مخطوطات صحيح مسلم ومطبوعاته
د. عبدالحكيم الأنيس
بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ بما بدأ به مسلمٌ "صحيحَه" إذ قال: "بعون الله نبتدئ، وإياه نستكفي، وما توفيقُنا إلا بالله جلَّ جلاله"[2].
ثم نقولُ: الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
أمَّا قبلُ: فإنَّ لكلِّ كتاب سيرةً ومسيرةً، ومِنْ ذلك "صحيحُ مسلم"، ومسيرتُهُ تستوعبُ مجلدات. وموضوعي طرفٌ مِنْ ذلك، وهو موضوعٌ كبيرٌ، وكان الأفضل تقسيمه إلى بحثين: المخطوطات والمطبوعات، بل الأفضل الكلام على نسخة خطية واحدة، أو طبعة واحدة.
وبعدُ: فأقولُ:
فُرِغَ مِنْ قراءة "الصحيح" على مؤلِّفه الإمام مسلم بن الحجاج سنة مئتين وسبع وخمسين، وقد حمله عنه خمسةٌ مِنْ أصحابه:
الأول: أحمد بن علي بن الحسين القلانسي. وروايتُه وصلتْ إلى بلاد المغرب من طريق ابن ماهان عن ابن الأشقر عنه عن مسلم.
الثاني: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري الفقيه الزاهد، بفوتٍ محرَّرٍ[3].
الثالث: أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي النيسابوري.
الرابع: أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن الشرقي النيسابوري.
الخامس: أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد الهاشمي إجازة.
وروايةُ ابن سفيان هي الأشهر والأكثر انتشاراً[4]، وهي الذائعةُ لدى المشارقة.
ومعنى هذا أنَّ خمسَ نُسخ على الأقل نُسِختْ من هذا الكتاب... ثم كثرت النسخُ كثرةً بالغةً، يدلُّ على ذلك قولُ النووي في موضعٍ من "شرحه" عليه: "كذا في جميع نُسخ بلادنا التي رأيتُها مع كثرتها"[5]، وقولُه في موضع آخر: "ذكرَ القاضي [عياض] فيه أنه رُويَ في نُسخ بلادهم على ثلاثة أوجه"[6].
وكان القاضي عياض في القرن السادس، والنووي في القرن السابع.
ومن اللطائف أنَّ أحد الأئمة كتَبَ "الصحيح" في سنةٍ واحدةٍ سبع مرات، ذلك هو الإمامُ القدوةُ مفيدُ بغداد أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي المعروف بابن الخاضبة المتوفى سنة 489هـ فقد نُقِلَ عنه أنه قال: "لما كان سنةُ الغرق[7] وقعتْ داري على قُماشي وكتبي! ولم يكن لي شيء! وكان عندي: الوالدة والزوجة والبنات، فكنت أنسخُ وأنفقُ عليهن، فأعرفُ أني كتبتُ "صحيح مسلم" في تلك السنة سبع مرات! فلما كان ليلة من الليالي رأيتُ كأنَّ القيامة قامت، ومنادٍ ينادي: أين ابن الخاضبة؟ فأُحضرتُ، فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلتُ الباب وصرتُ مِنْ داخل استلقيتُ على قفاي، ووضعتُ إحدى رجليَّ على الأخرى وقلتُ: استرحتُ واللهِ من النَّسخ..."[8].
وجاء في ترجمة الحافظ المحدِّث الجوال محمد بن طاهر المقدسي المولود في بيت المقدس سنة 448 والمتوفى في بغداد سنة 507: قال الحافظ أبو طاهر السِّلفي: سمعتُ ابن طاهر يقول: كتبتُ الصحيحين وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة، وسننَ ابن ماجه عشر مرات بالرَّي[9].
وكان صحيح مسلم كثيراً ما يُقرأ، وهذا يدلُّ كذلك على كثرة نُسخه:
• جاء في ترجمة الإمام عبدالغافر الفارسي (ت: 448هـ):
"وقرأ الحافظُ الحسن السمرقندي عليه "صحيح مسلم" نيفاً وثلاثين مرة، وقرأه عليه أبو سعيد البحيري نيفاً وعشرين مرة"[10].
• وجاء في ترجمة الإمام محمد بن الفضل الفراوي (ت: 530هـ):
"قال أبو سعد[11]: سمعتُ عبدالرزاق بن أبي نصر الطَّبسي يقول: قرأتُ صحيح مسلم على الفراوي سبع عشرة نوبة[12]، ففي آخر الأيام قال لي: إذا أنا متُّ أوصيك أنْ تحضر غَسْلي، وأن تصلي أنت بمَنْ في الدار"[13].
وهذه القراءةُ لأنفسهم ولغيرهم، وهو يدلُّ كذلك على كثرة نُسخهِ كما قلتُ.
وأيضاً فإنَّ الذين استخرجوا عليه كانت لهم نُسخٌ منه، وهم كثيرون منهم:
• أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء الإسفراييني (ت: 286هـ).
