عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 03-09-2019, 08:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظاهرة لزوم الدور في النحو العربي : مشكلاتها وطرائق دفعها

ظاهرة لزوم الدور في النحو العربي : مشكلاتها وطرائق دفعها
د. محمد ذنون يونس فتحي


الجزء الثانى
المبحث الثالث: أشكال لزوم الدور

بعد التتبع والبحث في كلام النحويين وجدنا ظاهرة لزوم الدور تقع في كلامهم بأشكال متعددة، قاموا بتوضيحها وعرضها تفصيليا حتى يجتنبها الباحث والمؤلف عندما يعرّف المصطلحات أو يستدل على الأحكام، وتلك الأشكال يمكن إيجازها والتمثيل لها بما يأتي:
1- التعريف بالمساوي: وذلك كتعريف الملكات باعدامها مثل قول الفلاسفة: الحركة ما ليس بسكون والبصر عدم العمى([50])، وهو ممنوع لما قرروه من أن معرفة التعريف أقدم من معرفة المعرف؛ لأنه علة لمعرفته والعلة مقدمة على المعلول، وفي التعريف بالمساوي يحصل العلم بهما معا، ولم يقع هذا الشكل في كلام النحويين، وإنما ذكرته تنبيها لما يقع عند التدريس أحيانا حيث نقول: الموضوع ما ليس بمهمل، والرفع هو التجرد من العوامل.... وهذا من تعريف الملكات بأعدامها؛ لأن وضع الكلمات في اللغة لمعان أمر وجودي مقارنة بالمهملات التي هي أعدام وظاهرة الرفع وجودية بالنسبة للتجرد العدمي، وهذا لا يفيد المخاطب شيئا؛ لأنه إحالة على تعريف غامض متوقف في حد ذاته على فهم الملكة والوجود؛ لأن الأعدام إنما تعرف بملكاتها، وقد ذكر ابن سينا(ت428هـ) أن:" المتقابلات بحسب السلب والعدم فلا بد من أن نأخذ الموجب والملكة في حديهما من غير عكس"([51]).
2- أخذ المعرف في التعريف: وذلك ظاهر في تعريفهم (اسم الإشارة) اذ عرفوه بأنه:" ما دلّ على مسمّى وإشارة إليه"([52]) حيث أخذ المعرِّف لفظ (الإشارة) وهو موجود في المعرَّف أيضا، وذلك يؤدي إلى لزوم الدور؛ لأن المعرَّف متوقف معرفته على معرفة التعريف بأجزائه، وذلك يستدعي أن يكون العلم بالتعريف حاصلا قبل العلم بالمعرَّف، وقد اشتمل التعريف على لفظ مجهول واقع في المعرف، فيلزم توقفه على معرفة المعرف، والقضية معكوسة لأنها الغاية من عملية التعريف، فلزم الدور نتيجة لذلك.
3- إيراد لفظ في التعريف متوقف تعريفه على المعرف: والخلاف بين هذا الشكل والشكل السابق عليه أن ما هنا قد أورد لفظا اصطلاحيا في تعريف المصطلح يتوقف تعريفه على تعريف المعرف، في حين كان الشكل السابق قد أورد لفظ المصطلح نفسه أعني لفظ المعرّف في التعريف، كما يتوضح ذلك من مقارنة الأمثلة، وقد وقع ذلك في تعريفهم مصطلح (الفعل) من خلال ذكر علاماته، فقد يعرف النحويون المصطلحات النحوية بذكر علاماتها دون بيان حقائقها الذاتية، كما نجد ذلك كثير الوقوع عند ابن مالك في ألفيته، فقد عرّف ابن مالك أيضا الفعل بقوله([53]):
بتا فعلت وأتت ويا افعلي ونون أقبلن فعل ينجلي
ففسر (الفعل) من خلال قبوله العلامات المذكورة، والذي يهمنا من هذا التعريف قوله (بتا فعلت) أي بتاء الفاعل، فقد عرف الفعل الماضي بأنه: ما يقبل دخول تاء الفاعل عليه، فقد اشتمل التعريف على لفظ اصطلاحي آخر وهو (الفاعل)، وهذا اللفظ غير موجود في المعرف، ولكن لو أردنا تعريف الفاعل كما عرفه النحويون القائلون بأنه: الاسم المسند إليه فعل.. لزم الدور، حيث أخذ الفاعل في تعريف الفعل وأخذ الفعل في تعريف الفاعل، وذلك مستلزم للدور أيضا([54])، وهذا من تعريف الشيء بالمتأخر عنه في المعرفة كما ذكره ابن سينا ومثل له بقوله:" الشمس كوكب يطلع نهارا ثم النهار لا يمكن أن يحد إلا بالشمس لأنه زمان طلوع الشمس"([55]).
