قاعدة عموم نفي المساواة وأثرها في الفقه الإسلامي (4-4)
د. عبد الرحمن بن محمد القرني
المبحـــث الثالث
الآثـــار الفقهية للمسألة
كان لقاعدة عموم نفي المساواة والخلاف فيها أثرٌ ظاهر في الفروع الفقهية، وإليك بعضاً من هذه المسائل:
المسألة الأولى
حكم قتل المسلم بالذميّ
أ- المذاهب في المسألة:
اختلف الفقهاء في المسلم إذا قتل ذمياً عمداً عدواناً فهل يقاد به المسلم؟ وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: أن المسلم لا يقتل بقتله الذمي، وهذا قول المالكية([1]) والشافعية([2]) والحنابلة([3]).
القول الثاني: أن المسلم يقتل بقتله الذمي، وهذا قول الحنفية([4]).
ب- استدلال الجمهور بالقاعدة:
مما استدل به الجمهور في المسألة قول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([5]) حيث نفى الله المساواة بين الكافرين وبين المسلمين، فدل على أن المسلم لا يقاد بالكافر وإلا لكان مساوياً له.
قال القاضي الماوردي([6]): «ودليلنا قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) فكان نفي التساوي بينهما يمنع من تساوي نفوسهما وتكافيء دمائهما»اهـ([7]).
وقال تقي الدين ابن النجار([8]) بعد أن ساق الآية الكريمة: «فنفى الله المساواةَ، ونفيُ المساواة في الصورة الإنسانية غير مراد، فدل على عدم تساويهما حكماً» اهـ([9]).
* وقد رَدَّ الحنفية هذا الاستدلال وأنكروا إفادة نفي المساواةِ العمومَ؛ حيث قال الزيلعي([10]) في معرض الجواب عن أدلة الجمهور: «وقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) أي في الفوز ... ، ولا يلزم منه عدم الاستواء في العصمة؛ لأن مثل هذا الكلام لا عموم له » اهـ([11]).
وكذلك قال غيره من الحنفية([12]).
* ومما استدل به الجمهور مبنياً على عموم نفي المساواة قول الله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) ([13]) فإنه استفهام إنكاري يفيد النفي كما تقرر في أول البحث.
قال ابن العربي([14]): «ولذلك لا يقتل المسلم إذا قَتَل الذمي، وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وهو قولٌ عام يقتضي نفي المساواة بينهم في كل حالٍ وزمان»اهـ([15]).
وقال أبو عبدالله القرطبي([16]): «اقتضى ذلك نفي المساواة بين المؤمن والكافر؛ ولهذا مُنِعَ القصاص بينهما، وبذلك احتج علماؤنا [يعني المالكية] على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمي، وقال: أراد نفي المساواة ههنا في الآخرة في الثواب وفي الدنيا في العدالة.
ونحن حملناه على عمومه، وهو أصح إذْ لا دليل يخصّه» اهـ([17]).
* وبناء هذه المسألة الفقهية على الخلاف في قاعدة عموم نفي المساواة بناءٌ مشهور، ذكره كثير من الأصوليين([18]).
وأوردها شهاب الدين الزنجاني في الفروع المخرجة على الخلاف في القاعدة، حيث قال: «ويتفرع عن هذا الأصل مسائل: منها أن المسلم لا يقتل بالكافر عندنا؛ لأن جريان القصاص بينهما يقتضي الاستواءَ، واللهُ تعالى قد نفاه بقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ).
وعندهم يقتل؛ لأن نفي المساواة قد حصل بحكمٍ آخر، فالتسوية بينهما في هذا الحكم لا تمنع مدلول النص» اهـ([19]).
المسألة الثانية
حكم شهادة الفاسِقَيْنِ في النكاح
أ- المذاهب في المسألة:
اتفق الفقهاء على صحةِ شهادة العدلَيْنِ في النكاح، وقبولِ شهادتهما ولو كانت عدالتهما ظاهرة([20]).
