وليعطي الموضوع حقه، ويحيط به من كل الجوانب، فإن ابن مالك إذا رأى بعض الكلمات تحتاج إلى شرح، فإنه يقوم بشرحها، وهذا من تمام إحاطته بالموضوع، فعند الحديث عن (الحَم) مثلًا يقول: "والحَمُ هو زوج المرأة وغيره من أقاربه، هذا هو المشهور، وقد يطلق على أقارب الزوجة"[21].
يعد ابن مالك إمام النظم في علوم العربية، فهو صاحب الباع الطويل في هذا الميدان ذو ثقافة واسعة وأسلوب عربي سليم، مكَّناه من القدرة على استيعاب النحو العربي بمسائله وقضاياه التركيبية والتصريفية إلى جانب الأمثلة والشواهد المتنوعة وصوغها في هيئة منظومة دون أن يفلت منه الوزن[22].
فهو أشهر من ألف في الشعر النحو التعليمي، وأن ألفيته في النحو والصرف خير دليل على ذلك، فقد جمع فيها أبواب النحو والصرف بصورة سهلة، وبعيدًا عن الخلاف والتعقيد.
وإذا كانت الألفية أشهر منظومات ابن مالك، فقد استمدت شهرتها من أنها خلاصة دقيقة لأهم قواعد العربية، فاهتم العلماء بشرحها والتعليق عليها، ولكنها ليست الوحيدة، وإنما هناك عدة منظومات لابن مالك حاول من خلالها التطرق إلى عدة مواضيع بطريقة سهلة وواضحة؛ مثل: الإعلام بمثلث الكلام، وهي أرجوزة في نحو ألفين وسبعمائة وخمسين بيتًا، جاءت المقدمة في ستة وثلاثين بيتًا، والخاتمة في أربعة، واختص مثلث اللفظ متحد المعنى من الأسماء بستة وثمانين بيتًا، ومن الأفعال باثنين وعشرين، والباقي قسمه على ثمانية وعشرين بابًا من المثلث المختلف المعاني، وقد جاء هذا القسم مرتبًا وَفق ترتيب حروف الهجاء.
ولابن مالك منظومة أخرى هي "تحفة المودود في المقصور والممدود"، وهي قصيدة أبياتها مائة واثنان وستون بيتًا التزم فيها ابن مالك قافية واحدة هي الهمزة[23].
وله منظومتان في الفرق بين (الظاء) و(الضاد)؛ هما: "الاعتضاد"، و"تحفظ الإحظاء"، تقع الأولى في اثنين وستين بيتًا من البحر البسيط، واشتملت الثانية على مقدمة وثلاثة فصول، وعدد أبياتها أربعة وتسعون، إضافة إلى "لامية الأفعال"، وهي قصيدة من البحر البسيط، أبياتها أربعة عشر ومائة، وكذلك "النظم الأوجز فيما يهمز ولا يهمز"، وهي منظومة عدد أبياتها تسعة عشر ومائتان.
وتكمن أهمية هذه المنظومة في كونها تجسد في دقة بالغة خلاصةَ التجربة اللغوية التي عاش ابن مالك حياته لها، والمتمثلة في تسهيل النحو العربي وتقريبه للمتعلمين[24].
ولا شك أن الاستعانة بنظم القواعد النحوية والصرفية، يسهل حفظها وضبطَ إعراب الكلمات، وتصويرَ حركاتها، والألفيات لها شأن عظيم في هذا المجال، ولكنَّ تحقُّقَ ذلك لن يتم إلا بأن يتوفر[25] للقاعدة النحوية عنصر البساطة، وأن يتوفر للمنظومة عنصر الوضوح.
وإن هذا النظم نوع خاص، فليس شعرًا كي تظهر فيه الزينة، وليس نثرًا عاديًّا تتوالي فيه الكلمات، بل هو نوع من النظم يجمع بين المعنى الهادف والكلام الذي يحتاج الوعاء الخاص للتبليغ، فإذا تصفحنا الألفية - على سبيل المثال - نجد أن المعنى دائمًا هو المراعى، وأن الوزن في بعض المواضع تطغى عليه الجوازات[26].
وإلى جانب هذا كله فقد كان ابن مالك راوية لأشعار العرب، ملمًّا بها عارفًا بكل الأشعار العربية التي يستشهد بها في المجالات النحوية، لدرجة أن الأئمة الأعلام كانوا يتعجبون من أين يأتي به[27].
ولم يكتف ابن مالك بالاستشهاد بأشعار العرب، بل كان يُكثر من الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال العربية[28]؛ إذ استشهد في شرحه للتسهيل فقط بـ (1502) من الآيات القرآنية، و(211) من الأحاديث النبوية الشريفة، و(130) من الأمثال العربية؛ إذ الإكثار من الشواهد يساعد على ضبط المعلومة وتسهيلها للمتعلمين[29].