4- التوقف العلمي: وفي هذا الشكل من أشكال لزوم الدور لا يورد لفظ في التعريف يتوقف هو أو تعريفه على المعرف، وإنما يتوقف العلم به على العلم بالمعرف، وقد وقع ذلك كثيرا في كلام النحويين عندما يعرفون المصطلحات بالعلامات أو بظاهرة تركيبية يتميزن بها مما عداهن، ومن ذلك تعريفهم مصطلح(الصفة المشبهة) في قول ابن مالك([56]):
صفة استحسن جر فاعل معنى بها المشبهة اسم الفاعل
فقد عرف ابن مالك الصفة المشبهة بظاهرة تركيبية تتميز بها من اسم الفاعل، حيث يستحسن إضافتها إلى فاعلها بخلاف اسم الفاعل، فيقال فيها: زيد حسن وجهه، ثم تضاف إلى فاعلها فيقال: زيد حسن الوجه، وجعل هذه الظاهرة التركيبية المميزة للصفة المشبهة تعريفا لها يميزها مما عداها، ولكن هذا التعريف مؤد في ظاهره إلى ظاهرة لزوم الدور؛ لأن العلم باستحسان إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها متوقف على العلم بكونها صفة مشبهة أصلا، والحال أن الصفة المشبهة متوقفة على الاستحسان المذكور فيلزم توقف العلم بأحدهما على العلم بالآخر، وذلك عين الدور الحقيقي([57]).
5- الدور القواعدي: ونقصد به الدور الناشئ عن القواعد النحوية ، وقد تمثل ذلك في أحد الأوجه الإعرابية لقوله تعالىثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُوْنَ)([58]) اذ أعرب(يلعبون) في موضع الحال من (هم) في (خوضهم) وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه، وكأن المعنى: ثم ذرهم يخوضون لاعبين، فإذا تقرر هذا الإعراب وهو تعلق (يلعبون) بـ(خوضهم) تعلق الحالية لا يجوز أن نعرب (في خوضهم) حالا من ضمير (الواو) في (يلعبون) ويكون التقدير حينئذ: ثم ذرهم يلعبون خائضين، للزوم الدور حينئذ، ووجه الدور أن جعل (في خوضهم) حالا من ضمير (يلعبون) يقتضي كون الحال معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول، ومعنى الحال يحصل بعد حصول معنى العامل فيه، فلو جعلنا (يلعبون) حالا من ضمير (خوضهم) لزم تقدم (في خوضهم) عليه رتبة ولفظا، أما لفظا فظاهر وأما رتبة فلأن العامل في الحال عامل في صاحب الحال أيضا فيلزم الدور؛ على أنه يلزم أيضا الفساد في المعنى([59])، لأن التقدير حينئذ على التوجيهين الإعرابيين يكون بالصورة الآتية: يخوضون لاعبين ويلعبون خائضين في الوقت ذاته.
6- الدور العلّي: والمقصود به الدور الناشئ عن العلة النحوية، ونمثل له بالخلاف النحوي المشهور في علة رفع المبتدأ والخبر، فقد ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر والخبر يرفع المبتدأ فهما يترافعان([60])، ورأى النحويون في هذا التعليل فسادا للزومه الدور، وذلك أن العامل حقه أن يتقدم على المعمول، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قبل الآخر وذلك محال؛ لأنه يلزم أن يكون الاسم الواحد أولا وآخرا في حال واحدة، فيجب تقدم كل واحد من المبتدأ والخبر على الآخر؛ لأنه يجب تقديم العامل على المعمول؛ فيلزم تقدم الشيء على نفسه؛ لأن المتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء([61]).