وإنما اختلفوا في شهادة الفاسقَيْنِ – أي اللذَيْنِ ظهر فسقهما – في النكاح، فهل تقبل شهادتهما أَوْ لا؟ وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: أن الفاسقَيْنِ لا تقبل شهادتهما في النكاح، وهذا قول المالكية([21]) والشافعية([22]) والحنابلة([23]).
القول الثاني: أن الفاسقينِ تقبل شهادتهما في النكاح، وهذا قول الحنفية([24]).
ب- استدلال الجمهور بالقاعدة:
مما يدل لمذهب الجمهور في المسألة قول الله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) ([25]) حيث نفى الله تعالى المساواة بين المؤمن وبين الفاسق، فيدل عموم هذا النفي على عدم استوائهما في الشهادة في النكاح، ومعلومٌ أن العدل تقبل شهادته في النكاح، فدل على أن الفاسق لا تقبل شهادته فيه وإلا لاستويا.
* ونظير هذه المسألة مسألة ولاية الفاسق عقد النكاح، فقد استدل المانعون([26]) ولايةَ الفاسق بعين القاعدة، أعني قاعدة عموم نفي المساواة، حيث قال جلال الدين السيوطي([27]) بعد أن ساق نص الآية الكريمة السابقة: «استدل بعمومه مَنْ قال: إن الفاسق لايلي عقد النكاح»اهـ([28]).
وقال تقي الدين الجُرَاعي الحنبلي: «واستدلوا بالآية على أن الفاسق لا يلي عقد النكاح»اهـ([29]).
* ومَنْعُ الحنفية هذا الاستدلال في المسألتين ظاهرٌ؛ لكونه استدلالاً بعموم نفي المساواة، وهم لا يقولون به([30]).
* وبناء هذا الفرع الأخير – أعني ولاية الفاسق – على الخلاف في قاعدة عموم نفي المساواة بناءٌ مشهور، ذكره كثير من الأصوليين([31]).
المسألة الثالثة
حكم تولي العاميّ منصب القضاء
أ- المذاهب في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم ولاية القضاء للعاميّ وهو الجاهل بالأحكام الشرعية، وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: لا يجوز تولية العامي القضاء، وهذا قول المالكية([32]) والشافعية([33]) والحنابلة([34]).
القول الثاني: يجوز تولية العامي القضاء، و عليه أن يسأل العلماء، وهذا قول الحنفية([35]).
ب- استدلال الجمهور بالقاعدة:
مما استدل به الجمهور في المسألة قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ([36]) فإنه استفهام إنكاري يدل على النفي، فتكون الآية قد نفت المساواة بين العالم والجاهل، وقد صح تولية العالم منصب القضاء، فلا يصح إذاً تولية الجاهل وإلا لاستويا.
قال القاضي الماوردي: «ودليلنا قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)والدليل فيها: أنه مَنَعَ من المساواة فكان على عمومه في الحكم([37]) وغيره» اهـ([38]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومنه قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) قال القاضي([39]): يوجب المنع من التسوية بينهما في جميع الحالات، والمخالف [يعني الحنفية] يسوِّي بينهما في ولاية القضاء والحكم » اهـ([40]).
وممن بنى المسألة على القاعدة أيضاً تقي الدين الجُرَاعي([41]).
* ومَنْع الحنفية هذا الاستدلال لعدم احتجاجهم بعموم نفي المساواة؛ ولهذا ردَّ شمس الأئمة السرخسي([42]) العموم من هذه الآية الكريمة، ومن الآية التي وردت في المسألة السابقة أعني شهادة الفاسق في النكاح، وكذا ردَّ العموم من الآية التي سبقت في المسألـة الأولى أعني قتـل المسلم بالذمي؛ حيـث قـال السرخسي: «ثم سَوَّى الشافعي – رحمه الله – فيما أثبته من حكم العموم بين ما يحتمل العموم وبين ما لا يحتمله لعدم محله فيما هو المحتمل، فجعل كل واحدٍ منهما حجة لإثبات الحكم مع ضَرْبِ شبهةٍ.
