في سيرتك! أمَّا إنْ سلمت من شرِّه فأنت طيب جيِّد.
أمَّا سلفنا الصالح فكانوا يعتَرِفون لمشايخهم بالجميل، ويُثنون عليهم، ويتأسَّفون على وفاتهم، وما ذكرت لكم عن البخاري في شيخه الدارمي فإنَّ هذا نزرٌ يسير ممَّا هو مذكورٌ في تراجم المفسِّرين.
الإمام البخاري توفي سنة 256هـ، وهذا كنَّا قد قُمنا بمحاضرةٍ عنه في مقرِّ جمعيَّة إحياء التراث قبل سنين، الإمام البخاري - رحمه الله - يذكرون في سبب تأليفه الجامع الصحيح أسبابًا:
السبب الأول: يقولون: إنَّ الإمام إسحاق بن إبراهيم هو الذي اقتَرَح عليه أنْ يجمع كتابًا في الصحيح، والقول الثاني: أنَّ الإمام البخاري رأى رؤية مناميَّة أنَّه يدفع الذباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعبَّرها له بعض المعبرين بأنَّه يذبُّ الضعيف والموضوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: يدافع عن السنَّة، وأنا أقول: إنَّ الإمام البخاري - رحمه الله - ألَّف كتابه للرد على المبتدعة؛ والدليل على ذلك أنَّ البخاري ما ترك بدعةً من البِدَع إلا وعَنْوَنَ لها بكتاب، ردَّ على الجهمية بكتاب طويل وهو من أطول كتب الجامع الصحيح وسماه: (كتاب التوحيد والرد على الجهمية) وهو آخِر كتابٍ في الجامع الصحيح، والذي يتتبَّع تبويبات البخاري في هذا الكتاب يرى أنَّ هذا إمام الأئمَّة، وأنَّ هدفه في هذا الكتاب هو الردُّ على المبتدعة؛ فلهذا حاوَل أنْ يتتبَّع المسائل المختلف فيها، والشُّبَه التي أثارها الجهميَّة في ذلك الوقت فبوَّب عليها أبوابًا في كتابه الذي سمَّاه (كتاب التوحيد والرد على الجهمية)، وكتابه (القدر) فماذا يقصد الإمام البخاري في هذا الكتاب؟ الرد على القدرية، وكتابه (الإيمان) فماذا يقصد الإمام - رحمه الله -؟ يقصد الرد على المرجئة، والخوارج، وقد فعل.
الذي يتتبَّع كتاب الإمام البخاري بابًا بابًا يرى أنْ الإمام البخاري - رحمه الله - يقصد في هذا الكتاب الرد على المرجئة وعلى الخوارج، وكذلك كتابه "فضائل الصحابة" الذي يُعتَبر من أوسع ما أُلِّفَ في فضائل الصحابة، فماذا يقصد الإمام البخاري - رحمه الله - في هذا؟ الرد على الرافضة، وألَّف كتابه "أخبار الآحاد"، فماذا يقصد به؟ الرد على مُنكِري أخبار الآحاد، وألَّف كتابه "الرقاق" فماذا يقصد به؟ الرد على المتصوِّفة الذين يتزلَّفون ويتملَّقون ويُظهِرون للناس أنهم أهل نسك وأنهم أهلُ زهد، ولكنَّ الواقع أنَّ السنَّة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي ما بيَّنَه الإمام البخاري - رحمه الله - في "الجامع الصحيح".
وكذلك كتابه (بدء الخلق) هذا كتاب عقيدة، فإنَّه يردُّ على المنكِرين للجنِّ، والمنكِرين للشياطين، والمنكِرين لكثيرٍ من أصول العقيدة، فقد خصَّص في هذا الكتاب أصول الخلق، وذكرها أصلاً أصلاً في هذا الكتاب.
وكذلك كتاب (الأنبياء) فإنَّه يقصد بذلك الردَّ على منكِري النبوَّة، وقد بدأ به في أوَّل الجامع وكرَّره في وسط الجامع، وهكذا تجدُ الإمام البخاري - رحمه الله - في كتابه "الجامع الصحيح" إنْ جمعت كتب العقيدة فإنها تجتمع لك عقيدة كاملة بجميع أبوابها: في النبوَّة، في العبادة، في التوحيد، في الأسماء والصفات، في القدر، في أصول الاستدلال، في كلِّ ما تريد، فإنَّ كتاب البخاري - رحمه الله - يُعتَبر أصلاً من هذه الأصول؛ فلهذا الإمام البخاري - رحمه الله - ألَّف "الجامع الصحيح" وغيرَه من الكتب في الردِّ على أهل البِدَعِ، ولهذا ألَّف كتابه "خلق أفعال العباد" يردُّ فيه على الجهميَّة، وكذلك ألَّف كتابه "جواز القراءة" يردُّ فيه على الحنفيَّة المقلِّدة الذين يُنكِرون القِراءة خلف الإمام في ذلك الوقت، وألَّف كتاب "جواز رفع اليدين" يردُّ فيه على الحنفيَّة الذين ينكرون رفع الأيدي في الصلاة في الأربعة مواضع، وكذلك كتبه: "التاريخ الكبير"، و"التاريخ الصغير"، وبقيَّة كتبه تجدُ فيها كلِّها الكلام عن المبتدِعة.
إذا رجعت إلى ترجمة المبتدِع فإنَّ الإمام البخاري - رحمه الله - ينبري له، ويتكلَّم عليه بالكلام الذي يَلِيقُ به، فكتب الإمام البخاري - رحمه الله - كلُّها تصبُّ في مَصبٍّ واحد؛ وهو بيان السنَّة والرد على أهل البدع، فالشاهد أنَّ هذا الباب هو بابٌ طويل، وسبحان الله وبحمده