7- الدور الحكمي: والمقصود به الدور الناشئ عن تعريف المصطلحات بأحكامها، كما تقول: المبتدأ هو الاسم المرفوع والمفعول هو الاسم المنصوب، وقد وقع ذلك في كلام ابن مالك عند تعريفه (الحال) بقوله([62]):
الحال وصف فضلة منتصب مفهم حال كفردا اذهب
فقد عرف الحال بأنه المنصوب، والنصب حكم من أحكام الحال متوقف على معرفة حقيقة الحال حتى يثبت له حكم النصب، وكما قالوا: الحكم على الشئ فرع تصوره، فنحن لا نستطيع الحكم على زيد بأنه طويل لو لم نتصور زيدا أصلا وكونه قابلا للاتصاف المذكور، وإلا لجاز أن نقول: الحيوان جماد، والحكم باطل لأن القائل لهذا الكلام لم يتصور معنى الحيوانية أصلا، المؤدي الى الحكم على الشيء قبل تصوره، والمعنى أن النصب حكم متوقف ثبوته للحال على تصور الحال وفهم حقيقته الاصطلاحية، وأخذ المنصوب في تعريفه يستلزم توقف معنى الحال على المنصوب؛ لأن المعرَّف متوقف على التعريف وذلك عين الدور([63]).
هذه هي الأشكال التي يتسرب منها الدور ويتمظهر بها في أقلام المؤلفين، وقد حاول النحويون والمحققون منهم تأشيرها وتاطيرها لكي يجتنبها الدارسون وصولا إلى العبارة العلمية السليمة والتعريف المفيد والعلة المحكمة.
المبحث الرابع: طرائق دفع الدور
بعد أن عرفنا أشكال لزوم الدور ووقوعه في عبارات النحويين وتعاريفهم واعراباتهم وعللهم نورد هنا كيفية دفع الدور وطرائقه، ومن الجدير بالتنبيه أن نشير إلى أن الدور الذي يمكن دفعه هو الدور المتوهم المظنون حصول الدور فيه، أما الدور الحقيقي فلا سبيل لرده أو دفعه بل يكون التخلص منه بالعدول عن التعريف المخطوء إلى تعريف آخر صحيح، ومن العلة المنقوضة بذلك إلى علة بديلة خالية من تلك الشائبة... .
وقبل الولوج في سرد طرائق دفع الدور نحب أن نبين أن ذلك الصنيع عمل واقع تحت عناية علماء آداب البحث والمناظرة الذين سردوا كيفية مواجهة الدليل والتعريف المستلزمين الدور وطرائق الإجابة عن الدور المتوهم، فوجب لذلك أن نبين الأمور الآتية:
1- لما كان الدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه وهو نوعان: دور محال لاستلزامه توقف الشيء على نفسه، المستلزم لكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما في آن واحد ؛ وكون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ إذ من المعروف أن العلة أقدم وجودا من المعلول؛ فلو توقف وجود العلة على وجود المعلول؛ لزم كون العلة الموجودة معدومة في آن افتراضها موجودة؛ ومن المعروف أيضا أن العلم بالتعريف أقدم من العلم بالمعرف؛ وأنه علة لمعرفة المعرف، فلو توقف التعريف على المعرف لزم كون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ وهذا الدور المحال نعبر عنه بأنه :"توقف كل واحد من الشيئين على الآخر قبله"؛ فالمعرف متوقف على التعريف قبل توقف التعريف على المعرف؛ فإذا توقف التعريف عليه لزم الدور المحال، وأما النوع الثاني للدور وهو الجائز؛ فإنه لا يستلزم كل تلك المحالات؛ بسبب أن توقف كل واحد من الشيئين على الآخر معه لا قبله؛ فلا يلزم كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد ولا كون الشيء معلوما ومجهولا كذلك، وهذا النوع من الدور يجوز ارتكابه في التعاريف لعدم استلزامه المحال([64]).