وبيان هذا في قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([43]) وقال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) ([44]) وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ([45]) فإن نفي المساواة بينهما على العموم غير محتمل، لِعِلْمِنا بالمساواة بينهما في حكم الوجود والإنسانية والبشرية والصورة...»اهـ([46]).
المسألة الرابعة
حكم قتل الحر بالعبد
أ- المذاهب في المسالة:
اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً فهل يُقاد به؟ وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: أن الحر لا يقتل بالعبد، وهذا قول المالكية([47]) والشافعية([48]) والحنابلة([49]).
القول الثاني: أن الحر يقتل بالعبد، وهذا قول الحنفية([50]).
ب- استدلال الجمهور بالقاعدة:
مما يدل لمذهب الجمهور في المسألة قول الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ) ([51]) حيث نفى الله تعالى المساواة بين العبد المملوك وبين الحر، فلو كان الحر يقتل بالعبد لاستويا، وهو باطل لأن نفي المساواة يقتضي العموم.
* والحنفية لا يرون عموم نفي المساواة فلا ريب أن خالفوا هنا؛ ولذا قال الزيلعي إيراداً لنقض مذهب الجمهور: «ولو اعتبرت المساواة في غير العصمة لما جرى القصاص بين الذكر والأنثى» اهـ([52]) يعني: لأن القرآن قد نفى التسوية بين الذكر والأنثى.
* وهذه المسألة ذكرها الزنجاني من الفروع المخرَّجة على الخلاف في القاعدة إلا أنه بناها على نفي المساواة العامة بين المسلم والكافر، حيث قال: «ثم يتفرع عن نفي المساواة العامة بين المسلم والكافر أن لا يقتل حرٌّ بعبد عندنا؛ لقيام شبهة ما أوجب نفي المساواة بين المسلم والكافر وهو الكفر؛ فإن الرق من آثار المبيح فيعمل في الشبهة عمل أصله.
وعندهم: يُقتل به؛ لإنكارهم عموم نفي المساواة» اهـ([53]).
المسألة الخامسة
حكم ولاية المرأة عقود النكاح
أ- المذاهب في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم تولي المرأة عقود الأنكحة، أي أنه هل يصح أن تعقد المرأة لغيرها فتزوِّج ابنها أو ابنتها مثلاً أو تكون وكيلة للرجل فتعقد له؟ أو أن تولي عقد النكاح مختصٌّ بالرجال؟ وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: أن المرأة لا يصح توليها عقد النكاح، بل هو مختص بالرجال، وهذا قول المالكية([54]) والشافعية([55]) والحنابلة([56]).
القول الثاني: أن المرأة يصح توليها عقد النكاح، ولا يختص ذلك بالرجال، وهذا قول الحنفية([57]).
ب- استدلال الجمهور بالقاعدة:
مما استدل به الجمهور في المسألة قول الله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ([58]) حيث نفى الله تعالى المساواة بين المرأة وبين الرجل، ونفي المساواة يفيد العموم، وقد صح تولي الرجال عقد النكاح، فلا يصح تولي النساء وإلا لاستويا.
* قال أبو الحجاج الفِنْدلاوي([59]) المالكي: «والدليل على صحة ما قلناه قوله عز وجل: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وهذا عامٌّ، فلو أجزنا لها عقد النكاح لكانت كالرجل، وذلك خلاف ما نَصَّ الله تعالى عليه؛ إذْ قد مَنَعَ جل وعلا من المساواة بينهما» اهـ([60]).
* والحنفية لن يسلموا مثل هذا الاستدلال؛ لإنكارهم عموم نفي المساواة.
يتبع