ومن مظاهر التيسير النحوي عند ابن مالك التي كان لها أثر فعَّال في تقريب النحو، وجعله سهلًا: حذف ما لا يدخل في صميم النحو من الزيادات، والاكتفاء بالمهم وتجريده من المسائل المتعلقة بعلوم أخرى، فمن ذلك قول ابن مالك في شرح الكافية الشافية مثلًا: "حروف الإبدال المبوب عليها في كتب التصريف، هي الحروف التي تبدل من غيرها لغير إدغام، وهي التي لا بد من ذكرها، وهي هذه التسعة ..... وما سواها مما ذكره الزمخشري وغيره مستغنى عنه؛ كـ(اللام)، و(النون)، و(الجيم)، و(السين) إلى أن قال: وهذا النوع من الإبدال جدير بأن يُذكر في كتب اللغة لا كتب التصريف، وإلا لزم ذكر (العين)؛ لأن إبدالها من الهمزة المتحركة مطرد في لغة بني تميم، ويسمى ذلك عنعنة، وإنما يعنى في الإبدال التصريفي بما لو لم يبدل وقع في الخطأ أو مخالفة الكثير...[30].
هذا ويعتمد ابن مالك على الإيجاز لتقريب النحو إلى المتعلمين وتسهيله، فلا ريب أن ابن مالك نظر في منظومته الكافية الشافية، فوجدها مفرطة في الطول، فضلًا عما اشتملت عليه أبياتها من شواهد وأمثلة كثيرة، مع بسط الأحكام والقواعد النحوية، وهذا ما نص عليه في مقدمتها حيث يقول:
فمعظم الفن بها مضبوط *** والقول في أبوابها مبسوط
فاختصرها مكتفيًا بالأحكام والقواعد النحوية المهمة في ألفيته التي تُعد اختصارًا للكافية الشافية [31]؛ يقول ابن مالك في نهاية الألفية:
تقرب الأقصى بلفظ موجز *** وتبسط البذل بوعد منجز
حيث جاءت الألفية رائقة صافية، فتلقاها الناس بالقبول، وكأنه انزاح عنهم عبء ثقيل ألا وهو الكافية[32]، يقول ابنه بدر الدين عند شرحه للبيت السابق: "إن هذه الألفية مع أنها حاوية المقصد الأعظم من علم النحو؛ لما فيها من المزية على نظائرها أنها تقرب إلى الأفهام المعاني البعيدة بسبب وجازة اللفظ، وإصابة المعنى وتنقيح العبارة، وتبسط البذل؛ أي: توسع العطايا لما تمنحه من الفوائد لقرائها، واعدة بحصول مآربهم، وناجزة بوفائها"[33].
كما سلك ابن مالك في كتابه التسهيل طريقًا ابتعد فيه عن الإسهاب في مسائل الخلاف وتدوينها، وحشو كتابه بما لا فائدة مرجوة منه، فهو لا يحصي مجلدات بقدر ما يقدم مادته في صورة مباشرة بعيدة عن الإطناب، وهذا ما جعل هذا الكتاب موجزًا صغيرًا في حجمه، عظيمًا في فائدته وأسلوبه[34].
والأمر ذاته نلاحظه في كتابه الفوائد المحوية الذي يهدف إلى وضع مختصر يعين الأذكياء على إدراك قضايا النحو ومسائله في أوجز عبارة[35].
الخاتمة:
إن النحو العربي وعلى الرغم من مكانته العالية وأهدافه السامية، أصبح اليوم يعيش واقعًا أليمًا، فهو بين متشدد جعل النحو هدفًا يصعُب الوصول إليه، وبين متساهل زهد في تعليم النحو، وقلَّل من شأنه، وبين هذا وذاك يتعين على القائمين عليه والمنشغلين به تبني منهج ابن مالك في الواقع العملي والاستفادة منه، فهذا حري أن يعيد للنحو العربي مجده الضائع، ويساعد على تعلم اللغة العربية التي أصبحت غريبة في وطنها.
ويمكن إيجاز مجهودات ابن مالك في مجال تيسير النحو في النقاط التالية:
♦ تجريد النحو من الخلافات والصراعات النحوية.
♦ تنظيم الموضوعات وسهولة عرضها: (التدرج في التأليف، تنظيم موضوعات النحو).
♦ توظيفه للشعر التعليمي من أجل تقريب النحو للمتعلمين (الكافية الشافية، الألفية).
♦ انتقاء الشواهد النحوية (القرآن الكريم، الأحاديث النبوية، فصيح كلام العرب).
♦ جعل القرآن الكريم على رأس مصادر النحو العربي.
♦ دفاعه عن القراءات القرآنية وأصحابها.
♦ دفاعه عن الأحاديث النبوية وجعلها مصدرًا من المصادر المعتمدة في إثبات القواعد النحوية.
♦ الاعتماد على القياس في إثبات القواعد النحوية.