2- إن المعترض على التعريف أو الحكم باستلزام الدور يدعي أن في التعريف أو الاستدلال فسادا بلزوم الدور، ولتوضيح ذلك نمثل بالآتي: فقد عرف النحويون الفعل المتعدي بأنه الذي يتعدى إلى مفعول به([65])، فيتوجه إليه اعتراض من قبل (المستدل) بأسلوب النقض الشبيهي على دعوى ضمنية مفادها: أن تعريفي أجلى من المعرف ، أو أن التعريف معلوم قبل العلم بالمعرف قائلا: أن هذا التعريف مستلزم للدور؛ لأن المعرف (المتعدي) متوقف معرفته على معرفة التعريف، والتعريف باشتماله على (يتعدى) صار متوقفا معرفته على معرفة (المعرف)، وكل تعريف هذا شأنه باطل.
3- وهنا تأتي طريقة دفع الاعتراض إما برد المقدمة الصغرى أو بدفع الكبرى، ولا تخلو طرائق دفع الدور من هاتين الحالتين، فان كان الدور حقيقيا فلا مجال لرد الصغرى والكبرى ، وإن كان الدور متوهما فترد الصغرى فقط، وإن كان الدور جائزا أو معيا فلا مجال لرد الصغرى، وإنما تمنع كبرى النقض بأن كل تعريف مستلزم للدور ليس بباطل؛ لأن هذا الدور معي وهو جائز([66]).
وتوضيح ذلك بالنسبة للمثال المتقدم بعد ادعاء المعترض استلزام التعريف الدور، بأن يمنع المقدمة الصغرى مجردا أو مستندا قائلا: لا نسلم أنه مستلزم للدور ، إنما يلزم ذلك لو كان الفعل (يتعدى) بمعناه الاصطلاحي وهو ممنوع، وهكذا فرَّق موجه التعريف بين المعرف والتعريف، بأن (المتعدي) الوارد في المعرف بالمعنى الاصطلاحي، والفعل (يتعدى) الوارد في التعريف بالمعنى اللغوي وبذلك اختلف جهتا التوقف، وعندما تختلف يندفع الدور إذ لا مانع من التوقف بين الشيئين باعتبار جهتين مختلفتين([67]).
وهذه معالجة دقيقة وفهم رصين للفرق الجوهري بين أجزاء الحد والمحدود، لأن (التعدية) الواردة في المعرف تجردت إلى معنى أكبر بكثير من (التعدية) الواردة في التعريف.
4- لقد كانت المعالجة السابقة متوجهة إلى المقدمة الصغرى لدليل المستدل؛ أعني: (هذا التعريف مستلزم للدور أو التسلسل أو فساد آخر) في حين يكون هذا المنع المذكور آنفا متوجها إلى المقدمة الكبرى لدليل المستدل، أعني : (وكل تعريف هذا شأنه باطل)؛ حيث إن الدور والتسلسل منه ما يكون محالا وهذا مما لا مجال لمنعه، ومنه ما يكون جائزا؛ وهذا يمنع إذ لا خلاف في جواز ارتكابه من قبل المعرف(صاحب التعريف)، فيسوغ له الدفاع عن تعريفه إزاء المعترض بأن يمنع الكبرى؛ إذ المجال مفتوح أمامه لذلك؛ ومن أمثلة هذا الدور قول المعرف الصرفي لـ (أبى يأبى): إنه فعل ثلاثي مفتوح العين في الماضي والمضارع غير شاذ فيتوجه إليه اعتراض من قبل المستدل بأسلوب النقض الشبيهي على دعوى ضمنية مفادها: إن هذا التعريف ليس بأخفى من المعرف أو إن هذا التعريف معلوم قبل المعرف، قائلا : إن هذا التعريف مستلزم للدور، وكل تعريف هذا شأنه باطل، والنتيجة: إن هذا التعريف باطل وهنا يسلم صاحب التعريف بأن في تعريفه دورا، ولكنه لا يسلم أنه الدور المحال؛ ولذا يوجه منعه إلى المقدمة الكبرى قائلا: لا نسلم المقدمة الكبرى؛ لم لا يجوز أن يكون دورا معيّا، وتوضيح