• أبو الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري (ت: 286هـ).
• أبو جعفر أحمد بن حمدان الحيري النيسابوري (ت: 311هـ).
• أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري الأصل، الإسفراييني (ت: 316هـ).
• أبو عمران موسى بن العباس الخراساني الجويني (ت: 323هـ).
• أبو محمد أحمد بن محمد الطوسي البلاذري (ت: 339هـ).
• أبو محمد قاسم بن أصبغ القرطبي (ت: 340هـ).
• أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي الشافعي (ت: 344هـ).
• أبو عبدالله محمد بن يعقوب الشيباني المعروف بابن الأخرم (ت: 344هـ).
• أبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري (ت: 349هـ).
• أبو سعد أحمد بن محمد الحيري النيسابوري الشهيد (ت: 353هـ).
• أبو حامد أحمد بن محمد الهروي الشافعي (ت: 358هـ).
• أبو علي الحسين بن محمد الماسَرْجِسي النيسابوري (ت: 365هـ).
• أبو محمد عبدالله بن محمد المعروف بأبي الشيخ (ت: 369هـ).
• أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني الإسماعيلي (ت: 371هـ).
• أبو عبدالله الحسين بن أحمد الشَّماخي الهروي الصفار (ت: 372هـ).
• أبو بكر محمد بن عبدالله الشيباني الخراساني الجوزقـي (ت: 388هـ).
• أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني الصوفي الأحول (ت: 430هـ).
وهناك الذين استخرجوا على الصحيحين معاً، وهم عشرة[14].
ويُذكر كذلك الذين شرحوه واختصروه، وهم كثيرون.
♦ ومن الشُّراح المشاهير: القاضي عياض، وقد أكملَ "المُعلم" للمازري، وسمّى شرحه: "إكمال المُعلم بفوائد مسلم".
وقال في آخر مقدمته[15] "سمعتُ جميع الصحيح لمسلم بقراءتي في مدينة مُرسية -حماها الله تعالى- على قاضي القضاة الحافظ أبي علي الحسين بن محمد الصدفي ... وسمعتُ جميعه أيضاً بقرطبة -حرسها الله- على الشيخ المحدِّث أبي بحر سفيان بن العاصي الأسدي .." إلى آخر ما قال.
♦ ومن الشُّراح أبو عمرو ابن الصلاح، وكتابه "صيانةُ صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايتُه من الإسقاط والسقط"، وفيه ذكرٌ للأصول التي رآها ونقلَ عنها، من ذلك ص118.
♦ ومن الشُّراح القاضي شمس الدين الهروي (ت: 829هـ)، له: "فضل المُنعم في شرح صحيح مسلم"، وقد ذكرَ أسانيدَه إليه في آخر مقدمته للشرح[16]. وشيوخه:
الشيخ الإمام الزاهد أبو زكريا يحيى بن حسن النيسابوري
الشيخ علي بن محمد الفارسي.
الشيخ محمد بن يعقوب الفيروزابادي.
وممَّن اختصره وشرحه الإمامُ أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت: 656هـ)، وسمّى شرحَه: "المُفهم لما أشكلَ مِنْ تلخيصِ كتاب مسلم".
وقال في آخر مقدمته[17]: "وقد أعان الكريمُ الوهابُ على الاعتناء بهذا الكتاب، فتلقيتُه روايةً وتقييداً عن جماعة من أعلام العلماء، وثافنتُ في التفقُّه فيه بعضَ سادات الفقهاء".
ثم ذكرَ شيخيه:
الأول: الشيخ أبو الحسن علي بن محمد اليحصبي، قرأه عليه والشيخُ يمسك أصله نحو المرتين، في مدة آخرها شعبان سنة سبع وست مئة.
والثاني: الشيخ أبو محمد عبدالله بن سليمان بن داود بن حوط الله قراءةً عليه وسماعاً لكثير منه، وإجازة لسائره، وذلك بقرطبة في مدةٍ آخرُها ما تقدّم.
ثم ذكرَ شيخاً آخر هو راوي صحيح مسلم بمصر: الشيخ أبو المفاخر سعيد بن الحسين المأموني. وهو توفي سنة 576
ولكلِّ هؤلاء نُسَخٌ.
ومع ذلك فقد أشار السيوطي إلى قلة اختلاف رواياته إذ قال في مقدمة كتابه "الديباج على صحيح الإمام مسلم بن الحجاج"[18] أنَّ كتابه "الديباج" يشتمل على ما يحتاج إليه القارئُ والمستمعُ من ضبطِ ألفاظه، وتفسيرِ غريبه، وبيانِ اختلاف رواياته -على قلتها- وزيادةٍ في خبرٍ لم تردْ في طريقه...".
ويَنفعُ في هذا ملاحظةُ الشروح وتفسيرِ الغريب، ومِنْ أهمِّها:
♦ "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض.
♦ و"مطالع الأنوار على صحاح الآثار" لابن قُرقول.
يتبع