♦ تعليلات ابن مالك تتسم بالميل إلى السهولة والبعد عن الإطالة.
[1] الأندلسي ابن مالك؛ شرح التسهيل، ج1، ص 25.
[2] علي بن علوي الشهري؛ أسباب ترجيحات ابن مالك النحوية في شرح التسهيل، جامعة أم القرى، مكة السعودية 1435هـ، ص 7.
[3] صالح بلعيد؛ ألفية ابن مالك في الميزان، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 12.
[4] حفيظة يحياوي؛ إسهامات نحاة المغرب والأندلس في تأصيل الدرس النحوي العربي خلال القرنين السادس والسابع الهجريين، منشورات مخبر الممارسات اللغوية في الجزائر، 2011، ص 131.
[5] فادي صقر؛ جهود نحاة الأندلس في التيسير النحوي، مذكرة تخرج لنيل شهادة ماجستير جامعة النجاح، نابلس، فلسطين، 2006، ص 74.
[6] غنيم غانم؛ ابن مالك اللغوي، مذكرة ماجستير، جامعة الملك عبدالعزيز مكة، السعودية، 1979، ص 145.
[7] صالح بلعيد؛ ألفية ابن مالك في الميزان، ص 58.
[8] الأندلسي ابن مالك؛ إكمال الإعلام بتثليث الكلام؛ تحقيق سعد الغامدي، ط1 مكتبة المدني، جدة السعودية، 1984، ج1، ص 4.
[9] الأندلسي ابن مالك؛ شرح التسهيل، ج 1، ص 152.
[10] المرجع نفسه، ج1، ص 211.
[11] يحياوي حفيظة؛ إسهامات نحاة المغرب والأندلس في تأصيل الدرس النحوي، ص 134.
[12] الأندلسي أبو حيان البحر المحيط؛ تحقيق الشيخ عادل أحمد وعلي معوض، دار الكتب العلمية، ج 1، ص 106.
[13] الأندلسي أبو حيان التذييل والتكميل في شرح التسهيل؛ تحقيق حسن هنداوي، دار القلم، دمشق سوريا، ج1ص 6.
[14] عبدالعزيز العويني سيرة ألفية ابن مالك تأليفًا وإبرازًا وتحقيقًا، مجلة الدرعية، السنة الثانية عشرة، العدد 46 جمادى الآخرة، 1430، ص 146.
[15] غنيم غانم الدراسات اللغوية عند ابن مالك بين فقه اللغة وعلم اللغة، ص 167.
[16] الأندلسي ابن مالك إكمال الأعلام في تثليث الكلام، ج1، ص 04.
[17] الأندلسي ابن مالك شرح التسهيل، ج 1، ص 3.
[18] الأندلسي ابن مالك؛ شرح التسهيل، مقدمة التحقيق ص 32.
[19] نفسه، ج 1، ص43.
[20] نفسه، ج1، ص 47.
[21] نفسه، ج1، ص 44.
[22] ممدوح عبدالرحمن؛ المنظومة النحوية، دراسة تحليلية، دار المعرفة الجامعية، 2000م، ص 48.
[23] غنيم غانم؛ ابن مالك اللغوي، ص 148.
[24] نفسه، ص 148.
[25] ممدوح عبدالرحمن؛ دراسة في منظومة الألفية، ص 48.
[26] صالح بلعيد؛ ألفية ابن مالك في الميزان، ص 58.
[27] ينظر: ممدوح عبدالرحمن؛ دراسة في منظومة الألفية، ص 47.
[28] علي بن علوي الشهري؛ أسباب ترجيحات ابن مالك النحوية في شرح التسهيل، جامعة أم القرى، مكة السعودية 1435هـ، ص 96.
[29] المرجع نفسه، ص 10.
[30] الأندلسي ابن مالك شرح الكافية الشافية، تحقيق عبدالمنعم هريدي، دار المأمون للتراث، مكة السعودية، ج، 4 ص2070.
[31] عبدالله علي محمد؛ ألفية ابن مالك تحليل ونقد، مذكرة ماجستير، جامعة أم القرى، السعودية، 1989، ص 28.
[32] عبدالله علي محمد؛ ألفية ابن مالك تحليل ونقد، مذكرة ماجستير، جامعة أم القرى، السعودية 1989م، ص43.
[33] ابن الناظم بدر الدين محمد؛ شرح ألفية ابن مالك، منشورات تناصر، بيروت لبنان، ج1، ص3.
[34] فادي صقر؛ جهود نحاة الأندلس في التيسير النحوي، ص72.
[35] الأندلسي ابن مالك؛ الفوائد المحوية في المقاصد النحوية، (مقدمة التحقيق)، مذكرة تخرج لنيل شهادة ماجستير، من إعداد الطالبة وداد يحيى، جامعة أم القرى، السعودية، 1406هـ، ص30.