الاعتراض أولا: إن (المستدل) رأى في التعريف دورا؛ لأن قول صاحب التعريف (غير شاذ) يدل على أن (أبى يأبى) من الباب الثالث؛ الذي فتحت عينه لأجل حرف الحلق؛ ومن المعلوم أن حرف الحلق (الألف) على قول بعض الصرفيين؛ أصلها ياء وقلبت ألفا لأجل تحركها وانفتاح ما قبلها، وهكذا لزم توقف كل واحد من الشيئين على الآخر وهو الدور؛ ولكن صاحب التعريف قبل بلزوم الدور؛ ولكنه منع أن يكون من الدور المحال؛ ولذا وجه منعه إلى الكلية الموجودة في (المقدمة الكبرى)؛ بأنه لا يسلم أن التعريف فيه دور باطل، إذ بعض الدور ليس بباطل وهو الدور المعي؛ فأشار إلى المنع أولا؛ ثم أتى بالسند المشهور، وهو المساوي لنقيض المقدمة الممنوعة، فالمقدمة الممنوعة هي: كل تعريف هذا شأنه باطل، ونقيضه هو: بعض التعريف الذي فيه دور ليس بباطل؛ والمساوي له هو: الدور المعي ليس بباطل، وإنما كان هذا الدور معيا؛ لأن توقف الألف على الفتحة هو مع توقف الفتحة على الألف، ولبيان ذلك نقول: أن الحرف الصامت يحتاج عند وجود نطقه إلى مصوت قصير (كالفتحة والضمة والكسرة)، مع أن هذه المصوتات محتاجة إلى الحرف الصامت وجودا وذلك يؤدي إلى الدور، ولكن هذا الدور غير محال؛ لأن توقف كل واحد منهما على الآخر معه لا قبله؛ فلا تلزم المحالات المتقدمة.
نعود بعد هذه الجولة التأصيلية الضرورية لتوضيح طرائق دفع الاعتراض بذكر أشكاله الواردة في كلام النحويين، وهي فيما أحصيناه تنحصر بالصور الآتية:
1- البداهة والاكتساب: قد يشتمل التعريف على معنى تتوقف معرفته على معرفة المعرّف فيقع الدور المؤدي عدم الوصول إلى معرفة المعنى المراد من التفسير، ولكن النحويين انتبهوا على طريقة تدفع ذلك الإعياء الناتج عن عدم الوصول إلى المراد من التعريف، وهذه الطريقة عرفت بالمعلومات البديهية التي لا تحتاج إلى تفسير وشرح، فهي غير متوقفة على المعرّف أو شيء آخر؛ لبداهتها وظهور المراد منها فينقطع الدور الممنوع، وهذا ما أجاب به المعالجون للدور الواقع في تعريف (اسم الإشارة) التي عرِّفت بأنها: ما دل على مسمى وإشارة إليه([68])، حيث اشتمل التعريف على لفظ (الإشارة) وذلك مؤد إلى الدور لتوقف فهم معناها على المعرّف وقد توقف فهمه على التعريف كما هو الأصل، فأجاب الدماميني(ت827 هـ)([69]) عن ذلك:" بأن أخذ جزء المعرف في التعريف لا يوجب الدور لجواز معرفة ذلك الجزء بالضرورة"([70])، ونفهم من كلامه أن المعرِّف لاسم الإشارة لم يأخذ المعرَّف كله في التعريف أعني (اسم الإشارة) وإنما أخذ جزء التعريف وهي لفظة (إشارة) وهذا أمر بالغ الأهمية؛ لأن المصطلح المحتاج إلى تفسير هو (اسم الإشارة) دون (الإشارة) وحدها، إذ الإشارة وحدها لا تحتاج لتفسير وتوضيح لكونها معلومة بالبداهة والضرورة؛ إذ كل من تكلم العربية يدرك معنى الإشارة ومشتقاتها لعدم انسباكها في هيئة مصطلح علمي خاص، ومن ثم يكون ورودها في التعريف مفيدا جدا لكونها معلومة بديهية، وتفسير النظري بالبديهي هو غاية المعرِّف المبتغي التوضيح والتحديد الدالين.
2- اللغوي والاصطلاحي: انتبه النحويون إلى أن اشتمال التعريف على المعرَّف لا يقتضي بالضرورة أن تكون دلالته الاصطلاحية هي المرادة، بل جوّزوا إرادة المعنى اللغوي ، والفرق بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي كالفرق بين(زيد) علَما على شخص ومصدرا، فعند إرادة العلَمية يكون المعنى المعجمي الذي هو الزيادة والنمو مذهولا عنه بخلاف إرادة المعنى المصدري الدال على ذلك بحكم وضعه، فالمعنى اللغوي هو ما وضعه له واضع لغة العرب وحدده بمفهوم شاع استعماله على الصعيد الاجتماعي للغة، بخلاف المعنى الاصطلاحي الذي هو: اتفاق طائفة مخصوصة على نقل لفظ ذي دلالة لغوية من محيطه الاجتماعي ليكون دالا على معنى جديد في حقل معرفي خاص([71])، والمحتاج للتفسير والتحديد والكشف عن ماهيته ومراد تلك الطائفة من وضعه هو المعنى الاصطلاحي بخلاف المعنى اللغوي المحتاج في أعلى درجات غموضه نتيجة الجهل بالوضع اللغوي إلى تفسير لفظي دون بيان مكوناته ومسائله العلمية الخاصة، ومن هذا الفرق بين المعنيين أفاد النحويون في معالجة المصطلحات التي يظن لأول وهلة وقوعها في شائبة الدور، كما مثلنا له فيما تقدم بمصطلح (الفعل المتعدي) الذي عرِّف بأنه: الذي يتعدى إلى المفعول به بنفسه، فيعتقد لاشتماله على لفظ (التعدية) أنه دور، ولذا أجابوا عن ذلك ببيان المغايرة بين التعديتين الواردة في التعريف والمعرف، فالتعدية في التعريف لغوية بمعنى المجاوزة، بخلاف التعدية الواردة في المعرَّف التي هي معنى اصطلاحي لا يدركه إلا الدارسون للنحو العربي ومسائله وقضاياه وتراكيب الجملة وأنواعها فيه.
ولكن ليس كل لفظ ورد بذاته في المعرف والتعريف يحمل على هذا التوجيه للتخلص من الدور الممنوع، وإنما يذكر هذا عند قبول الموضوع له وعدم تناقضه مع الأفكار الأخرى، ومن ثم لم يجد النحويون قبولا لتوجيه الدور الواقع في تعريف(الفعل) بأنه: القابل لتاء الفاعل، ولما عرّفوا (الفاعل) قالوا بأنه: الاسم الذي اسند إليه فعل، فيكون هذا الكلام بظاهره مستلزما للدور، فلم يقولوا في تعريف (الفعل) بأنه الذي يقبل تاء الفاعل، أن المراد بـ(الفاعل) الوارد في التعريف المعنى اللغوي للفاعل الذي هو: من أوجد الفعل؛ لأن تفسير الفاعل حينئذ بهذا المعنى اللغوي يؤدي إلى خروج تاء الفاعل في مثل: متّ؛ لأن الفاعل لم يوجد الموت وإنما وقع عليه، وخروج تاء الفاعل في مثل: ما ضربت([72])؛ لأن الفعل منفي وقوعه من قبل الفاعل، ومن ثم لجأوا إلى تفسير آخر للفاعل الوارد في التعريف للتخلص من الدور، بدلا من اللجوء إلى التفرقة الواقعة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.
3- المعنوي والاصطلاحي: كما انتبه النحويون إلى فرق آخر بين الدلالة المعنوية للفظ والدلالة الاصطلاحية له، وهكذا فرّقوا بين الدلالة اللغوية والدلالة المعنوية والدلالة الاصطلاحية، فالأولى ما وضعه واضع لغة العرب وخصه بمعناه الذي يفهم منه عند العلم بالوضع، في حين أن الدلالة المعنوية هي دلالة اصطلاحية عامة لا تخوض بالتفاصيل الجزئية، وهذا سر اختلافها عن الدلالة الاصطلاحية التي هي دلالة تفصيلية أكثر تحديدا وتخصيصا، ولفهم هذا التنويع نورد المعاني الثلاثة للفظ (الفاعل) فدلالته اللغوية هي: من أوجد الفعل، وبهذه الدلالة يكون شاملا لنحو: ما أحبَّ زيدا لعمرو، فعمرو هنا فاعل فعل التعجب ولكنه غير شامل لنحو: مت؛ لأن الشخص لم يوجد الموت لذاته، أما الدلالة المعنوية للفظ الفاعل فقد عرفوه بأنه: الاسم الذي أسند إليه فعل على جهة القيام به أو الوقوع منه ثبوتا أو نفيا، وهي دلالة اصطلاحية أيضا لكنها عامة، لأنها وان لم تشتمل على نحو: ما أحبَّ زيدا لعمرو، إلا أنها لن يخرج عنها نحو: متّ أو: ما ضربت من الأفعال المنفية، ولكنها عامة لشمولها نحو: تاء (كنت) عند الاستدلال على فعلية (كان) فهذه التاء ينطبق عليها التعريف المذكور، فتأتي الدلالة الاصطلاحية الدقيقة لإخراج (تاء كنت) عن الفاعلية وإلحاقها بالمنسوخات عن الابتداء، ومن هذا يظهر أنه عند الاستدلال على فعلية (كان) نقول: إنها قبلت تاء الفاعل ولكن بالدلالة الاصطلاحية العامة للفاعل، وعند الاستدلال على عدم كون التاء المذكور فاعلا اصطلاحيا نورد الدلالة الاصطلاحية الخاصة للفاعل([73]).
ونتيجة لهذه التفرقة بين الدلالة المعنوية والاصطلاحية أجاب النحويون عن الدور المتوهم في تعريف (الفعل) بأنه القابل لتاء الفاعل، حيث ذكروا أن المراد بـ(الفاعل) هنا الدلالة المعنوية له وليست الاصطلاحية؛ حتى لا يلزم الدور عند أخذ(الفعل) في تعريف الفاعل الاصطلاحي([74]).
4- الجزء والكل: انتبه النحويون في طرائق دفع الدور على الفرق الكبير بين دلالة اللفظ الاصطلاحية باعتبار تركبه ودلالة اللفظ اللغوية باعتبار أجزائه، فاللفظ باعتبار تركبه له معنى كلي، حاصل الدلالة الاصطلاحية (أصول الفقه) باعتبار تركبها العلَمي تدل على العِلم المعني باستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وحاصل الدلالة اللغوية للفظ باعتبار أجزائه تدل على أسس الفهم؛ لان الأصول بمعنى الأسس والفقه لغة بمعنى الفهم، ونتيجة لهذا الفرق بين الدلالتين أجابوا عن الدور المتوهم في تعريف (اسم الإشارة) المعرَّف بانه: ما دل على مسمى وإشارة إليه، فبينوا أن الإشارة الواردة في المصطلح لو نظرنا إليها باعتبار أنها جزء لغوي لاسم الإشارة لزم الدور، أما لو نظرنا إلى (اسم الإشارة) ككل مترابط بدلالته الجديدة لم يلزم الدور؛ لأن الوارد في التعريف هو جزء المصطلح وليس المصطلح نفسه، وبعبارة أخرى: إن (الإشارة) الواردة في المعرف غير مراد دلالتها الافرادية الجزئية وإنما المراد الدلالة التركيبية الكلية لاسم الإشارة، أي المعنى العلَمي للمصطلح وليس المعنى الإضافي اللغوي، فلا دور حينئذ([75]).
5- اختلاف جهة التوقف: فقد أشار النحويون إلى أسلوب آخر من أساليب دفع الدور، حيث ينفون وقوعه في التعريف ببيان أن أحدهما متوقف على الآخر، أما الطرف الآخر فغير متوقف عليه؛ إذ مشكلة الدور تتوضح من خلال الافتراضية الآتية: نتصور أن (أ) مجهول تتوقف معرفته على معرفة(ب) فإذا كانت (ب) بأجزائها تتوقف على (أ) لزم الدور؛ لأنه يؤدي إلى تفسير الشيء بالمجهول المطلوب معرفته، ولذا حاول النحويون في حل بعض الإشكاليات المستلزمة الدور ببيان أن جهة التوقف مختلفة، بمعنى أن (أ) تتوقف معرفته من حيثية ما على (ب) و(ب) تتوقف معرفته على (أ) لكن من حيثية أخرى، وذلك ليس دورا؛ لأن جهة التوقف قد اختلفت، ولنمثل لذلك بالصراع الذي دار بين الكوفيين والبصريين في أصل المشتقات: أهو المصدر أم الفعل؟ اذ قال البصريون: إن المصدر أصل للمشتقات في الوجود والفعل أصل للمشتقات في الإعلال، ومن ثم لا تنافي في الحكم بالأصلية لكل منهما لاختلاف جهة الأصالة([76]).
نعود بعد هذا البيان التوضيحي للتوقف على الدور المتوهم حصوله في تحديد الصفة المشبهة في قول ابن مالك([77]):
صفة استحسن جر فاعل معنى بها المشبهة اسم الفاعل
إذ عاب بعضهم هذا التعريف بأن استحسان الإضافة إلى الفاعل لا يصلح تعريفا ولا تمييزا عما عداها؛ لأن العلم بالاستحسان المذكور موقوف على العلم بكونها صفة مشبهة([78])، بمعنى أن استحسان الإضافة للفاعل حكم من أحكام الصفة المشبهة، والحكم على الشيء فرع تصوره، فلو جعل الحكم تعريفا لزم العلم بالصفة المشبهة قبل الحكم، والحال أنها متوقفة عليه لجعله تعريفا وتحديدا لها؛ إذ الطالب لا يعرف أن هذه المفردة تجوز إضافتها إلى الفاعل إلا بعد معرفة كونها من الصفات المشبهة حتى يجعلها مضافة لفاعلها، فتوقف كل من الطرفين على الآخر وذلك الدور، ولكن حصول هذا الدور ممنوع؛ لأن العلم باستحسان إضافة الصفة المشبهة لفاعلها ليس موقوفا على العلم بكون المفردة من الصفات المشبهة، وإنما موقوف على المعنى الذي تدل عليه المفردة، فإذا أدرك الطالب معنى المفردة الثابت لفاعلها بحيث لو حول الإسناد عنه لم يقبح ولم يلبس، فيستحسن حينئذ الجر وان لم يعلم بأنها تسمى بذلك حكم بقبولها جواز الإضافة لفاعلها، هذا ما أجاب به الصبان وتابعه عليه الخضري عند تعليقهما على عبارتي الاشموني وابن عقيل على الترتيب([79])، وهذا الجواب فيما أعتقد ضعيف؛ لأن توقف الاستحسان على الصفة المشبهة واقع بسبب أن الحكم على الشيء فرع تصوره، بل العلم بكونها تسمى بذلك أو لا تسمى به ليس نقطة الخلاف كما أجابوا، وإنما العلم بحقيقة الصفة المشبهة دون النظر في تسميتها، والاستحسان المذكور متوقف على معرفة حقيقتها دون تسميتها، ولذا أرجح أن تعاريف النحويين بالأحكام النحوية والعلامات والشروط... الخ كلها مشتملة على الدور لأنها فرع تصور الشيء، والجواب عن كل تلك الإشكاليات بالقول: إن الحكم يكفي فيه التصور بوجه ما ولو بالاسم، فقول المنطقيين: الحكم على الشيء فرع تصوره أي ليس التصور التام الكامل بل يكفي أن نتصوره تصورا بسيطا فعندما نقول: الصفة المشبهة هي التي يستحسن إضافتها إلى الفاعل يكون توقف الاستحسان على الصفة حاصلا لو أريد التصور التام الكامل، أما التصور الجزئي لها فذلك كاف في الحكم عليها؛ إذ الطالب عندما يقرأ هذا التعريف للصفة المشبهة في كتب النحويين يكون قد اطلع على الصفة المشبهة من حيث اشتقاقها الصرفي ودلالتها الصرفية قبل ذلك، فمتى يقرأ حكمها الاستحساني المذكور يدرك ذلك ولا يتوقف على فهم الصفة المشبهة أصلا؛ لأن النحويين لا يقصدون بعنونة (اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة والمصدر) ما يتعلق بالصيغة ومعناها، وإنما المقصود تراكيبها وأحكامها عندما تؤلف في نسق الجمل، وما تعرضهم لسرد معنى الصيغة إلا استطرادا واستكمالا للحكم، فعندما يقولون باب المصدر وباب اسم الفاعل... يكون القصد: تراكيب المصدر واسم الفاعل... والاستحسان المذكور غير متوقف على معرفة تراكيب الصفة المشبهة لأنه تركيب منها، وإنما يتوقف على معنى الصيغة الاشتقاقية ودلالتها فلا دور حينئذ.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]